عن سينما لا تثق في السينما

[المخرج الإسباني فيكتور اريثي] [المخرج الإسباني فيكتور اريثي]

عن سينما لا تثق في السينما

By : Basel Ramsis باسل رمسيس

الجزء الأول

كل القصص قد حكيت

في بداية حقبة الألفين، وخلال دراستي للسينما في مدريد، كان لنا زميل يدرس الإنتاج السينمائي في أهم معهد من معاهد السينما بإسبانيا، كان يسبقنا بأعوام، ولأسباب متعلقة بعائلته وأبيه السياسي الشهير، كنا نعلم أن مساره في العمل الاحترافي سوف يكون ممهدا بدرجة كبيرة. لكنه اعتاد أن يكرر أمامنا، وبكل ثقة، رأيه بأن كل الأفلام والقصص قد صنعت وحكيت من قبل. كنا نندهش من أن يكون هذا التصور هو قناعة شاب سينمائي من المفترض أن يعيش في هذه الفترة من حياته، بحكم الدراسة والمرحلة العمرية، حالة من حالات الإثارة والشغف تجاه الطريق الذي اختاره. وهو ما يتعارض بالضرورة مع هذا الإحساس بالرتابة والملل الذين يولدان تلقائيا إن كان لديك قناعة بأن كل ما تود حكيه قد حكي بالفعل.

أعتقد أن هذا التصور "العدمي" بدرجة ما، هو ما جعله يختفي تماما بعد سنوات قليلة. لنكتشف لاحقا أنه قطع علاقاته بالوسط السينمائي، إلتحق بالمدرسة الديبلوماسية، وتم تعيينه في إحدى السفارات. ودهشتنا تجاه ما كان يردده من قبل تحولت لدعابات تطال صديقنا المحبب في غيابه.. "أفلست السينما، كل الحكايات قد حكيت، لكن في السلك الديبلوماسي والبروتوكول، حيث كل ما يحدث هو نفس ما يحدث منذ قرون، هناك رغي جديد لم يتم استهلاكه بعد".

أشار بعض الحاضرون لحفل توزيع واحدة من الجوائز الفنية في مصر مؤخرا، أن سينمائياً مصرياً هاماً ومعروفاً، كان من ضمن لجنة تحكيم جائزة السيناريو، قام أثناء منح الجوائز بـ “بستفة" من فاز ومن لم يفز، مشيرا إلى أن أغلب السيناريوهات المقدمة لا تقترب من الواقع المحيط، بل هي إعادة إنتاج لنفس أفكار المسلسلات التلفزيونية القديمة.

هذه الإشارة من سينمائي لديه خبرة وتاريخ، لا يمكننا أن نتوقف عندها بنفس الكلام القديم المتكرر بأن مشكلة السينما المصرية هي أساسا أزمة أفكار وندرة السيناريوهات الجيدة. فهذا التبرير القديم يغفل جوانب وأسباباً كثيرة لانهيار السينما المصرية. وأغلب هذه الأسباب ليست بيد السينمائيين المصريين، بل بيد السلطة وواضعي السياسات الثقافية، وبعض منها هو نتيجة طبيعية لعدد من العوامل المجتمعية والثقافية. ناهيك عن أن هذا التبرير السطحي والبسيط، أن المشكلة في الورق، كان يتم استخدامه سابقا لتجنب الدخول فيما هو سياسي ومتعلق بأزمة تخص كل ما هو ثقافي أو فني في بلدنا. وهذه الإشارة من هذا السينمائي، والتي أعتقد أنها صحيحة غالبا، لا يمكن كذلك أن ٌتحل بتفسيرات من نوعية أن التلفزيون وسوق المسلسلات لهما سطوة علي السينمائيين بحكم أكل العيش. وبالذات مع انتشار كثير من شبكات عرض المسلسلات في بيوت كثيرين، مثل "نت فليكس"، "إتش بي أو"، وغيرهما، وهي شبكات جعلتنا نتابع مسلسلات غير مصرية كثير منها على درجة عالية من الجودة، وقد تطورت خلال العقد الأخير لتقترب من أدوات السينما في الحكي. فلا يمكننا هنا أن نطرح سؤالا معاكسا للمنطق.. كيف يتطور المسلسل التلفزيوني باتجاه السينما، وتتراجع السينما تجاه التلفزيون، لتكون أقل تطورا منه؟

إن أردنا أن نقترب قليلا من أزمة المسار السينمائي المصري، وشكله الحالي، وكيف تم ترسيخه، فإن تعليق المخرج المصري عضو لجنة تحكيم الجائزة، سيجعلنا نسأل سؤالا إضافيا بعيداً عن "بستفة" كتاب السيناريو.. وليكن، اقتربت السيناريوهات من الواقع، ونظر الكتاب حولهم وتفاعلوا مع مايرونه، ماهي النتيجة؟ هل سترى أفلامهم النور وتصل لجمهورها؟ وهو سؤال سنؤجل قليلا الاشتباك معه. لكن قضية الواقع المعاش والمنتج الفني والعلاقة بينهما تحيلنا إلي سينمائي آخر، من أهم مخرجي السينما المعاصرين وأقلهم شهرة، وهو الإسباني "فيكتور إيريثي".

يشير "فيكتور إيريثي" في عدد من الحوارات والمحاضرات التي ألقاها خلال التسعينات وبدايات حقبة الألفين إلي أن السينما في تصوره قد تحولت إلي عجوز مراهق أو متصابي، بدأ في فقدان عقله، الذي للمفارقة تطور سريعا. فالسينما عاشت خلال عقود قليلة، وبسبب الثورة التكنولوجية بإيقاعها شديد السرعة، رحلة تطور وحرق للمراحل عاشتها الفنون الأخرى خلال قرون طويلة. وأن العقود الأخيرة تحديدا تشهد على المستوي السينمائي مرحلة من مراحل التراجع أو الاضمحلال كفن. ودون أن ينكر إيريثي أن في مراحل التدهور، أو التراجع، أو الانهيار، تظهر أعمال فنية عظيمة، إلا أن السائد يكون عادة ما تم إنتاجه واستهلاكه عدة مرات من قبل. ويدلل على تصوره هذا، والذي يوسعه ليشمل السينما في العالم كله، وليس فقط السينما الإسبانية، بانتشار موضة "الريماكس"/إعادة إنتاج أفلام قديمة، أو انتشار المداعبات، أو لنقل "الغمزات"، التي يوجهها مخرجون من داخل أفلامهم تجاه أفلام أخرى سابقة، أو تجاه سينمائيين سابقين، أو الإحالة المباشرة إلى ما أصبح كلاسيكيا في تاريخ السينما العالمية. بينما يظل الواقع الحقيقي هناك في الخارج، مفتقدا لمحاولات السينمائيين اكتشافه وتعلم النظر إليه وكأنهم يرونه للمرة الأولى، ليكتشفوا في كل يوم جديد ما لم يكتشفوه من قبل.

في كتابه الشيق "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة"، يضيف محمد شعير عدداً من الملاحق في نهاية الكتاب، من ضمنها مقال مدهش كتبهم نجيب محفوظ ١٩٦٤ في مجلة الكاتب، بعنوان "اتجاهي الجديد ومستقبل الرواية". في هذا المقال يشير إلى نفس هذا المطب، يشير إلى موضة تكرار مقولة أن كل الموضوعات قد حكيت، وبالتالي ليس أمام الروائي سوي الإبداع في الشكل، وليس في الحدوتة. ويرصد حالة من حالات الإغراق في التفاصيل الشكلانية لدرجة تبعث علي الملل. نجيب محفوظ يشير هنا إلى واحدة من علامات الوعكات الصحية التي تصيب الفنون من حين لآخر في علاقتها بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ويتحدث عن الشكل بمعنين مختلفين، من ناحية: ما تراه أمامك أنت كفنان، فتقوم بوصفه وفقط لمجرد التأمل والوصف، أو أن ما تصفه شكليا يتحول لمكون من مكونات حكيك لقصة، بحيث تتجاوزه لما هو أعمق. لكنه أيضا يشير إلي الشكل بمعناه الآخر، بمعني "الفورم"، البناء، التكنيك.. اللذين يستخدمهما الفنان في عمله.

وفي لغة تبدو ساخرة، يشير نجيب محفوظ إلي أن هذا الاهتمام الشكلاني، والذي يسمونه بالمدرسة الشيئية، هو بسبب افتقاد الكتاب للموضوعات التي تثير اهتمامهم فعلا، أو يودون العمل عليها. ويربطه أيضا بهذا الاتهام الموجه للرواية بأنها فن قد انتهي لأنها طرقت كل الموضوعات، أي أن كل القصص قد حكيت.

نجيب محفوظ بالطبع، وبحكم تركيبته وثقافته وموهبته الفذة، على ثقة تامة بوسيطه، وعلى ثقة أن هذا الوسيط، الذي هو الأدب، لم يمت. ويدلل على ذلك بأنه وإن كانت كل الموضوعات الكبرى قد حكيت، وهو ما يمكن أن يكون صحيحا، لكن الفنان لم يمت ولم يمت المتلقي، والزمن يتغير طيلة الوقت، وبالتالي فلديك دائما قارئ ينتظر القصة الجديدة. وعلى جانب آخر فإنك لو نظرت من الطائرة إلى الأرض فسترى أشخاصاً هم عبارة عن نسخ من بعضهم البعض، ولا يوجد ما يميزهم. لكنك إن اقتربت أكثر فستجد أن لكل منهم سمات ومميزات شخصية تختلف تماما عن الآخرين. وهذه السمات الخاصة والمختلفة تتضح كلما ازدادت درجة قربك. وإن نظرت إلى صفحة الحوادث وقرأتها فستجد أن في كل حارة هناك "عطيل”. لكن التناول الفني والمشاعري الخاص بكل فنان علي حدة، والمتغير عبر الزمن، ينفي فكرة أن كل ما يمكن أن يحكى قد تم حكيه. بكلمات أخرى، وبفهم لما يقوله نجيب محفوظ، ربما نستطيع إضافة أن كل عطيل تراه في الحارة، هو عطيل مختلف، وليس بالضرورة نسخة من عطيل الأصلي الشكسبيري.

 [الروائي والكاتب المصري نجيب محفوظ]

الإستشهاد بنجيب محفوظ والإشارة إلى مقاله هنا يأتيان للتدليل على أن هذه الحجة التي تشير إلى انتهاء الحدوتة وإلى أن المتاح حاليا هو فقط بعض الألعاب الشكلانية، ليست جديدة. بل تظهر من حين لآخر لأسباب مجتمعية وثقافية متنوعة. والسينما في العالم كله قد واجهت هذا التحدي في مراحل مختلفة سابقة. وإذا عدنا إلي كلام فيكتور إيريثي المشار إليه سابقا، حول أن السينما تعيش زمن انحدارها أو تراجعها، سنفهم لماذا توجد تيارات "سينمائية" تسمي نفسها "أنتي سينما"/“ضد السينما”. وهي مجموعات من السينمائيين المهمشين الذين يعادون الوسيط السينمائي نفسه، يعادون أدواته في الحكي، ويحولونها إلى لعبة ضد الحكي، وصولا لإنتاج شعور بالنفور لدى المتلقي. والأفكار العدمية هي ما تجعلك تفهم درجة التطرف في أن يضع سينمائي كاميرته ساعات متواصلة ليراقب شخصية جالسة إلى مائدة لا تفعل أي شيء سوى أن تأكل، وتتقيأ ما تأكله. هذا المثال تحديدا من خارج السينما المصرية، لن أشير إلى اسمه كي لا أشارك بأي شكل في زيادة عدد مشاهديه. وكونه من خارج السينما المصرية لا يعني أن هذه التعبيرات السينمائية بعيدة عن بعض أفلامنا المصرية أو العربية، لكنني في هذه المقالات الأربعة لن أشير إلى أي فيلم مصري بالاسم، لسببين محددين، أولا: أن كل تعبيرات السينما وظواهرها على المستوى العالمي نستطيع أن نجد صداها لدينا، فربما يكون فن السينما هو الفن العالمي بامتياز، وصاحب اللغة التي تتجاوز اللغات الوطنية، وأي سينما محلية لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن تطورات الفن في العالم كله. وذلك دون استخدام تعبير "العولمة" المشبوه. ثانيا: الإشارة لأي فيلم مصري، سواء بالسلب أو بالإيجاب، سيكون تأثيره في تقديري هو تحويل المناقشة من أن تكون مناقشة ظاهرة مجتمعية وثقافية عامة، لتتحول لمناقشة فيلم محدد. وكوننا نتحدث عن ظواهر فهذا لا يجب أن يقودنا إلى التعميم على كل المنتجات الفنية والثقافية. ومهمة عدم التعميم هي مهمة تقع على القارئ المشارك أيضا، أن ينتبه دائما إلى أننا نتحدث عن "كثير"، "أغلب"، "بعض".. وليس "كل".

أن أخصص الساعات كي أصور شخصية جالسة إلى منضدة تأكل وتتقيأ ما تأكله، دون أي عناصر أخرى مرتبطة بالفعل أو الحدث أو ما هو جمالي، تحت دعوى احترام الزمن الحقيقي للفعل، تأمله، واكتشاف عظمة "اللقطة المشهد".. إلى آخره من تبريرات، هي في الحقيقة تجربة تقترب من السخف. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن هذه التعبيرات المعادية للسينما هي التعبيرات الأكثر تطرفا، والأكثر صدقا أيضا في رفض السينمائي لوسيطه، أو لما كان من المفترض أن يكون وسيطه. لكن التباين والتنوع يقوداننا إلى ما هو أقل تطرفا وأقل صدقا وشجاعة، وهو السينما التي لا تثق كثيرا في السينما، أي الكثير – وليس كل – من الأفلام التي تصنعها بعض الدوائر المثقفة، التي يتم إنتاجها عبر عدد من "القطمات" التمويلية من صناديق التمويل السينمائي المختلفة.

[اضغط/ي هنا للجزء الثاني/الثالث/الرابع]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      "لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل". هذه العبارة لشادي عبد السلام (١٩٣٠-١٩٨٦)، قالها قبل وفاته بشهور، بحسب مجدي عبد الرحمن، أحد أصدقائه المقربين.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      بالعودة إلى نجيب محفوظ، وفي سياق رده على ادعاء أن كل القصص قد حكيت، يقول عن الروائي الفرنسي "آلن روب جرييه": "أنه يصف الأشياء العادية وصفا مسهبا وكأنه عالم طبيعة وقع على حفرية نادرة، فأجرى عليها دراسة وصفية شاملة.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية.

محمد رمضان محاصراً

في كل البرامج الحوارية التى ظهر فيها محمد رمضان بعد أن صار نجما، وربما الأعلى أجرا، دائما يذكر بداياته الفقيرة والصعبة والعقبات التى وقفت فى رحلة صعوده، ليس من بينها الفقر وحسب — يكتب على تويتر"سنة ٢٠٠٤ كان عمري ١٦ سنة. كنت لا أملك إلا ثقتي في الله وحوالي ١٣جني قابلت كم إحباطات لا يتحملها حد. كنت انتظر المخرجين امام المسارح باليالي باحثاً عن فرصة ولا أيأس رغم احباط بعضهم لي” — ولكن أيضا النبذ والتجاهل وربما العنصرية بسبب فقره وشكله ولون جلده. يحكي رمضان والدموع تغلبه عن استبعاده من فيلم "حسن ومرقص" لعادل إمام لسبب لا يعلمه، ومؤخرا تردد بأنه تم طرده من فرح ابن الزعيم فى الساحل الشمالي، كما رفض الزعيم ظهوره فى لقطة واحدة من مسلسل "عوالم خفية" الذى تم عرضه فى رمضان ٢٠١٨. نفس الحكاية تتكرر مع على الحجار ويتم طرده من المشاركة فى مسرحية لعلي الحجار، كانت تعرض وقتها في مدينة الإسكندرية وكان ذلك بسبب إعجاب الجمهور به مما دفع بأمير عربى منح رمضان قلم ألماظ، فكان سبب الطرد هو الغيرة والحقد كما يقول.

ولد محمد رمضان فى مايو ١٩٨٨ بمدينة قنا في صعيد مصر، لأسرة فقيرة، حيث يمثل الفقراء فى مصر نحو ٨٤ %، وأكثرهم فقراً فى صعيد مصر. بدأ مشواره الفني من خلال أدوار صغيرة في عدد من الأعمال منها فيلم "حمادة يلعب" ومسرحية "قاعدين ليه" كان ذلك سنة ٢٠٠٥. فى سنة ٢٠٠٦ شارك في مسلسل "السندريلا" ولعب دور أحمد زكي فبدأ بلفت الأنظار إليه. في نفس العام شارك في مسلسل "أولاد الشوارع". عام ٢٠٠٧ شارك في مسلسل "حنان وحنين" مع الفنان الكبير عمر الشريف و كان من إخراج إيناس بكر،  وقد أشاد به الفنان عمر الشريف وتنبأ له بمستقبل ناجح. في عام ٢٠٠٨ شارك في مسلسل "هيمة- أيام الضحك والدموع" ومسلسل "هاي سكول"، ومسلسل "في أيد أمينة"، وفيلم "رامي الاعتصامي" ومسلسل "رمانة الميزان". أما فيلم "احكي يا شهرزاد" للمخرج يسرى نصر الله، عام ٢٠٠٩ فهو يعتبر البداية الحقيقية لمحمد رمضان، على الرغم من ضعف الفيلم، من حيث البناء الدرامي والحوار وبناء الشخصيات والأداء التمثيلي الهزيل، إلا أن محمد رمضان كان الأفضل، فقد كان متوافقا جدا مع الشخصية التي قام بها، ويرجع ذلك لما يكرهه محمد رمضان في نفسه، وهو شكله الفقير الذي يظهر أصله الاجتماعي. وفى عام ٢٠١٠ شارك فى مسلسل الجماعة، وفى ٢٠١١ مثل في مسرحية "في إيه يا مصر"، ومسلسل "إحنا الطلبة"، و "دوران شبرا"، وفيلمى "الشوق"، "والخروج من القاهرة". ولكن النقلة الأهم في حياته، كانت في فيلم "الألماني" عام ٢٠١٢ حيث لعب أول بطولة له، ثم فيلم "عبده موته" الذي حقق إيرادات ساحقة وقتها، حتى صار يلقب محمد رمضان ب "عبده موته". ومنذ هذا التاريخ، تاريخ عبده موته، ومحمد رمضان يصعد بثبات لكى يكون النجم الأول فى مصر وفى الوطن العربى. هذا الوضع المربك لمحمد رمضان نفسه، وللوسط الفني أيضا، ساهم في تأكيد وتأطير الصورة التي يدركها رمضان عن نفسه: الفقير، المنبوذ، الجاهل، ...الخ. ولأنه فقير ومنبوذ يسعى دائما إلى الحماية، من الوسط نفسه، ومن المجتمع الذي يقدمه ككبش فداء عن تردي الأخلاق وتصاعد وتيرة العنف المجتمعي، وحماية أيضا من غدر الزمن وتنكره له والعودة به إلى قنا ١٩٨٨. فبدأ يقدم نفسه بوصفه الممثل الذي يصلح لتمثيل سلطة الدولة، فهو يريد تقديم أدوار عن أفراد القوات المسلحة والشرطة وإظهار الدور الذى يلعبونه في خدمة المجتمع والتضحيات التي يقومون بها، فكان مسلسل “نسر الصعيد" الذى تم عرضه فى رمضان ٢٠١٨. بعد هذا المسلسل يقدم محمد رمضان أغنيته التي أفزعت الكثيرين وأصابتهم بالدهشة لما فيها من غرور وبارانويا وتحدٍ وغطرسة.

محمد رمضان نمبر وان

بوابة حديدية عملاقة، مطلية باللون الأسود الفاخر، وفى منتصفها يظهر حرفا MR؛ وهما اختصار لصاحب البوابة "محمد رمضان". يلاحظ أن نصف حرف ال M الأيسر يأخذ اللون الذهبي فيمكن قراءتها رقم (1). تنفتح البوابة على مهل لندخل عبرها إلى واجهة قصر مهيب، تتقدم الواجهة سبع سيارات فارهة، تمثل أغلى الماركات العالمية، تبدو ألوانها كأنها طيف الأزرق والأحمر والبرتقالي والفضي والرمادي والأسود والأبيض. نتجاوزالسيارات الرابضة في مدخل القصر فتطالعنا بوابة أخرى، وفجأة ندخل إلى ردهة القصر، فيباغتنا أسد ينزل من الطابق الأعلى برشاقة، ليقودنا إلى أربع فتيات بملابس بيضاء كأنهن ملائكة حراسة، ويحملن بنادق تبدو مثل بنادق اللعب. اثنتان تحرسان البوابة الثانية، واثنتان تشرفان على الطابق الأعلى. فجأة تختفي البنات الأربع ليظهر جزء من جسم الشخص المستهدف؛ وهو مسترخ في حمام السباحة، وتنتقل الكاميرا إلى وجه الأسد الذي رأيناه ينزل سلالم القصر. هنا أرادت الكاميرا أن نوحد بين الشخص والأسد، فهما واحد. تبدأ أصوات ترتفع بإيقاع: لالا لالا لالا لالا. تنتقل الكاميرا إلى وجه الشخص فيظهر "محمد رمضان"؛ وهو يأخذ في حضنه شبلاً صغيرًا، وأياد أنثوية تحوم حوله، وأصوات الكورس تسأل:هم فين؟ وعبر جواب محمد رمضان يمكننا معرفة من المقصود بـ "هم".

اللي قالوا مش ها يوصل من زمان (هم فين؟)

اللي في بدايتي قفلوا كل البيبان (هم فين؟)

والسؤال "هم فين" بدلا من "هم مين" يشير إلى مكانة هؤلاء الآن مقارنة به، فهو نمبر وان. فالأهم هنا المكانة وليست الأسماء، ربما لا يتذكر الأسماء، ولكنه يرى أين هم؛ فهم ليسوا محددين بهوية شخصية، ولكنهم يحتلون موقعا في التصنيف الاجتماعي. المكانة هي التي تشكل الهوية بالدرجة الأولى. فهو الآن في مكانة لن يقدر أحد أن يصل إليها(أنا فوق..مهما تجري صعب تعديني. أنا فوق. لامبورجيني وأنت يابني مكنة صيني. أنا فوق. ربك وحده هو قادر يوديني. أنا فوق. ربك وحده هو اللي معليني) بالإضافة إلى السيارة لامبورجينى التي تعرفها طبقة بعينها وهى دال على مدى الثراء الفاحش، نجد رمضان يستعين أيضا بالله، فهو الذي يعطى من يشاء، وهو الذي يرفع من يشاء. لامبورجينى تشير إلى المكانة أيضا، وفى الوقت نفسه هو يغازل الحس الشعبي عبر الإيمان بالله الوهاب وأيضا ترديد اسم الله من أجل الخوف من الحسد وزوال النعمة.

يظهر محمد رمضان محاطاً بالفتيات، يحرسن نومه ويقظته، ويوفرن له أسباب الراحة والأمان والمتعة أيضاً. و هن لا يظهرن هنا بوصفهن أدوات للمتعة - إلا فيما ندر- ولكن يظهرن بوصفهن حارسات، فيبدو محمد رمضان كأنه رئيس دولة أفريقية، يتحرك أينما رحل في خيمته/قصره، ومعه جيش من الأمازونيات لحراسته. يتحرك داخل قصره في أمان، ومن حديقة القصر وحمام السباحة، يطلق رسائل إلى أعداء وهميين أو حقيقيين. فيبدو كأنه محاصر من أشباح تطارده، فيأمرهم بالسكوت مرة، وبالتوقف مكانهم مرة أخرى في لهجة تحدٍ واضحة (اثبت مكانك مسمعش صوتك. رايحين لفين ده أنا الملك. أنا ملك الغابة شايفك قطة). في لقطة معبرة، يتحرك وهو يضع المسدس في وسطه، وينظرإلى الخارج بحذر وترقب من وراء ستارة، فيرى أشباحًا وخيالات؛ ولكنها لنساء حراسته يتمايلن ويرقصن فيعود مطمئناً ليعاود بث رسائله بشجاعة أكبر، وبطريقة شعبية: وله وله وله.

محمد رمضان في هذا الفيديو لا يظهر بوصفه ملكاً متوجاً أو "نمبر وان" إلا في مجال حيازته: القصر والسيارات والنساء. هنا يظهر بوصفه محاصرًا من أشباح الماضي والمستقبل، كما أنه لا يثق في اللحظة الحاضرة، فيستعين بوسائل شتى لحراستها وتأمينها. هو يطلق رسائل تهديد ووعيد واحتقار لمن يفكر في الاقتراب منه، أو التقليل من مكانته التي يحتلها الآن. ويكرر الرسالة نفسها على نحو مرضي، فتتحول الكلمات إلى ما يشبه التعويذة والسلسلة المعلقة فى الرقبة كأنها تميمة، بالإضافة إلى الملابس البيضاء التى يرتديها هو ونساء حراسته التى تمنح الإحساس بأنها سترات واقية من الرصاص. هذا المناخ يظهر محمد رمضان كأنه يعانى من  أوهام وخيالات وربما يتصور مؤامرة تُعمل ضده فى مكان مجهول فيصرخ فى آخر الأغنية "التاج على راسى يلا يا بروطة". ويعطينا ظهره ويمشى صوب نساء حراسته.