عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

[المخرج المصري يوسف شاهين] [المخرج المصري يوسف شاهين]

عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

By : Basel Ramsis باسل رمسيس

الفساد المباركي يحارب السينما التجارية

في المقال السابق أشرت إلى "بستفة" سينمائي مصري شهير لكتاب السيناريو من الشباب بأنهم لا ينظرون إلى الواقع. وحاولت أن أقترب قليلا من أحد جوانب الصورة، وهو الخاص بوهم أن كل القصص قد حكيت. لكن هناك جوانب أخري للصورة، أو حقائق لا يمكن إغفالها، منها الجانب الإنتاجي التقليدي، الذي سأخصص له هذا المقال، والبدائل الإنتاجية التي سأخصص لها المقالين التاليين.

علينا أن نتفق بداية على أن مناقشة أزمة أي وسيط فني أو ثقافي مع تجاهل لما هو مجتمعي وسياسي، تصل عادة إلى نتيجة بائسة وهي إلقاء اللوم على المبدعين في المجال أو الوسيط الذي نتناوله، لأنهم لم يتمكنوا من أن يكونوا مبدعين كباراً. وكأن المسألة على هذا القدر من الإرادية، أن أقرر أن أكون مبدعا كبيرا، وأن تتاح لي كل الفرص، وأن أستغلها كما يجب لإنجاز الأعمال العظيمة، وسيحيطني المجتمع بعطفه ورعايته واحتفائه، فأتمكن من الاستمرار في صناعة أعمال فنية كبرى.

وهو ما يتجاهل حقيقة تاريخية، وهي أن ظهور مبدعين كبار في أي مجال فني مرتبط دائما بظروف مجتمعية وسياسية محددة. والتاريخ يثبت أن ظهور الموجات الفنية الهامة، والتي تجد بداخلها عشرات من المبدعين المهمين، مشروط بحالة نهضة أو تنمية أو مشروع قومي طموح وتقدمي. أو مشروط بمراحل تغيرات كبرى.. ثورات وانتفاضات، أو حركات تمرد ونضال استثنائية في قوتها ومثاليتها، تفرز معها مبدعيها الكبار. لكن في فترات الانحدار لا توجد تيارات وإبداعات كبرى متعددة ومتنوعة، توجد فقط حالات فردية واستثنائية ومتناثرة.  

وبما أننا نتحدث عن السينما، جميعنا نعلم بأن السينما المصرية شهدت عدداً من هذه الموجات.. قبل ١٩٥٢ بارتباطها بتصاعد مد حركة التحرر الوطني. موجة الخمسينات والستينات التي ارتبطت بمشروع التنمية والمشروع القومي الذي انكسر وانتهى مع حرب الأيام الستة. وأخيرا حركات الاحتجاج الطلابية واليسارية أواخر الستينات وصولا لمنتصف السبعينات، والتي أفرزت ما يسمى بجيل الثمانينات في السينما المصرية، هؤلاء الذين قدموا أفلامهم القصيرة الأولى نهايات الستينات وأول السبعينات. وكان من الممكن أن تفرز ثورة يناير موجة جديدة، لو لم تهزم مبكرا.

ماذا يعرف جمهور السينما عن العلاقة بين المبدع السينمائي، المخرج في حالتنا، والمنتج؟ المتفرج العادي غالبا لا يعرف الكثير، بسبب غياب تراث مكتوب ومنتشر عن هذه العلاقة التي يتجنب أطرافها الحديث عنها عادة. لكن من يعملون في السينما يعرفون أكثر عن تاريخ وأنواع هذه العلاقة بين المخرج وبين من يملك الأموال، سواء بالتجربة المباشرة، أو عبر مذكرات السينمائيين الكبار.

 

[نور الشريف وتوفيق الدقن في فلم حدوتة مصرية ١٩٨٢ للمخرج يوسف شاهين]

ربما كان فيلم "حدوتة مصرية-١٩٨٢" ليوسف شاهين من الأفلام القليلة التي أشارت للعلاقة بين المنتج والمخرج في حالتنا المصرية، في هذا المشهد الذي يحاول فيه "يحيى شكري مراد" إقناع المنتج الذي يلعب دوره الفنان العظيم الراحل توفيق الدقن، المفترض فيه أنه والد زوجة المخرج، بإنتاج فيلم "باب الحديد”. في هذا الفيلم، ولأسباب درامية لها علاقة بتناول يوسف شاهين لذاته كمادة خام للفيلم، يجعل منتج باب الحديد هو نفسه منتج فيلم "ابن النيل"، في حين أنهما في الحقيقة ليسا نفس الشخص، فماري كويني هي منتجة ابن النيل، وداوود تلحمي هو منتج باب الحديد.  

في هذا المشهد، الذي به بعض المبالغات بالطبع، يحاول المخرج إقناع المنتج بإنتاج فيلمه الذي سيحقق إيرادات ضخمة، فهو أشبه بفيلم سكس، ويركز على مشهد هند رستم وزميلاتها يغرقونها تحت المياه لتلتصق ملابسها بجسدها. رغم المبالغة الدرامية، والتي لا مجال هنا للبحث عن أسبابها لخروجها عن موضوع المقال، يتم تلخيص جانب من جوانب العلاقة بين المخرج والمنتج.. المخرج يريد صناعة عمل فني، والمنتج مهموم بالإيرادات والسوق. وهي بالفعل العلاقة التقليدية الغالبة.

الأول لديه سيناريو، أو ملخص له، يقدمه للمنتج الذي إن رأى فيه عوامل جاذبية فسيقوم بإنتاجه بأمواله. أو سينتجه بما كان يعرف من قبل بسلفة التوزيع، حيث يقوم المنتج باقتراض أموال من الموزع علي حساب توزيع الفيلم والإيرادات التي سيحققها. في هذه العلاقة التقليدية لا أستطيع في أغلب الحالات أن أتخيل المنتج يسأل المخرج عن السبب الذي يجعله يريد عمل هذا الفيلم. فإجابة هذا السؤال موجودة عادة في السيناريو، في الورق، الذي من المفترض أن تكون قصته جاذبة بالدرجة الكافية للمخرج كي يرغب في إخراجه أو تنفيذه سينمائيا.

وربما كانت الحوارات تدور بين الاثنين حول جوانب جاذبية القصة، لو كانت غير واضحة بما يكفي بالنسبة للمنتج، أو حول جوانب إنتاجية وتقليل التكاليف عبر إجراء بعض التعديلات على السيناريو. والمنتج المقصود هنا ربما يكون منتجاً فرداً، أو ربما يكون الدولة من خلال مؤسسة السينما التي أنتجت خلال عشر سنوات، وهي سنوات الستينات تحديدا. والاثنان، المنتج الفرد ومؤسسة السينما، كان يتملكهما غالبا نفس المنطق وطرق عمل متشابهة. مع تمييز أن مؤسسة السينما لم يكن من المفترض فيها تحقيق الأرباح الضخمة، وأن الهدف الثقافي التنويري كان من ضمن أهدافها. فمن الصعب تخيل صلاح أبو سيف خلال إدارته للمؤسسة يناقش زملاءه من المخرجين حول ما يريدونه من أفلامهم، حتى يقرر إن كانت المؤسسة ستنتجها أم لا.  

كانت هذه هي الطريقة التقليدية المتوازية أحيانا مع طريقة أخرى، وهي العلاقة المباشرة بين المنتج والسيناريست، أو علاقة المنتج بالسيناريو عبر نجم أو نجمة لديهم السيناريو ويريدونه أن ينفذ وأن يكونوا أبطاله. وفي هذه الحالة يقوم المنتج باستدعاء المخرج الذي يثق به، أو الذي يراه مناسبا لإخراج الفيلم، ويكلفه به. بالطبع دون إنكار الوجود الدائم للاستثناءات داخل عملية اتخاذ القرار الإنتاجي. لكن الملامح العامة تظل هي السائدة في كل أنواع السينما المقدمة في مصر بشكل عام، سواء كانت أفلاماً مختلفة/بديلة/تصنع لطموحات فنية بالدرجة الأولي، أو الأفلام التي نسميها "تجارية". ولندع جانبا حالة سينما المقاولات، لأنها حالة خاصة داخل السينما التجارية، ولنترك أيضا جانبا تجربة “أفلام مصر العالمية – يوسف شاهين وشركاه” لأنها كانت أيضا حالة إنتاجية وفنية خاصة داخل السينما المسماة بالبديلة/المختلفة/أو صاحبة الطموحات الفنية.  

 

[المخرج المصري صلاح أبو سيف]

الملاحظة الضرورية هنا هي.. أن تعبير السينما التجارية قد تحول إلى سبة في الأوساط السينمائية والمثقفة بالتدريج. في حين أن تاريخ السينما التجارية المصرية مليء بالأفلام المصنوعة بشكل جيد، وعلى درجة عالية من الحرفية، بالرغم من أن هدفها الأساسي كان الربح أو شباك التذاكر. وتحول تعبير "تجاري" ليتحول إلى سبة حدث كتطور طبيعي للعقود الأخيرة من التلقي. حيث لم يعد لدينا أي تنويع في أفلام السينما التجارية، أصبحت مجرد سينما رديئة في مجملها. مع استثناءات قليلة جدا، أغلبها يصنع سريعا، ويعتمد على عدد من التوليفات التجارية المكررة والتي تم إعادة إنتاجها مئات - وربما آلاف - المرات من قبل. ولم يعد الهم الحرفي التقني يقف كهاجس في أي لحظة خلال عملية صناعة هذ النوع من الأفلام. وبما أن الإنتاج الحالي، نتيجة الانهيار المجتمعي والثقافي الشامل، بداية من العقد الثاني لحكم مبارك، في أغلبه شديد الرداءة، فمن الطبيعي أن يكون تعبير السينما التجارية مرادفا للسوء.  

بداية من منتصف التسعينات، ومع ظهور قوانين نظام مبارك الجديدة للسينما، والمتعلقة بالشركات الكبيرة والإعفاءات الجمركية والضريبية على أعمالها، وخصخصة أصول السينما وبيع الكثير منها، والتي تزامنت مع بداية طفرة الفضائيات، حدث تحول شديد الأهمية في ميكانيزمات الإنتاج السينمائي المصري. وأؤكد هنا على تجنب استخدام تعبير "صناعة سينما"، لأن الواقع يقول لنا إنه لم يعد لدينا صناعة بمعنى صناعة منذ وقت طويل. في هذه اللحظة التسعينية، ومع القوانين الجديدة، تم إنهاء وجود الكثير من المنتجين الصغار والمتوسطين، تبقى منهم بعض المعافرين (من المعافرة، الإصرار) القليلين جدا، بينما تركزت رؤوس الأموال الخاصة بالإنتاج والتوزيع في يد الشركات الكبيرة، التي احتكرت السوق، وجعلته يقع بالكامل تحت سلطة اثنين أو ثلاثة من المنتجين، يصنعون نفس السينما محدودة الطموح، وقد أغلقوا الباب أمام أي محاولات متلهفة لصنع ما هو مختلف. 

كرد فعل على هذا الواقع الجديد، وكمحاولة للهرب من أن يكون المصير هو العمل في الفيديو كليب والإعلانات أو التلفزيون، وكمجاراة لما يحدث في بعض السينمات غير المصرية، تظهر هنا محاولة لتأسيس عدد من الدوائر الشابة تحت عنوان فضفاض وهو "السينما المستقلة"، وتحديدا في بداية حقبة الألفين، كمحاولة لـ "الفلفصة" من هذا الواقع الجديد والقبيح. ولن أناقش هنا هذه المحاولة لسببين، تشككي الدائم في مفهوم "المستقلة"، منذ بداية ظهوره وحتى الآن. بالإضافة إلى أن هذه المحاولات تستحق كتابة منفصلة تماما. لكن هذه المحاولة/التجربة انتهت بعد سنوات قليلة ولم تؤثر فعلا في أكثر من بضعة مئات من مشاهدي شاشات المثقفين في المراكز الثقافية، أو مركز الإبداع بالأوبرا، وبعض المهرجانات التي شطبت علاقتها بالجمهور الواسع. ليكون الحصاد الأخير لها عبارة عن بضعة عشرات من الأفلام، أغلبها أفلام تسجيلية وقصيرة، وبعض الأفلام الطويلة، وإنتاج في أغلبه محدود القيمة.  

 بعد هذا الانحسار في طرق الإنتاج التقليدية، و"المستقلة"، ما هي منافذ الإنتاج السينمائي الحالي وخلال الخمس عشر سنة الأخيرة؟ في تقديري لا تخرج عن ثلاثة:  

أولها بواقي الإنتاج التجاري التقليدي في أسوأ صوره. أن يكون لديك سيناريو به بعض التوليفات الجاذبة للجمهور الواسع في مواسم العرض.. العيدين وإجازة نصف السنة.. إلخ. يوافق عليه منتج من المنتجين القليلين، السيناريو يحمل موافقة نجم أو نجمة – أحيانا يقومون هم باستدعاء السيناريست والمخرج كي يكتب على مقاسهم – والنتيجة فيلم "تيك أواي" مناسب للاستهلاك السريع والنسيان السريع أيضا. وعلى القارئ ألا يغفل أن “التيك أواي” نسبي، وليس له قيم محددة سواء على مستوى وقت الانتاج المتاح، أو على مستوي الميزانية. فيتواجد داخل هذا النوع الإنتاجي أفلام تبدو كبيرة، لكنها في الحقيقة لا تخرج عن نطاق الإنتاج التجاري التقليدي بعد انهياره.  

ثانيها هو طريق المعافرة الفردية والأشبه بالتعاونيات المشكلة من صانعي الفيلم، لتنتهي مع نهايته. وهذا النوع من طرق الإنتاج محدود جدا في الحالة المصرية، لكنه قد تحقق في بعض التجارب، عن طريق تعاون فريق الفيلم مع الممثلين - إن كان فيلما روائيا - وفي بعض الأحيان يتم اللجوء إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بالتمويل الصديق.. أو "الكرو فاندينج" لجمع بعض الأموال كي يخرج الفيلم للنور، دون أن يتقاضى الأشخاص الأساسيون في عملية صناعة الفيلم أجورهم. فالأجر هنا يتحول إلى حصص في الأرباح، إن وجدت، ونادرا ما توجد.  

لكن مشكلة هذا الميكانيزم الإنتاجي هي أنه مهلك للدرجة التي لا يستطيع المخرج أن يحقق أكثر من فيلمين بهذه الطريقة خلال حياته، سواء بسبب الطاقة المهدرة، أو بسبب أن السينمائيين المشاركين هم أيضا بحاجة للعمل فيما يسمى بـ “السوق” كي يتمكنوا من كسب قوتهم.

 أما المنفذ الثالث فهو ما يمكن أن نسميه بسينما الدوائر المثقفة المتضامنة مع أعضائها فيما بينهم، ليس عبر التعاونيات، بل عبر صناديق التمويل التي تتحكم فيها بالدرجة الأولى العلاقات ودرجات القبول الشخصي. وهو ما يقدم حاليا باعتباره السينما الفنية/الجيدة/البديلة.. إلى آخر هذه التسميات.

وعلى السينمائي الطموح والراغب في أن يصنع فيلمه أن يختار بين هذه الطرق المتاحة، وهو على علم تام بأن فرصته في إخراج فيلمه ربما تكون الفرصة الوحيدة التي سينالها طيلة حياته. وهو كذلك واع بأن عليه ألا يحاكم نفسه في اللجوء إلى الطريق الذي اختاره، وأن عليه تفهم خيارات الآخرين المختلفة. فالجميع على علم تام بمدى صعوبة إنجاز فيلم سينما في مصر

حاليا، صعوبة تصل أحيانا للاستحالة. وربما يكون الوعي بهذه الحقيقة هو الوعي الأوضح الذي يوحدنا جميعا.

[اضغط/ي هنا للجزء الأول/الثالث/الرابع]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      "لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل". هذه العبارة لشادي عبد السلام (١٩٣٠-١٩٨٦)، قالها قبل وفاته بشهور، بحسب مجدي عبد الرحمن، أحد أصدقائه المقربين.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      بالعودة إلى نجيب محفوظ، وفي سياق رده على ادعاء أن كل القصص قد حكيت، يقول عن الروائي الفرنسي "آلن روب جرييه": "أنه يصف الأشياء العادية وصفا مسهبا وكأنه عالم طبيعة وقع على حفرية نادرة، فأجرى عليها دراسة وصفية شاملة.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية.

عن سينما لا تثق في السينما

الجزء الأول

كل القصص قد حكيت

في بداية حقبة الألفين، وخلال دراستي للسينما في مدريد، كان لنا زميل يدرس الإنتاج السينمائي في أهم معهد من معاهد السينما بإسبانيا، كان يسبقنا بأعوام، ولأسباب متعلقة بعائلته وأبيه السياسي الشهير، كنا نعلم أن مساره في العمل الاحترافي سوف يكون ممهدا بدرجة كبيرة. لكنه اعتاد أن يكرر أمامنا، وبكل ثقة، رأيه بأن كل الأفلام والقصص قد صنعت وحكيت من قبل. كنا نندهش من أن يكون هذا التصور هو قناعة شاب سينمائي من المفترض أن يعيش في هذه الفترة من حياته، بحكم الدراسة والمرحلة العمرية، حالة من حالات الإثارة والشغف تجاه الطريق الذي اختاره. وهو ما يتعارض بالضرورة مع هذا الإحساس بالرتابة والملل الذين يولدان تلقائيا إن كان لديك قناعة بأن كل ما تود حكيه قد حكي بالفعل.

أعتقد أن هذا التصور "العدمي" بدرجة ما، هو ما جعله يختفي تماما بعد سنوات قليلة. لنكتشف لاحقا أنه قطع علاقاته بالوسط السينمائي، إلتحق بالمدرسة الديبلوماسية، وتم تعيينه في إحدى السفارات. ودهشتنا تجاه ما كان يردده من قبل تحولت لدعابات تطال صديقنا المحبب في غيابه.. "أفلست السينما، كل الحكايات قد حكيت، لكن في السلك الديبلوماسي والبروتوكول، حيث كل ما يحدث هو نفس ما يحدث منذ قرون، هناك رغي جديد لم يتم استهلاكه بعد".

أشار بعض الحاضرون لحفل توزيع واحدة من الجوائز الفنية في مصر مؤخرا، أن سينمائياً مصرياً هاماً ومعروفاً، كان من ضمن لجنة تحكيم جائزة السيناريو، قام أثناء منح الجوائز بـ “بستفة" من فاز ومن لم يفز، مشيرا إلى أن أغلب السيناريوهات المقدمة لا تقترب من الواقع المحيط، بل هي إعادة إنتاج لنفس أفكار المسلسلات التلفزيونية القديمة.

هذه الإشارة من سينمائي لديه خبرة وتاريخ، لا يمكننا أن نتوقف عندها بنفس الكلام القديم المتكرر بأن مشكلة السينما المصرية هي أساسا أزمة أفكار وندرة السيناريوهات الجيدة. فهذا التبرير القديم يغفل جوانب وأسباباً كثيرة لانهيار السينما المصرية. وأغلب هذه الأسباب ليست بيد السينمائيين المصريين، بل بيد السلطة وواضعي السياسات الثقافية، وبعض منها هو نتيجة طبيعية لعدد من العوامل المجتمعية والثقافية. ناهيك عن أن هذا التبرير السطحي والبسيط، أن المشكلة في الورق، كان يتم استخدامه سابقا لتجنب الدخول فيما هو سياسي ومتعلق بأزمة تخص كل ما هو ثقافي أو فني في بلدنا. وهذه الإشارة من هذا السينمائي، والتي أعتقد أنها صحيحة غالبا، لا يمكن كذلك أن ٌتحل بتفسيرات من نوعية أن التلفزيون وسوق المسلسلات لهما سطوة علي السينمائيين بحكم أكل العيش. وبالذات مع انتشار كثير من شبكات عرض المسلسلات في بيوت كثيرين، مثل "نت فليكس"، "إتش بي أو"، وغيرهما، وهي شبكات جعلتنا نتابع مسلسلات غير مصرية كثير منها على درجة عالية من الجودة، وقد تطورت خلال العقد الأخير لتقترب من أدوات السينما في الحكي. فلا يمكننا هنا أن نطرح سؤالا معاكسا للمنطق.. كيف يتطور المسلسل التلفزيوني باتجاه السينما، وتتراجع السينما تجاه التلفزيون، لتكون أقل تطورا منه؟

إن أردنا أن نقترب قليلا من أزمة المسار السينمائي المصري، وشكله الحالي، وكيف تم ترسيخه، فإن تعليق المخرج المصري عضو لجنة تحكيم الجائزة، سيجعلنا نسأل سؤالا إضافيا بعيداً عن "بستفة" كتاب السيناريو.. وليكن، اقتربت السيناريوهات من الواقع، ونظر الكتاب حولهم وتفاعلوا مع مايرونه، ماهي النتيجة؟ هل سترى أفلامهم النور وتصل لجمهورها؟ وهو سؤال سنؤجل قليلا الاشتباك معه. لكن قضية الواقع المعاش والمنتج الفني والعلاقة بينهما تحيلنا إلي سينمائي آخر، من أهم مخرجي السينما المعاصرين وأقلهم شهرة، وهو الإسباني "فيكتور إيريثي".

يشير "فيكتور إيريثي" في عدد من الحوارات والمحاضرات التي ألقاها خلال التسعينات وبدايات حقبة الألفين إلي أن السينما في تصوره قد تحولت إلي عجوز مراهق أو متصابي، بدأ في فقدان عقله، الذي للمفارقة تطور سريعا. فالسينما عاشت خلال عقود قليلة، وبسبب الثورة التكنولوجية بإيقاعها شديد السرعة، رحلة تطور وحرق للمراحل عاشتها الفنون الأخرى خلال قرون طويلة. وأن العقود الأخيرة تحديدا تشهد على المستوي السينمائي مرحلة من مراحل التراجع أو الاضمحلال كفن. ودون أن ينكر إيريثي أن في مراحل التدهور، أو التراجع، أو الانهيار، تظهر أعمال فنية عظيمة، إلا أن السائد يكون عادة ما تم إنتاجه واستهلاكه عدة مرات من قبل. ويدلل على تصوره هذا، والذي يوسعه ليشمل السينما في العالم كله، وليس فقط السينما الإسبانية، بانتشار موضة "الريماكس"/إعادة إنتاج أفلام قديمة، أو انتشار المداعبات، أو لنقل "الغمزات"، التي يوجهها مخرجون من داخل أفلامهم تجاه أفلام أخرى سابقة، أو تجاه سينمائيين سابقين، أو الإحالة المباشرة إلى ما أصبح كلاسيكيا في تاريخ السينما العالمية. بينما يظل الواقع الحقيقي هناك في الخارج، مفتقدا لمحاولات السينمائيين اكتشافه وتعلم النظر إليه وكأنهم يرونه للمرة الأولى، ليكتشفوا في كل يوم جديد ما لم يكتشفوه من قبل.

في كتابه الشيق "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة"، يضيف محمد شعير عدداً من الملاحق في نهاية الكتاب، من ضمنها مقال مدهش كتبهم نجيب محفوظ ١٩٦٤ في مجلة الكاتب، بعنوان "اتجاهي الجديد ومستقبل الرواية". في هذا المقال يشير إلى نفس هذا المطب، يشير إلى موضة تكرار مقولة أن كل الموضوعات قد حكيت، وبالتالي ليس أمام الروائي سوي الإبداع في الشكل، وليس في الحدوتة. ويرصد حالة من حالات الإغراق في التفاصيل الشكلانية لدرجة تبعث علي الملل. نجيب محفوظ يشير هنا إلى واحدة من علامات الوعكات الصحية التي تصيب الفنون من حين لآخر في علاقتها بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ويتحدث عن الشكل بمعنين مختلفين، من ناحية: ما تراه أمامك أنت كفنان، فتقوم بوصفه وفقط لمجرد التأمل والوصف، أو أن ما تصفه شكليا يتحول لمكون من مكونات حكيك لقصة، بحيث تتجاوزه لما هو أعمق. لكنه أيضا يشير إلي الشكل بمعناه الآخر، بمعني "الفورم"، البناء، التكنيك.. اللذين يستخدمهما الفنان في عمله.

وفي لغة تبدو ساخرة، يشير نجيب محفوظ إلي أن هذا الاهتمام الشكلاني، والذي يسمونه بالمدرسة الشيئية، هو بسبب افتقاد الكتاب للموضوعات التي تثير اهتمامهم فعلا، أو يودون العمل عليها. ويربطه أيضا بهذا الاتهام الموجه للرواية بأنها فن قد انتهي لأنها طرقت كل الموضوعات، أي أن كل القصص قد حكيت.

نجيب محفوظ بالطبع، وبحكم تركيبته وثقافته وموهبته الفذة، على ثقة تامة بوسيطه، وعلى ثقة أن هذا الوسيط، الذي هو الأدب، لم يمت. ويدلل على ذلك بأنه وإن كانت كل الموضوعات الكبرى قد حكيت، وهو ما يمكن أن يكون صحيحا، لكن الفنان لم يمت ولم يمت المتلقي، والزمن يتغير طيلة الوقت، وبالتالي فلديك دائما قارئ ينتظر القصة الجديدة. وعلى جانب آخر فإنك لو نظرت من الطائرة إلى الأرض فسترى أشخاصاً هم عبارة عن نسخ من بعضهم البعض، ولا يوجد ما يميزهم. لكنك إن اقتربت أكثر فستجد أن لكل منهم سمات ومميزات شخصية تختلف تماما عن الآخرين. وهذه السمات الخاصة والمختلفة تتضح كلما ازدادت درجة قربك. وإن نظرت إلى صفحة الحوادث وقرأتها فستجد أن في كل حارة هناك "عطيل”. لكن التناول الفني والمشاعري الخاص بكل فنان علي حدة، والمتغير عبر الزمن، ينفي فكرة أن كل ما يمكن أن يحكى قد تم حكيه. بكلمات أخرى، وبفهم لما يقوله نجيب محفوظ، ربما نستطيع إضافة أن كل عطيل تراه في الحارة، هو عطيل مختلف، وليس بالضرورة نسخة من عطيل الأصلي الشكسبيري.

 [الروائي والكاتب المصري نجيب محفوظ]

الإستشهاد بنجيب محفوظ والإشارة إلى مقاله هنا يأتيان للتدليل على أن هذه الحجة التي تشير إلى انتهاء الحدوتة وإلى أن المتاح حاليا هو فقط بعض الألعاب الشكلانية، ليست جديدة. بل تظهر من حين لآخر لأسباب مجتمعية وثقافية متنوعة. والسينما في العالم كله قد واجهت هذا التحدي في مراحل مختلفة سابقة. وإذا عدنا إلي كلام فيكتور إيريثي المشار إليه سابقا، حول أن السينما تعيش زمن انحدارها أو تراجعها، سنفهم لماذا توجد تيارات "سينمائية" تسمي نفسها "أنتي سينما"/“ضد السينما”. وهي مجموعات من السينمائيين المهمشين الذين يعادون الوسيط السينمائي نفسه، يعادون أدواته في الحكي، ويحولونها إلى لعبة ضد الحكي، وصولا لإنتاج شعور بالنفور لدى المتلقي. والأفكار العدمية هي ما تجعلك تفهم درجة التطرف في أن يضع سينمائي كاميرته ساعات متواصلة ليراقب شخصية جالسة إلى مائدة لا تفعل أي شيء سوى أن تأكل، وتتقيأ ما تأكله. هذا المثال تحديدا من خارج السينما المصرية، لن أشير إلى اسمه كي لا أشارك بأي شكل في زيادة عدد مشاهديه. وكونه من خارج السينما المصرية لا يعني أن هذه التعبيرات السينمائية بعيدة عن بعض أفلامنا المصرية أو العربية، لكنني في هذه المقالات الأربعة لن أشير إلى أي فيلم مصري بالاسم، لسببين محددين، أولا: أن كل تعبيرات السينما وظواهرها على المستوى العالمي نستطيع أن نجد صداها لدينا، فربما يكون فن السينما هو الفن العالمي بامتياز، وصاحب اللغة التي تتجاوز اللغات الوطنية، وأي سينما محلية لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن تطورات الفن في العالم كله. وذلك دون استخدام تعبير "العولمة" المشبوه. ثانيا: الإشارة لأي فيلم مصري، سواء بالسلب أو بالإيجاب، سيكون تأثيره في تقديري هو تحويل المناقشة من أن تكون مناقشة ظاهرة مجتمعية وثقافية عامة، لتتحول لمناقشة فيلم محدد. وكوننا نتحدث عن ظواهر فهذا لا يجب أن يقودنا إلى التعميم على كل المنتجات الفنية والثقافية. ومهمة عدم التعميم هي مهمة تقع على القارئ المشارك أيضا، أن ينتبه دائما إلى أننا نتحدث عن "كثير"، "أغلب"، "بعض".. وليس "كل".

أن أخصص الساعات كي أصور شخصية جالسة إلى منضدة تأكل وتتقيأ ما تأكله، دون أي عناصر أخرى مرتبطة بالفعل أو الحدث أو ما هو جمالي، تحت دعوى احترام الزمن الحقيقي للفعل، تأمله، واكتشاف عظمة "اللقطة المشهد".. إلى آخره من تبريرات، هي في الحقيقة تجربة تقترب من السخف. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن هذه التعبيرات المعادية للسينما هي التعبيرات الأكثر تطرفا، والأكثر صدقا أيضا في رفض السينمائي لوسيطه، أو لما كان من المفترض أن يكون وسيطه. لكن التباين والتنوع يقوداننا إلى ما هو أقل تطرفا وأقل صدقا وشجاعة، وهو السينما التي لا تثق كثيرا في السينما، أي الكثير – وليس كل – من الأفلام التي تصنعها بعض الدوائر المثقفة، التي يتم إنتاجها عبر عدد من "القطمات" التمويلية من صناديق التمويل السينمائي المختلفة.

[اضغط/ي هنا للجزء الثاني/الثالث/الرابع]