غرب العراق: صراع القوى الكبرى على الطرق الجديدة في الشرق الأوسط - الجزء الثاني

[المصدر: موقع رؤيا الإخباري] [المصدر: موقع رؤيا الإخباري]

غرب العراق: صراع القوى الكبرى على الطرق الجديدة في الشرق الأوسط - الجزء الثاني

By : Safaa Khalaf صفاء خلف

الخارطة الاقتصادية للطريق الدولي 

يقع الطريق الدولي الاستراتيجي غرب العراق، ويبلغ طوله 1200 كم، وينطلق من أقصى جنوب العراق حيث ميناء أم قصر الاستراتيجي، ماراً بنحو أربع محافظات وتسع مدن، ويقطع أراضي محافظة الأنبار الصحراوية الشاسعة، ويصل إلى بغداد عبر طريق الفلوجة – عامرية الفلوجة – أبو غريب (22 كلم) فيما يتصل بالطريق الدولي الاستراتيجي الجنوبي الواصل إلى الموانئ البحرية في البصرة، عند عقدة مواصلات (جنوب غرب العاصمة بغداد – شمال غرب محافظة بابل)، ويُعرف بـ"طريق المرور الدولي السريع رقم 1" وهو جزء من شبكة (طرق المشرق العربي الدولية) ويتصل بالطرق الإقليمية (M5) و(M30) و(M40). فيما يتصل ببغداد عبر جنوب شرق الفلوجة وما بات يعرف بعد العام 2015 بـ"سيطرة الصقور" وهي نقطة تفتيش جمركية واستخبارية تفصل الأنبار عن بغداد. ويتفرع من الطريق الدولي، الطريق المؤدي إلى معبر عرعر الحدودي مع السعودية.

يؤمن الطريق الدولي السريع، وفقاً لمعطيات البنك الدولي الذي يمول جزءاً من إعادة تأهيل الطريق الذي شُيد قبل نحو 30 عاماً، ما بين (15 ألفاً) و(30 ألفاً) من المعدل السنوي للحركة المرورية التجارية اليومية، والتي تشكل ما نسبته 40% منها من الحركة البرية التجارية في عموم العراق. البنك الدولي يمول تأهيل وإصلاح 33 طريقاً في العراق.

تسعى الولايات المتحدة الاميركية لاستثمار الطريق عبر تجزئته وفقاً للأهمية الاقتصادية، لكنها تحرص أن يكون الخط الأساس الذي يصل الطريق بالعاصمة بغداد تحت سيطرتها بالكامل عبر الشركة المنفذة وبـ"شراكة حماية إطار عام" من قبل الأجهزة الرسمية العراقية (الجيش العراقي) و(قوات وزارة الداخلية الموثوقة حصراً) بعيداً عن قوات "الحشد الشعبي" المدعومة من إيران والتي تعارض استثمار الطريق أميركياً وتطرح مشروعاً موازياً باستثماره عبر شركات أجنبية أو إيرانية عبر واجهات عراقية من الباطن. وتلك القوات أيضاً تنتشر في المحافظة السُنية.

وكقراءة اقتصادية للإستثمار السياسي للطريق الدولي، فإن تأمينه يعتمد أيضاً على التفاهمات الأميركية – الروسية في سورية، فالقوات العراقية باتت تسيطر على معبري (الوليد) و(القائم) وطريق (الرطبة) المؤدي إلى سورية، لكن يجب الإتفاق على التأمين الدائم لطريق بغداد - عمّان وإدامة الاستقرار في مناطق أعالي الفرات ولاسيما مثلث (راوه – عانة – حديثة) إلى بلدة القائم.

فهناك طريقان رئيسيان، من المفترض أن يؤديا دوراً حاسماً بنجاح المشروع: (الطريق 20) بين الرطبة والقائم، و(الطريق 12) بين القائم والحسكة في شمال سورية، والذي يعبر منفذ البوكمال الحدودي، ويمرّ عبر بلدات حدودية رئيسة في دير الزور.

يتمتع الطريق الدولي السريع بنحو 40 جسراً وممراً مُعلقاً، وتشير التقديرات أن ما بين 20 الى 36 جسراً قد تعرضت إلى التدمير الكلي أو الجزئي، وباتت خارج الخدمة عقب أحداث تنظيم (داعش) في المنطقة. وكخطة لتشغيل الطريق بطاقته القصوى يتطلب إعادة إعمار تلك الجسور.

تقتضي خطة الحماية المقترحة من الشركة الأميركية بمسؤوليتها عن تأمين محيط الطريق - بحسب وزارة الإسكان والإعمار - بعمق 5 كلم. ويتطلب ذلك إقامة علاقات مع المجتمع المحلي الذي يتوزع على جنبات الطريق السريع والذي تختلف ولاءاته القبلية والسياسية، لكنها بالمجمل مجتمعات قبلية سُنية، لكنها الآن تخضع لضرورات التحالف مع القوى الشيعية المسلحة ولاسيما بعد طرد تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" من المنطقة.

يُبين النائب عبدالعزيز حسن، عضو لجنة الأمن في مجلس النواب العراقي السابق (6 أيار/ مايو 2017) إن "الشركة (الأميركية) ستضع سياجاً على طول الطريق، وتوفر الحماية بعرض 10 كم على يمين ويسار الطريق (...) والشرطة والجيش سيكونان على بعد 2.5 كلم عن آخر نقطة ضمن صلاحيات الشركة الأميركية".

وينقل حسن عن قائد حرس الحدود العراقي قوله بأن "حرس الحدود لا يملك إمكانات كافية من طيران ومعدات لحماية الحدود (...) كما أن حرس الحدود لديه ثكنات عسكرية (ربايا) تقليدية في بعض المناطق على الطريق الدولي".

وتشترك قوات حرس الحدود مع قطعات الجيش العراقي، في مسؤولية حماية الطريق الرابط بيّن منفذ طريبيل والرمادي. لكن قوات "الحشد الشعبي" تتدخل وتفرض سطوتها هناك بقوة.

تطمح واشنطن إلى تحويل الطريق الدولي السريع إلى ما يشبه طريق (New Jersey Turnpike)، وثمة مباحثات موازية لإنشاء ثلاثة طرق سريعة استثمارية أخرى في العراق تديرها شركات اميركية:

1- الأول: يمتد على طول الحدود السعودية عبر كربلاء إلى بغداد.

2- الثاني: من مدينة البصرة الجنوبية إلى بغداد.

3- الثالث: من الحدود السورية إلى بغداد.

يهدف المشروع سياسياً، بأن الاستثمار سيقضي على أي تمرد محلي مستقبلاً بالتعاون مع حكومة عراقية متعاونة ومستجيبة للتحديات، فضلاً عن خلق آلاف الوظائف وتغيير نمط حياة المجتمعات المحلية هناك بالشكل الذي يعزز الثقة بالشركاء الاميركيين والحكومة المركزية في بغداد والحكومة المحلية في الأنبار، ويخلق من زعماء القبائل قوة حيوية إيجابية لدعم الإستقرار البعيد المدى الذي يتطلبه الإستثمار.

منحت الحكومة العراقية شركة (Constellis) وهي الشركة الأم لـ(Olive Group) استثمار الطريق الدولي السريع لمدة 25 عاماً بدءاً من العام 2018، وبموجب الإتفاق ستحوز بغداد على جزء من أرباح إيرادات الطريق، فيما الشركة الأميركية ستتمتع بالإدارة الكاملة وعمليات الصيانة. ولا يعرف على وجه التحديد حجم الصفقة مالياً.

تعمل شركة (Constellis) في ست محافظات عراقية بمجال الخدمات الأمنية واللوجستية والمراقبة وقياس استجابة تحسن الأمن، وحماية الشركات الأجنبية، ولاسيما الشركات النفطية. تعمل الشركة في بغداد، البصرة، النجف (تأمين الحماية لمطار النجف الدولي)، ومحافظات إقليم كردستان وأهمها أربيل.

ترحب بغداد بهذا الاستثمار وفقاً لإعلانات رئيس الحكومة لجهة أنها "لن تدفع أموالاً للإعمار والتأهيل والحماية"، سوى تقديمها وحدات عسكرية وأمنية واستخبارية تقليدية تقوم بإسناد الشركة وحمايتها من الهجمات المحتملة من قبل المجموعات المسلحة، سواء تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" أو المجموعات القبلية التي ستبتز الشركة للحصول على الوظائف والمساعدات المالية، أو هجمات الفصائل الشيعية "الحشد الشعبي" التي تنظر إلى الشركة المستثمرة كـ"عدو" يعمل لصالح جهاز الإستخبارات المركزية (CIA)، ووجه من أوجه "بقاء الإحتلال" طبقاً للتوجهات الإيرانية.

أثارت إيران عبر المنابر الإعلامية الممولة من قبلها في العراق، دعاية مضادة لعرقلة المشروع، لجهة أن الشركة المتعاقد معها هي بالأصل شركة (Blackwater)، وقدمت المجموعات النيابية ذات الصلة الوثيقة بطهران مشروعاً لاستجواب رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي في (7 اغسطس/ آب 2017) لكنه لم يتم، تضمن أن العراق تعرض لعملية خداع بتغيير اسم الشركة إلى (R2) وسجلت في دولة الإمارات العربية المتحدة وحصلت على ترخيص عمل دولي منها، وأنها باتت تحظى بغطاء سياسي من لدنها أيضاً.

عملياً، توقفت أعمال تحالف الشركات في المشروع، بعد أن قامت باستطلاع المنطقة فقط، ووضع مكاتب إدارية مؤقتة في منفذ طريبيل الدولي مع الأردن، نتيجة الضغوط السياسية والدعائية والأمنية التي مورست ضدها.

وبحسب تصريح رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب السابق، حاكم الزاملي – وهو من التيار الصدري – (الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2017)، فإن "اعتراضات سياسية وأخرى أمنية وجهات كثيرة أخرى، حالت دون تنفيذ العقد مع الشركة لتأمين طريق بغداد - عمان بطريقة الإستثمار الطويل (...) الشركة نفسها أيضاً انسحبت أخيراً، واليوم المناطق تحررت ولا حاجة لتأمين خارجي، فالقوات العراقية وأبناء الأنبار قادرون على القيام بالمهمة".

وفي آخر تحديث على الموقف، أكد حاكم بلدة الرطبة في الأنبار، عماد الدليمي (2 آيار/ مايو 2018) أن "الشركة التي تم التوصل إلى اتفاق معها من قبل الحكومة الإتحادية، لإعادة تأهيل وتأمين الطريق السريع الدولي لم تباشر بعد حتى الآن".

ويبدو أن عدم مباشرة الشركة الاميركية لاستثمارها المغري غرب الأنبار، لم يكن عزوفاً تكتيكياً لكسب الوقت واحتواء خطوات العرقلة الايرانية، إنما انسحابا صامتا.

ويكشف عضو مجلس إدارة محافظة الأنبار، صباح الكرحوت (27 حزيران/ مايو 2018)، أن حكومة الانبار طلبت رسمياً من الحكومة الإتحادية في بغداد "ضرورة سحب المشروع من الشركة الأميركية (...) والإيعاز للجهات الحكومية في الأنبار بتأهيل الطريق، طالما هو مؤمن من قبل القوات الأمنية (...) لكن لا بد من دعم حكومي لتأمين المناطق الصحراوية (...) فضلاً عن توفير أموال لأهالي الأنبار وحكومتهم المحلية ليقوموا باستثمار هذا الطريق".

ويبدو أن الصراع الإيراني – الاميركي على غرب العراق وسط حياد بغداد، بات يخضع لتكتيكات عدم الصدام المباشر، فقد ألمح حاكم قضاء الرطبة، عماد الدليمي في (5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018) أن هناك معلومات تتحدث عن إمكانية إحالة استثمار الطريق السريع الدولي مع الأردن إلى إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة.

ويبدو أن الفيتو الايراني القوي على الارض المتمثل بالجماعات الشيعية المسلحة على أي استثمار اميركي على الحدود مع سورية، دفع واشنطن إلى تدويل الملف عبر إشراك اذرع الامم المتحدة ذات العلاقة بالتنمية، كمنظمة (UNDP) بالشراكة مع البنك الدولي، عبر تخصيص أموال لصيانة الجسور على الطريق السريع الدولي الممتد من العاصمة بغداد إلى الرمادي والرطبة، وصولا إلى منفذ طريبيل الدولي مع الأردن، ما يعني استدعاء شركات صيانة وتأهيل أجنبية متخصصة تطلب غطاءاً أمنياً احترافياً لا يمكن للحكومة العراقية أن توفره، فتباشر الشركة المستثمرة بالاساس (Olive Group) تحت أي مسمى أعمالها المتوقفة.

موقف الفصائل المسلحة المدعومة من إيران

تعارض الفصائل المسلحة الشيعية المدعومة من إيران في إطار ما يسمى بـ"محور المقاومة" مشروع استثمار الطريق الدولي السريع من قبل الشركات الأميركية:

- (كتائب حزب الله): تعارض مشروع استثمار الطريق الدولي. وقالت في مواقف عدة أبرزها بيانها الرسمي في (31 آذار/ مارس 2017) إن:

"واشنطن عمدت في خطتها الجديدة إلى نشر قواتها في قواعد رئيسة ومناطق مهمة في البلاد (العراق)، لتوفر السيطرة التامة على الحدود العراقية السورية بذريعة منع الجمهورية الاسلامية (إيران) من استخدام الحدود البرية لدعم سوريا وحزب الله، ناهيك عن الهيمنة على مقدرات العراق ودعم الأطراف المحلية بهدف تمرير مشاريع التقسيم (الإقليم السُني)، وإن هذا الطريق الرابط بين العراق والأردن يعد ممراً استراتيجياً، يسمح لأميركا والقوى التي تسعى للسيطرة عليه بفرض هيمنتها على الأنبار خصوصا والإقليم السني المقرر تشكيله وفق خطة أميركية - خليجية، كما أن وجود القوات الاميركية في تلك المنطقة المهمة يأتي أيضا لضمان المصالح الاردنية". 

- (عصائب أهل الحق): اعتبرت استثمار الطريق الدولي "مخططاً امريكياً لنشر قوات أجنبية في المناطق السكنية والمدنية بزعم حماية الشركات الأميركية الاستثمارية"، وفقاً لبيان ناطقها العسكري جواد الطليباوي في (30 آذار/ مارس 2017):

"الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب تعمل على سيناريو جديد لنشر قوات أمريكية في المناطق المدنية بحجة حماية الشركات الإستثمارية (...) إن تلك الشركات تمارس عمليات تجسس لصالح الإستخبارات الأميركية (...) لذا تقتضي الضرورة الاستعانة بشركات بديلة من روسيا وأوروبا".

- زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي تشدد في رفضه للمشروع في خطبة بمحافظة بابل (نيسان/ أبريل 2017): "عندما تسلم الحكومة العراقية الطريق (...) لشركة أمنية أمريكية لتأمينه، فإن هذا الأمر يجب ألا يمر مرور الكرام، وعلينا الوقوف أمامه (...) العراق لديه جيش استرد عافيته وتعداده 300 ألف جندي، ووزارة داخلية تعدادها 600 ألف منتسب، وحشدان شعبي وعشائري. هل يحتاج إلى التعاقد مع شركة أمنية أمريكية؟". 

-  منظمة بدر: تعارض أيضاً المشروع، ووفقاً لمعين الكاظمي وهو قيادي كبير في المنظمة، وقيادي أيضاً في "الحشد الشعبي" فإن منظمته "تعارض هذا الطريق لأنه سيعطي ذريعة للأمريكيين للحفاظ على وجودهم العسكري (...) والحشد الشعبي بات يسيطر على ذات الطرق (غرب العراق) التي سيطر عليها داعش لتبادل الإمدادات والقوات بين سوريا والعراق (...) وبما أننا نسيطر على هذا الطريق، يمكننا التأكد من استخدامه في التبادل التجاري، وسيعيد العلاقات مع سوريا وجنوب لبنان". 

- وزير إعلام النظام السوري رامز الترجمان في مقابلة تلفزيونية: "الهدف هو الربط الجغرافي بين سوريا والعراق ومحور المقاومة". 

الخطة الايرانية لتطويق الطريق الدولي

تنتشر "قوات الحشد الشعبي" بما فيها الفصائل الموالية لايران في مناطق عدة من محافظة الانبار، ولاسيما بمناطق (شمال غرب – وجنوب شرق – وجنوب غرب) مثل كماشة نشطة لتطويق أي اختراق أميركي غير مرغوب فيه بالمنطقة، خصوصا مع تواجد أميركي في (قاعدة عين الأسد) وبحيرة (الحبّانية) وسط ترحيب المجتمع المحلي الذي يرى بالتواجد الاميركي دعامة استقرار المنطقة وتنشيط الإقتصاد فيها.

وبُعيّد الاعلان الحكومي عن توقيع العقد مع المجموعة الأميركية، استنفرت قوات "الحشد الشعبي" مقاتليها في المنطقة. وبحسب مجلس محافظة الأنبار فإن فريقاً استطلاعياً من الشركة زار المنطقة المستهدفة بضمنها (منفذ طريبيل الحدودي) انطلاقاً من قاعدة (عين الأسد) في (آذار/ مارس 2017)، وفي زيارة نادرة أخرى في آب/ أغسطس من العام ذاته، بعدها لم يبق للشركة من أثرٍ يدل على تواجدها.

خلال أيار/ مايو 2017، شهد الطريق الدولي السريع (غربي الأنبار) ولاسيما الطريق النازل من بلدة القائم الحدودية مع سورية، والطريق الآخر الموازي النازل من بلدة الرطبة حتى منفذ طريبيل، تصاعداً غير مسبوق وغريب التوقيت في أعمال العنف، بعد الإعلان عن توقيع عقد الاستثمار مع الشركة الأميركية.

أسفرت احدى تلك الهجمات – اُتهم تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" بشنها – عن مقتل وخطف 20 جندياً من فرقة المشاة الأولى التابعة للجيش العراقي، المسؤولة عن تأمين محور غرب الأنبار. ويعتقد الأمنيون أن الثغرة غير المؤمّنة تمتد لنحو 400 كلم دون انتشار أو غطاء جوي.

يعتقد المسؤولون المحليون في الانبار، أن "جهات لا تريد إعادة فتح الحدود هي من تقف وراء زعزعة الأمن في المنطقة، ولم تستبعد وجود تنافس للحصول على عقد الشركة التي ستستعين بعناصر وجهات عراقية".

عقب تلك الهجمات، والتي بدت وكأنها رسالة دامية إلى رئيس الحكومة حيدر العبادي للتراجع عن خطة الاستثمار. تراجع العبادي فعلاً وأعلن في مؤتمر صحفي أن "القوات الأمنية تحمي الطريق البري الدولي إلى عمان ومنفذ طريبيل بالكامل". ومن حينها لم تعلن الحكومة أية بيانات أو تعليقات بشأن المشروع والشركة.

وقُبيّل إعادة تشغيل (منفذ طريبيل) الحدودي مع الأردن، أعلن "الحشد الشعبي" في (14 اغسطس/ آب 2017) عن البدء بإنشاء سد ترابي بطول 300 كلم، لتأمين الطريق الدولي، ليكون "الحد الفاصل بين مدن أعالي الفرات والفرات الأوسط وجنوب الفرات وحتى العاصمة بغداد (...) لتأمين الطريق الدولي بين بغداد ودمشق وعمّان المار بمدينة بالرمادي والمنتهي بمنفذي طريبيل والوليد الحدوديين".

الحاجز الترابي، هو سياج أمني لعزل منطقة حوض الطريق الدولي وتحقيق السيطرة الكاملة عليه بالشكل الذي يُعقد مهمة أي محاولة مستقبلية للحكومة باستقدام شركات جديدة، فيما المسعى الحقيقي أن يفرض "الحشد الشعبي" واقع ابتزاز على الحكومة العراقية بعدم السماح سوى للشركات التي تتناغم مع المصالح الايرانية.

ووفقاً لمركز أبحاث اميركي، فإن "مشروع (Olive Group) بحدّ ذاته قد يؤدي إلى إقامة منطقة عازلة سنية، تخفف الهواجس الأردنية والسعودية، من احتمال انتشار (الحشد الشعبي) على حدودهما". لكن العكس هو ما يحصل على الأرض.

وفي أكثر من مناسبة، أعلن "الحشد الشعبي" أنه ينوي الدخول إلى الأراضي السورية لمساندة قوات نظام الأسد، وعملياً هي تتحرك على طول الحدود، وحققت ربطاً مع القوات السورية بنقاط عدة على الحدود من خلال معبري الوليد والقائم. فحققت لقاءً استراتيجياً في (يونيو/ حزيران 2017) مع قوات النظام السوري في قرية (أم جريص) قرب القائم، وبالنهاية تمركزت بمنطقة البوكمال السورية.

انتشار "الحشد الشعبي" في الانبار وغرب الموصل على طول الحدود مع سورية والمثلث (العراقي – السوري – الاردني) أشبه بوضع اليد الايرانية على المنطقة بكاملها. وحين خلُصَت المباحثات العراقية – الاردنية إلى ضرورة فتح معبر (طريبيل – الكرامة) مجددا أمام الحركة التجارية في (30 آب/ أغسطس 2017) اشترطت عمّان أن يُفتح المعبر بضمانات أميركية، وتلك الضمانات تمثلت بأن تنشر واشنطن عديداً من قواتها في أقصى غرب الانبار.

وعقب زيارة رئيس الحكومة حيدر العبادي إلى واشنطن ولقاء الرئيس دونالد ترامب في (20 آذار/ مارس 2017)، سُرّبت معلومات من الدائرة الحزبية للعبادي (حزب الدعوة) أن التفاهمات الأميركية – العراقية تطرقت إلى إمكانية إقامة خمس قواعد أميركية مع زيادة عدد القوات ليصل إلى 40 الف جندي ومستشار ومتعاقد اميركي.

وبيّن نائب عن كتلة الدعوة النيابية في تصريح – دون الكشف عن اسمه – في (5 نيسان/ أبريل 2017) أن "بقاء أية قوة أميركية على الأراضي العراقية بحاجة إلى موافقات الحكومة والبرلمان (...) وأعداد هذه القوات ستحددها الإتفاقية الاستراتيجية الموقعة بين بغداد وواشنطن".

القوى السياسية الكردية والسُنية وطيف من القوى الشيعية تؤيد إقامة تلك القواعد، لكن الذهاب إلى هكذا خطوة قد يُفجر الاوضاع السياسية في البلاد، ولاسيما مع وصول كتلة نيابية ممثلة لـ"الحشد الشعبي" إلى مجلس النواب هي (قائمة الفتح) في الانتخابات النيابية التي أجريت في 12 أيار/ مايو 2018، وتشاطرها في الرؤية كتلة (سائرون) التابعة لمقتدى الصدر.

[لقراءة الجزء الاول، اظغط/ي هنا

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬