عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

[مشهد من فليم شمس السفرجل ليفكتور ايريثي] [مشهد من فليم شمس السفرجل ليفكتور ايريثي]

عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

By : Basel Ramsis باسل رمسيس

الجزء الثالث

سينما الدوائر المثقفة

ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية. وكذلك لن يتم الاكتفاء بـ"السي في"/المؤهلات التي توضح أنه شخص قادر علي تنفيذ هذا السيناريو. وهي طلبات طبيعية، يضاف إليها الميزانية المبدئية، بالرغم من أن المشروع المقدم يكون في أحيان كثيرة بحاجة للتمويل كي يتم الاتفاق مع مدير إنتاج محترف قادر علي عمل هذه الميزانية، كي لا تكون عبارة عن فانتازيات أو أرقام عشوائية.

وإذا كانت هذه الطلبات منطقية ومقبولة، إلا أن هناك المزيد.. سيطلب منك كسينمائي "التنظير" لفيلمك قبل أن يصنع، عبر عدد من الملفات التي تسأل أسئلة لم توجد من قبل خلال أغلب عقود تاريخ السينما في العالم كله، كسؤال "لماذا تريد أن تصنع هذا الفيلم؟"!! هل تجرؤ هنا على أن تجيب بأنني أريد أن أصنعه كي أعمل، كي أمارس مهنتي التي اخترتها وهي أن أكون مخرجا؟ أو هل بإمكانك الرد بالإجابة البسيطة "لأنني أحب قصة فيلمي وأعتقد أن بها امكانيات لأن تصبح فيلما جيداً؟ هذه الإجابات السابقة رغم منطقيتها وصدقها ليست مقبولة، يجب تجاوزها، وإلحاق الإجابات "الأخرى" بعدد آخر من نصوص التنظير المتعلقة بـ"الجديد" الذي يقدمه الفيلم، والشكل والستايل الفني، وتصورات التوزيع ونوعيات المتفرجين، وإن كان هناك اتفاقات مع مهرجانات، أو خطابات توصية... إلي آخره.

الأخطر بين كل هذه التعقيدات هو هذا المطب الذي من الممكن أن يقع فيه أي سينمائي، وهو التنظير فيما يخص فيلم لم يولد بعد، عقلنته قبل بداية حياته، أو بمعنى آخر أن تلعب دور المخرج والناقد والمحلل المستقبلي لفيلمك!!

أغلب القائمين على القرار – مرة أخرى أغلب وليس كل – في هذه الصناديق التمويلية هم أشخاص ليس لديهم علاقة وثيقة بالسينما أصلا. بعضهم محترفو إدارة مهرجانات، وبعضهم الآخر محترفو صنع ملفات تسويقية، والبعض الثالث من نوعية المحررين الصحفيين للأخبار الفنية الذين قاموا بترقية أنفسهم ذاتيا إلى مرتبة الـ"نقاد"، بالرغم من عدم دراستهم لأي مادة متعلقة بتاريخ الفن الذي ينقدونه، أو طرق صنعه أو لغته، أو تطوراته، أو أي من النظريات الجمالية أو نظريات النقد ومناهجه المتاحة، والبعض الآخير، وهم الأقلية غالبا، من السينمائيين المحترفين.

بسبب هذه العلاقة المحدودة بالسينما، تجد كثيرين منهم يكررون بكل ثقة ما قاله صديقنا طالب الإنتاج الذي تحدثت عنه في المقال الأول، وكان يردد ما قام نجيب محفوظ بالرد عليه منذ خمسة وخمسين عاما، أن كل القصص قد حكيت. وتتضخم المشكلة بسبب هالة المعرفة المزيفة التي اكتسبها مسؤولو الصناديق تجاه السينمائيين، بسبب زيارات الكثير منهم للكثير من المهرجانات السينمائية في أنحاء مختلفة من العالم، فتكتسب آراؤهم قوة، تجعل من السهل تصديقها والتعامل معها وكأنها حقيقة، فهم يعلمون أكثر.

إن كانت كل القصص قد حكيت، وليس لدي الجديد لأحكيه، بماذا أجيب على أسئلة التنظير؟ قبل الإجابة على أسئلة التنظير هناك مأزق سابق وهو أن كثيراً من المخرجين في زمننا لا يثقون أصلا في قصصهم. وهو المآزق الذي له أسباب متعددة، من ضمنها أنهم لم يدرسوا دراما أو سيناريو. وهناك أيضا العامل العام.. أن في مراحل الاضمحلال هناك حالة عامة من البلادة والشك تجاه المنتجات الفنية ذاتها، وتراجع لطاقة الدفاع عن منتج فني مازال في طور التكون. وبما أني غير قادر على الثقة في قصتي، في أوراقي، وأصحاب "الخبرة" يقولون لي أن كل القصص قد حكيت، فليس أمامي سوى البحث عن مناطق ثقة أخري لبيعها، وهنا لن أجد سوى الشكل.

العلاقة بين الشكل والموضوع في الفنون أحد جوانب الصراع النظري تاريخيا، والذي كان حاضرا على الدوام، وفي تقديري لن يختفي أبدا. لكنه صراع ساخن بين الهواة والدارسين والقادمين حديثا للمجالات الفنية المختلفة، بوعي وخبرة محدودتين. فتجد نقاشات طويلة إن كان الشكل/الفورم/البناء سابقين على المضمون، أم أن الموضوع هو ما يفرض شكله، أو عن الصراع الجدلي بينهما. في حين أن المبدعين الكبار في كل الفنون، كلا بمفرده، قد حسم فعليا هذا السؤال وامتلك إجابته الخاصة. نجيب محفوظ يقولها في المقال المشار إليه سابقا بكل بساطة، أن القصة هي التي تفرض شكلها لدي، الشكل هو نتيجة. وهذه الإجابة "المحفوظية" بالطبع ليست قانونا، بالعكس.. فمن المتاح الخلاف معها، والوصول إلى نتائج أخرى، إن قمنا بتغيير اسم المبدع الكبير باسم آخر.

إن كنت تعيش مرحلة تراجع فني وثقافي ومجتمعي، وفقر في القصص والمواضيع، وافتقار لامكانيات الالتحام الحميم بالواقع والحياة ومراقبتهما، فلن تثق في موضوعك ولن تبحث عن كيفية تطويره، ستضطر غالبا للتنظير قليلا حوله، دون الدخول في عمقه، وأن تدفع بطاقات التنظير الأساسية إلى منطقة الشكل. والمآزق هنا هو أن كل السينمائيين أصحاب الخبرة يعلمون أن هناك علاقة طردية بين درجة التنظير وجودة الفيلم، كلما ازدادت درجة تنظيرك لفيلمك، ازدادت درجة رداءة هذا الفيلم. هذه العلاقة الطردية ليست قدرية أو حكماً إلهياً، لكنها علاقة طبيعية تتحقق عادة حين تتم عقلنة كل تفاصيل العمل الفني بشكل مسبق، وتربيطها ببعضها البعض على الورق، وقبل الوقت المناسب لاتخاذ القرارات الهامة. فعلي سبيل المثال من المفترض أن أهم القرارات البصرية المتعلقة بفيلم سينمائي يتم اتخاذها بين المخرج ومديري الفرق الأساسية في الفيلم.. الإنتاج والتصوير والديكور، خلال دراسة السيناريو والمعاينات. وليس في ورقة يكتبها مخرج يطلب تمويلا لفيلمه، وربما لا يعلم أثناء كتابة هذه الورقة من سيكون مديرو هذه الفرق. هذه العملية التنظيرية قادرة على إفساد الفيلم وإن كان جيدا، وإخراجه كمجموعة من العمليات الحسابية أو العقلانية الباردة أو الميتة، التي لا صلة بينها وبين المشاعر والحياة وانفعالاتنا كشخصيات فيلمية، أو انفعالاتنا كجمهور.

هناك أفلام يتم إنقاذها خلال هذه العملية التمويلية/التنظيرية، وتخرج على درجة عالية من الجودة، وتقترب من الحياة حقيقة وتحمل رائحتها وتعكسها بشكل فني أصيل. لكنها استثناءات تتحقق مع مخرجين علي درجة عالية من الحرفية والصلابة ووضوح الرؤية والثقة في قصصهم، فيتمكنون من المرور بأفلامهم محافظين عليها من تخريب التنظير، ومن تخريب مرحلة تتطلب من المخرجين أن يكون لديهم مهارات مثل إعداد الملفات الأنيقة والمغرية، القدرة علي التنظير بسلاسة، معرفة اللغات، القدرة علي عمل شبكة واسعة من العلاقات العامة، والقدرة علي الدفاع عن الفيلم الذي لم يصنع بعد أمام جمهور من المفترض فيه الاحترافية، جمهور سينقض عليك عند أول هفوة خلال عمليات "البيتشنج" التي تشترطها بعض الصناديق وأسواق الأفلام التي يتم تنظيمها في سياق المهرجانات. وكلها مهارات لا علاقة لها بالمهارات الأساسية التي يجب توافرها في المخرج الجيد

كان المخرجون سابقا يتجنبون الحديث مع الصحافة، أو مع المقربين، عن أفلامهم قبل صنعها أو خلال مراحل صنعها. لم يكن هذا الكتمان فقط لإثارة التشويق تجاه الفيلم الذي هو في مرحلة الخلق، ولم يكن أيضا بمنطق "داري علي شمعتك تقيد" وإن وجد، بل كان في الأساس كتمانا لتجنب فقدان صانع الفيلم لإحساسه الخاص بفيلمه عبر الحديث كثيرا وخلال فترات زمنية طويلة عنه.. ما يود حكيه، كيف يقوم بتصويره، كيف يراه.. إلخ. وبالتالي استهلاكه وجدانيا. ولنا أن نتخيل هنا الواقع الحالي النقيض، المتمثل في رحلات المخرجين عبر عدد من السنوات أمام لجان "المناقشة" في المهرجانات والأسواق السينمائية، وفي كل مرة تعرض تفاصيل فيلمك، يعطونك نصائح وتوجيهات، وإن أردت تمويلهم فعليك التعامل مع ما يقولونه بجدية. لا تجدي هنا نصيحة "ودن من طين وودن من عجين".

هذه الممارسة نفسها تضيف خطرا جديدا يلاحق المنتج الفني في طور التشكل، وليس فقط بسبب خطورة استهلاكه وجدانيا، أو ظهوره كمجموعة معادلات ميتة، بل أيضا لأن الرغبة في تغطية تكاليف الفيلم، أو جزء كبير منها، تدفع المخرج أحيانا إلى "النصب".

ربما يكون تعبير "النصب" قاسيا بعض الشئ، لكنه الأدق للإشارة إلى ما أعنيه، وهو ادعاء وجود عناصر في الفيلم لا توجد به أصلا، ومحاولة تلفيقها فنيا فيما بعد، كي تبدو وكأنها منسجمة سويا، لإرضاء عدد من جهات التمويل مختلفة التوجهات، فهم ساهموا في تمويل فيلم كما تتصوره وتراه كل جهة منهم، ومن الممكن ألا يكون هو نفس الفيلم الذي كان يحتل خيال مخرجه. فنجدنا بصدد عملية قص ولزق أو كولاج لعدد من العناصر الفنية التي من المحتمل ألا يوجد بينها أي هارموني، وتؤدي أحيانا إلى عملية تطويل مفتعلة لفيلم يبدو مناسبا كفيلم قصير، فيتحول بقدرة قادر إلي فيلم طويل مع الكثير من الصمت، والأفعال المكررة، والفصول المختلفة التي تتناول مواضيع متباينة أو بها ألعاب شكلانية متنوعة.. على أمل أن يرضي الجميع، وكي يتم تبرير التمويل الذي تم جنيه.

ربما يكون هذا النوع من النصب الفني هو الأقل ضررا، لأنه نصب يقوم به الفنان تجاه نفسه وتجاه فريقه وتجاه مشروعه، ولا يؤثر مباشرة علي الجمهور. فهذا الجمهور يستطيع أن يرفض الفيلم أو يمتنع عن مشاهدته. لكن النصب الأخطر هو النصب على الجمهور نفسه، بأختام ولوجوهات جهات التمويل التي تزين بدايات الأفلام باعتبارها علامة جودة. أو النصب علي الجمهور، الذي لا يملك بين يديه تاريخ السينما حاضرا ليراجعه إن أحب، فيذهب لمشاهدة فيلمك منساقا وراء جمل من نوعية "أول فيلم يعرض واقع الفئة الاجتماعية الفلانية".. "الفيلم الذي يكسر لأول مرة التمييز الذي مارسته السينما المصرية تجاه.......”.. "أول فيلم مصنوع بكاميرا الموبيل".. “اقتراب جديد من الفيلم الصوفي الاجتماعي.....”.. إلخ. والمتفرج العادي سيصفق مبهورا، لأنه لا يعرف أن هناك الآلاف من الأفلام المصرية وغير المصرية التي تم صنعها قبلا على هذا الطريق الذي يقولون عنه أنه جديد وأنهم أول من يطرقونه ويمهدونه، أو هو غير قادر علي كشف خواء كثير من المصطلحات المركبة التي لا تعني شيئا.

[اضغظ/ي هنا لقراءة الجزء الاول/الثاني/الرابع]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      "لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل". هذه العبارة لشادي عبد السلام (١٩٣٠-١٩٨٦)، قالها قبل وفاته بشهور، بحسب مجدي عبد الرحمن، أحد أصدقائه المقربين.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

      بالعودة إلى نجيب محفوظ، وفي سياق رده على ادعاء أن كل القصص قد حكيت، يقول عن الروائي الفرنسي "آلن روب جرييه": "أنه يصف الأشياء العادية وصفا مسهبا وكأنه عالم طبيعة وقع على حفرية نادرة، فأجرى عليها دراسة وصفية شاملة.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

      في المقال السابق أشرت إلى "بستفة" سينمائي مصري شهير لكتاب السيناريو من الشباب بأنهم لا ينظرون إلى الواقع. وحاولت أن أقترب قليلا من أحد جوانب الصورة، وهو الخاص بوهم أن كل القصص قد حكيت. لكن هناك جوانب أخري للصورة، أو حقائق لا يمكن إغفالها، منها الجانب الإنتاجي التقليدي، الذي سأخصص له هذا المقال، والبدائل الإنتاجية التي سأخصص لها المقالين التاليين.

عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

الفساد المباركي يحارب السينما التجارية

في المقال السابق أشرت إلى "بستفة" سينمائي مصري شهير لكتاب السيناريو من الشباب بأنهم لا ينظرون إلى الواقع. وحاولت أن أقترب قليلا من أحد جوانب الصورة، وهو الخاص بوهم أن كل القصص قد حكيت. لكن هناك جوانب أخري للصورة، أو حقائق لا يمكن إغفالها، منها الجانب الإنتاجي التقليدي، الذي سأخصص له هذا المقال، والبدائل الإنتاجية التي سأخصص لها المقالين التاليين.

علينا أن نتفق بداية على أن مناقشة أزمة أي وسيط فني أو ثقافي مع تجاهل لما هو مجتمعي وسياسي، تصل عادة إلى نتيجة بائسة وهي إلقاء اللوم على المبدعين في المجال أو الوسيط الذي نتناوله، لأنهم لم يتمكنوا من أن يكونوا مبدعين كباراً. وكأن المسألة على هذا القدر من الإرادية، أن أقرر أن أكون مبدعا كبيرا، وأن تتاح لي كل الفرص، وأن أستغلها كما يجب لإنجاز الأعمال العظيمة، وسيحيطني المجتمع بعطفه ورعايته واحتفائه، فأتمكن من الاستمرار في صناعة أعمال فنية كبرى.

وهو ما يتجاهل حقيقة تاريخية، وهي أن ظهور مبدعين كبار في أي مجال فني مرتبط دائما بظروف مجتمعية وسياسية محددة. والتاريخ يثبت أن ظهور الموجات الفنية الهامة، والتي تجد بداخلها عشرات من المبدعين المهمين، مشروط بحالة نهضة أو تنمية أو مشروع قومي طموح وتقدمي. أو مشروط بمراحل تغيرات كبرى.. ثورات وانتفاضات، أو حركات تمرد ونضال استثنائية في قوتها ومثاليتها، تفرز معها مبدعيها الكبار. لكن في فترات الانحدار لا توجد تيارات وإبداعات كبرى متعددة ومتنوعة، توجد فقط حالات فردية واستثنائية ومتناثرة.  

وبما أننا نتحدث عن السينما، جميعنا نعلم بأن السينما المصرية شهدت عدداً من هذه الموجات.. قبل ١٩٥٢ بارتباطها بتصاعد مد حركة التحرر الوطني. موجة الخمسينات والستينات التي ارتبطت بمشروع التنمية والمشروع القومي الذي انكسر وانتهى مع حرب الأيام الستة. وأخيرا حركات الاحتجاج الطلابية واليسارية أواخر الستينات وصولا لمنتصف السبعينات، والتي أفرزت ما يسمى بجيل الثمانينات في السينما المصرية، هؤلاء الذين قدموا أفلامهم القصيرة الأولى نهايات الستينات وأول السبعينات. وكان من الممكن أن تفرز ثورة يناير موجة جديدة، لو لم تهزم مبكرا.

ماذا يعرف جمهور السينما عن العلاقة بين المبدع السينمائي، المخرج في حالتنا، والمنتج؟ المتفرج العادي غالبا لا يعرف الكثير، بسبب غياب تراث مكتوب ومنتشر عن هذه العلاقة التي يتجنب أطرافها الحديث عنها عادة. لكن من يعملون في السينما يعرفون أكثر عن تاريخ وأنواع هذه العلاقة بين المخرج وبين من يملك الأموال، سواء بالتجربة المباشرة، أو عبر مذكرات السينمائيين الكبار.

 

[نور الشريف وتوفيق الدقن في فلم حدوتة مصرية ١٩٨٢ للمخرج يوسف شاهين]

ربما كان فيلم "حدوتة مصرية-١٩٨٢" ليوسف شاهين من الأفلام القليلة التي أشارت للعلاقة بين المنتج والمخرج في حالتنا المصرية، في هذا المشهد الذي يحاول فيه "يحيى شكري مراد" إقناع المنتج الذي يلعب دوره الفنان العظيم الراحل توفيق الدقن، المفترض فيه أنه والد زوجة المخرج، بإنتاج فيلم "باب الحديد”. في هذا الفيلم، ولأسباب درامية لها علاقة بتناول يوسف شاهين لذاته كمادة خام للفيلم، يجعل منتج باب الحديد هو نفسه منتج فيلم "ابن النيل"، في حين أنهما في الحقيقة ليسا نفس الشخص، فماري كويني هي منتجة ابن النيل، وداوود تلحمي هو منتج باب الحديد.  

في هذا المشهد، الذي به بعض المبالغات بالطبع، يحاول المخرج إقناع المنتج بإنتاج فيلمه الذي سيحقق إيرادات ضخمة، فهو أشبه بفيلم سكس، ويركز على مشهد هند رستم وزميلاتها يغرقونها تحت المياه لتلتصق ملابسها بجسدها. رغم المبالغة الدرامية، والتي لا مجال هنا للبحث عن أسبابها لخروجها عن موضوع المقال، يتم تلخيص جانب من جوانب العلاقة بين المخرج والمنتج.. المخرج يريد صناعة عمل فني، والمنتج مهموم بالإيرادات والسوق. وهي بالفعل العلاقة التقليدية الغالبة.

الأول لديه سيناريو، أو ملخص له، يقدمه للمنتج الذي إن رأى فيه عوامل جاذبية فسيقوم بإنتاجه بأمواله. أو سينتجه بما كان يعرف من قبل بسلفة التوزيع، حيث يقوم المنتج باقتراض أموال من الموزع علي حساب توزيع الفيلم والإيرادات التي سيحققها. في هذه العلاقة التقليدية لا أستطيع في أغلب الحالات أن أتخيل المنتج يسأل المخرج عن السبب الذي يجعله يريد عمل هذا الفيلم. فإجابة هذا السؤال موجودة عادة في السيناريو، في الورق، الذي من المفترض أن تكون قصته جاذبة بالدرجة الكافية للمخرج كي يرغب في إخراجه أو تنفيذه سينمائيا.

وربما كانت الحوارات تدور بين الاثنين حول جوانب جاذبية القصة، لو كانت غير واضحة بما يكفي بالنسبة للمنتج، أو حول جوانب إنتاجية وتقليل التكاليف عبر إجراء بعض التعديلات على السيناريو. والمنتج المقصود هنا ربما يكون منتجاً فرداً، أو ربما يكون الدولة من خلال مؤسسة السينما التي أنتجت خلال عشر سنوات، وهي سنوات الستينات تحديدا. والاثنان، المنتج الفرد ومؤسسة السينما، كان يتملكهما غالبا نفس المنطق وطرق عمل متشابهة. مع تمييز أن مؤسسة السينما لم يكن من المفترض فيها تحقيق الأرباح الضخمة، وأن الهدف الثقافي التنويري كان من ضمن أهدافها. فمن الصعب تخيل صلاح أبو سيف خلال إدارته للمؤسسة يناقش زملاءه من المخرجين حول ما يريدونه من أفلامهم، حتى يقرر إن كانت المؤسسة ستنتجها أم لا.  

كانت هذه هي الطريقة التقليدية المتوازية أحيانا مع طريقة أخرى، وهي العلاقة المباشرة بين المنتج والسيناريست، أو علاقة المنتج بالسيناريو عبر نجم أو نجمة لديهم السيناريو ويريدونه أن ينفذ وأن يكونوا أبطاله. وفي هذه الحالة يقوم المنتج باستدعاء المخرج الذي يثق به، أو الذي يراه مناسبا لإخراج الفيلم، ويكلفه به. بالطبع دون إنكار الوجود الدائم للاستثناءات داخل عملية اتخاذ القرار الإنتاجي. لكن الملامح العامة تظل هي السائدة في كل أنواع السينما المقدمة في مصر بشكل عام، سواء كانت أفلاماً مختلفة/بديلة/تصنع لطموحات فنية بالدرجة الأولي، أو الأفلام التي نسميها "تجارية". ولندع جانبا حالة سينما المقاولات، لأنها حالة خاصة داخل السينما التجارية، ولنترك أيضا جانبا تجربة “أفلام مصر العالمية – يوسف شاهين وشركاه” لأنها كانت أيضا حالة إنتاجية وفنية خاصة داخل السينما المسماة بالبديلة/المختلفة/أو صاحبة الطموحات الفنية.  

 

[المخرج المصري صلاح أبو سيف]

الملاحظة الضرورية هنا هي.. أن تعبير السينما التجارية قد تحول إلى سبة في الأوساط السينمائية والمثقفة بالتدريج. في حين أن تاريخ السينما التجارية المصرية مليء بالأفلام المصنوعة بشكل جيد، وعلى درجة عالية من الحرفية، بالرغم من أن هدفها الأساسي كان الربح أو شباك التذاكر. وتحول تعبير "تجاري" ليتحول إلى سبة حدث كتطور طبيعي للعقود الأخيرة من التلقي. حيث لم يعد لدينا أي تنويع في أفلام السينما التجارية، أصبحت مجرد سينما رديئة في مجملها. مع استثناءات قليلة جدا، أغلبها يصنع سريعا، ويعتمد على عدد من التوليفات التجارية المكررة والتي تم إعادة إنتاجها مئات - وربما آلاف - المرات من قبل. ولم يعد الهم الحرفي التقني يقف كهاجس في أي لحظة خلال عملية صناعة هذ النوع من الأفلام. وبما أن الإنتاج الحالي، نتيجة الانهيار المجتمعي والثقافي الشامل، بداية من العقد الثاني لحكم مبارك، في أغلبه شديد الرداءة، فمن الطبيعي أن يكون تعبير السينما التجارية مرادفا للسوء.  

بداية من منتصف التسعينات، ومع ظهور قوانين نظام مبارك الجديدة للسينما، والمتعلقة بالشركات الكبيرة والإعفاءات الجمركية والضريبية على أعمالها، وخصخصة أصول السينما وبيع الكثير منها، والتي تزامنت مع بداية طفرة الفضائيات، حدث تحول شديد الأهمية في ميكانيزمات الإنتاج السينمائي المصري. وأؤكد هنا على تجنب استخدام تعبير "صناعة سينما"، لأن الواقع يقول لنا إنه لم يعد لدينا صناعة بمعنى صناعة منذ وقت طويل. في هذه اللحظة التسعينية، ومع القوانين الجديدة، تم إنهاء وجود الكثير من المنتجين الصغار والمتوسطين، تبقى منهم بعض المعافرين (من المعافرة، الإصرار) القليلين جدا، بينما تركزت رؤوس الأموال الخاصة بالإنتاج والتوزيع في يد الشركات الكبيرة، التي احتكرت السوق، وجعلته يقع بالكامل تحت سلطة اثنين أو ثلاثة من المنتجين، يصنعون نفس السينما محدودة الطموح، وقد أغلقوا الباب أمام أي محاولات متلهفة لصنع ما هو مختلف. 

كرد فعل على هذا الواقع الجديد، وكمحاولة للهرب من أن يكون المصير هو العمل في الفيديو كليب والإعلانات أو التلفزيون، وكمجاراة لما يحدث في بعض السينمات غير المصرية، تظهر هنا محاولة لتأسيس عدد من الدوائر الشابة تحت عنوان فضفاض وهو "السينما المستقلة"، وتحديدا في بداية حقبة الألفين، كمحاولة لـ "الفلفصة" من هذا الواقع الجديد والقبيح. ولن أناقش هنا هذه المحاولة لسببين، تشككي الدائم في مفهوم "المستقلة"، منذ بداية ظهوره وحتى الآن. بالإضافة إلى أن هذه المحاولات تستحق كتابة منفصلة تماما. لكن هذه المحاولة/التجربة انتهت بعد سنوات قليلة ولم تؤثر فعلا في أكثر من بضعة مئات من مشاهدي شاشات المثقفين في المراكز الثقافية، أو مركز الإبداع بالأوبرا، وبعض المهرجانات التي شطبت علاقتها بالجمهور الواسع. ليكون الحصاد الأخير لها عبارة عن بضعة عشرات من الأفلام، أغلبها أفلام تسجيلية وقصيرة، وبعض الأفلام الطويلة، وإنتاج في أغلبه محدود القيمة.  

 بعد هذا الانحسار في طرق الإنتاج التقليدية، و"المستقلة"، ما هي منافذ الإنتاج السينمائي الحالي وخلال الخمس عشر سنة الأخيرة؟ في تقديري لا تخرج عن ثلاثة:  

أولها بواقي الإنتاج التجاري التقليدي في أسوأ صوره. أن يكون لديك سيناريو به بعض التوليفات الجاذبة للجمهور الواسع في مواسم العرض.. العيدين وإجازة نصف السنة.. إلخ. يوافق عليه منتج من المنتجين القليلين، السيناريو يحمل موافقة نجم أو نجمة – أحيانا يقومون هم باستدعاء السيناريست والمخرج كي يكتب على مقاسهم – والنتيجة فيلم "تيك أواي" مناسب للاستهلاك السريع والنسيان السريع أيضا. وعلى القارئ ألا يغفل أن “التيك أواي” نسبي، وليس له قيم محددة سواء على مستوى وقت الانتاج المتاح، أو على مستوي الميزانية. فيتواجد داخل هذا النوع الإنتاجي أفلام تبدو كبيرة، لكنها في الحقيقة لا تخرج عن نطاق الإنتاج التجاري التقليدي بعد انهياره.  

ثانيها هو طريق المعافرة الفردية والأشبه بالتعاونيات المشكلة من صانعي الفيلم، لتنتهي مع نهايته. وهذا النوع من طرق الإنتاج محدود جدا في الحالة المصرية، لكنه قد تحقق في بعض التجارب، عن طريق تعاون فريق الفيلم مع الممثلين - إن كان فيلما روائيا - وفي بعض الأحيان يتم اللجوء إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بالتمويل الصديق.. أو "الكرو فاندينج" لجمع بعض الأموال كي يخرج الفيلم للنور، دون أن يتقاضى الأشخاص الأساسيون في عملية صناعة الفيلم أجورهم. فالأجر هنا يتحول إلى حصص في الأرباح، إن وجدت، ونادرا ما توجد.  

لكن مشكلة هذا الميكانيزم الإنتاجي هي أنه مهلك للدرجة التي لا يستطيع المخرج أن يحقق أكثر من فيلمين بهذه الطريقة خلال حياته، سواء بسبب الطاقة المهدرة، أو بسبب أن السينمائيين المشاركين هم أيضا بحاجة للعمل فيما يسمى بـ “السوق” كي يتمكنوا من كسب قوتهم.

 أما المنفذ الثالث فهو ما يمكن أن نسميه بسينما الدوائر المثقفة المتضامنة مع أعضائها فيما بينهم، ليس عبر التعاونيات، بل عبر صناديق التمويل التي تتحكم فيها بالدرجة الأولى العلاقات ودرجات القبول الشخصي. وهو ما يقدم حاليا باعتباره السينما الفنية/الجيدة/البديلة.. إلى آخر هذه التسميات.

وعلى السينمائي الطموح والراغب في أن يصنع فيلمه أن يختار بين هذه الطرق المتاحة، وهو على علم تام بأن فرصته في إخراج فيلمه ربما تكون الفرصة الوحيدة التي سينالها طيلة حياته. وهو كذلك واع بأن عليه ألا يحاكم نفسه في اللجوء إلى الطريق الذي اختاره، وأن عليه تفهم خيارات الآخرين المختلفة. فالجميع على علم تام بمدى صعوبة إنجاز فيلم سينما في مصر

حاليا، صعوبة تصل أحيانا للاستحالة. وربما يكون الوعي بهذه الحقيقة هو الوعي الأوضح الذي يوحدنا جميعا.

[اضغط/ي هنا للجزء الأول/الثالث/الرابع]