ديناميات التعبئة الجديدة لانتفاضة السودان الشعبية: فضيلة التعلم من الماضي

ديناميات التعبئة الجديدة لانتفاضة السودان الشعبية:  فضيلة التعلم من الماضي

ديناميات التعبئة الجديدة لانتفاضة السودان الشعبية: فضيلة التعلم من الماضي

By : Khalid M. Medani

[نشر هذا المقال للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية. قام بترجمته إلى العربية أسامة إسبر.]

تسقط بس

لأكثر من شهرين، وبزخم متصاعد، تواصلت احتجاجاتٌ واسعة النطاق دعتْ إلى تنحي الرئيس عمر البشير وتمهيد الطريق لمرحلة انتقالية تؤدي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب.  ولم يكن مفاجئاً، كما حدث في احتجاجات مشابهة في الماضي، لجوء نظام البشير إلى الحل العسكري لاطفاء جذوة الاحتجاجات، ونشر الشرطة وقوى الأمن ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم وأنحاء البلاد. وفي وقت كتابة هذه السطور، قُتل أكثر من ستين شخصاً، قضى كثير منهم تحت التعذيب في ”بيوت الأشباح“. وما يزال أكثر من ألفي ناشط معارض للحكومة في غياهب السجون على الرغم من إصرار النظام المتكرر أنه ينوي إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

أعلنت الحكومة مراراً أن الاحتجاجات صغيرة نسبياً وتأثيرها محدود على النظام، أو أن المظاهرات يرعاها مخربون، وقطاع طرق، أو ”عناصر أجنبية“. وعلى الرغم من مزاعم كهذه، أحدثت الانتفاضة الشعبية تغيرات أساسية في سياسة النظام، وقوضت أيضاً وبوضوح حكم عمر البشير بطرق هددت بإسقاط حكمه الاستبدادي الذي يرزح منذ ثلاثين عاماً. وفي الأسبوع الماضي، وفي أعقاب مظاهرات متواصلة ومتصاعدة، وإضرابات واعتصامات شملتْ المجتمع المدني السوداني،  أُجبر البشير على تأجيل تعديلات دستورية كانت ستسمح له بالترشح لولاية رئاسية ثالثة. وأعلن أيضاً حالة الطوارئ في الخرطوم، وحل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات وعين محلهم ضباطاً كباراً من الجيش في محاولة يائسة للاحتفاظ بسلطته. على أي حال، يبدو أن سياسات التهدئة والقمع شدّت من أزر المحتجين المعارضين للحكومة أكثر.  وكان من الواضح أن إعلان حالة الطوارئ يهدف إلى منح القوى الأمنية الضوء الأخضر كي تستخدم عنفاً أكبر  ضد المحتجين، وأن تزيد من تقييد الحركات السياسية والمدنية، والهجوم أكثر على الناشطين وأحزاب المعارضة السياسية. وعلى الفور بعد إعلان البشير لحالة الطوارئ عاد المحتجون إلى الشوارع في أكثر من خمسين حارة في أنحاء البلاد، وخاصة في الخرطوم وأم درمان. ودعا المتظاهرون مرة ثانية إلى إسقاط البشير. ورددوا بين شعارات أخرى، إحدى اللازمات الرافضة للمساومة والأكثر شعبية في الانتفاضة الحالية: ”تسقط بس“.

الأطرافكمُحَفِّز للانتفاضة

نشبت الاحتجاجات الأخيرة في 19 كانون الثاني 2018 في مدينة الطبقة العاملة عطبرة في ولاية نهر النيل، والتي تبعد تقريباً مائتي ميل إلى الشمال من الخرطوم. وقد انقدحت شرارتها بسبب زيادة بلغت ثلاثة أضعاف في سعر الخبز  وبدأت باحتجاجات قادها طلاب مدرسة ثانوية، انضم إليهم بسرعة آلاف المقيمين في مدينة عطبرة. وفي غضون أيام، توسعت المظاهرات المعارضة للحكومة في سلسلة واسعة من المدن والبلدات في أنحاء الإقليم الشمالي وفي العاصمة الخرطوم.  وردد المتظاهرون شعارات مثل ”الشعب يريد إسقاط النظام“ )والتي ألهمتها الانتفاضات العربية في 2010 و2011 في تونس( ثم سرعان ما وسّعوا مطالبهم بطرق عكست مظالم سياسية واقتصادية متأصلة وواسعة النطاق  سببها نظام عمر البشير وحكمه الذي استمر ثلاثين عاماً وحزبه الحاكم، حزب المؤتمر الوطني. وعلى الرغم من حقيقة أن المظالم السياسية والمطالب هي الآن في واجهة الانتفاضة، إلا أنه من المؤكد تقريباً أن هذه الاحتجاجات سببتها في البداية مظالم سياسية تعود إلى عواقب انفصال جنوب السودان في 2011.  وكما هو ملاحظ الآن على نطاق واسع، قاد هذا إلى فقدان الخرطوم 75٪ من عائدات النفط بما أن ثلثي الموارد النفطية في الجنوب، وبالتالي خسرت تقريباً  60٪ من  ريعها من العملة الأجنبية. ونتيجة لهذا، طبق نظام البشير إجراءات تقشف في بداية 2012 أدت إلى احتجاجات مشابهة مضادة للتقشف في ذلك الوقت، على الرغم من أن معظمها كان متركزاً في الخرطوم ولهذا كانت أكثر مركزية من الاحتجاجات الحالية.  وعلى نحو مشابه، كان أحد العوامل الرئيسية هو تطبيق إجراءات تقشف مدعومة من صندوق النقد الدولي قادت إلى رفع الدعم عن الخبز والوقود مما سبب بسرعة أولى المظاهرات في 19 كانون الأول 2018.  وما يجب التشديد عليه نظراً لأهميته هو أن هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد معارضة لإجراءات التقشف الاقتصاد، بل كانت جوهرياً نتيجة معارضة مفهومة على نطاق واسع لعقود من الفساد المتفشي بما فيه سياسات ”الخصخصة“ التي حولت الأرصدة والثروة إلى داعمي النظام، وسرقة الذهب وكذلك بلايين الدولارات من الأرباح من فترة ازدهار النفط في البلاد.

نموذج جديد للتعبئة والاحتجاج

كما حدث في مدن الأطراف، بدأت الاحتجاجات في الخرطوم أيضاً  بسبب أزمة سياسية عميقة مرتبطة بارتفاع أسعار الوقود والخبز وكذلك أزمة سيولة مالية حادة. لكن هذه المطالب تطورت بسرعة إلى دعوات لإسقاط البشير.  وما هو مهم في هذا السياق هو أن التجمع المهني السوداني الذي كان له قصب السبق في تنظيم وتحديد مواعيد الاحتجاجات، سار في البداية إلى البرلمان في الخرطوم في أواخر كانون الأول مطالباً بزيادة في أجور عاملي القطاع العام وشرعنة النقابات العمالية والمهنية. على أي حال، بعد أن استخدمت قوى الأمن العنف ضد المحتجين السلميين، تصاعدت هذه المطالب بسرعة إلى دعوة لإسقاط حزب المؤتمر الحاكم، والتحول البنيوي للحوكمة في السودان، والانتقال إلى الديمقراطية.

تشبه هذه المطالب تلك التي نادت بها احتجاجات شعبية سابقة ضد النظام في 2011 و2012 و2013. وما هو أكثر لفتاً للانتباه حيال هذه الاحتجاجات هو أنها غير مسبوقة من ناحية استمراريتها وديمومتها (دخلتْ الآن شهرها الثالث)، وانتشارها الجغرافي في البلاد كلها، والتحالف الملحوظ  بين المجموعات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة السياسية التي انضمت. وما يعادل هذا في الأهمية، هو تنسيق هذه المظاهرات الذي اتبع سيرورة متواصلة إبداعية وجديدة بشكل لافت. ومن المهم التشديد على ذلك لأنه يظهر بوضوح أنه، تماماً كما قام نظام عمر البشير الدكتاتوري بإضعاف المعارضة من أجل منع أي تهديد لنظامه من خلال تفكيك النقابات العمالية، وتأسيس سلسلة واسعة من الميلشيات شبه العسكرية المرتبطة بالدولة، وقمع المعارضة المسلحة والناشطين المعارضين للحكومة في المجتمع المدني، تعلم المتظاهرون أيضاً من الاحتجاجات الفاشلة المعارضة للنظام التي جرت في الماضي. وبقيادة تجمع المهنيين السودانيين المشكل حديثاً، تم تنسيق الاحتجاجات الحالية وجدولة مواعيدها وتصميمها استراتيجياً كي تؤكد الاستمرارية الزمنية بدلاً من مجرد العددية، وكي تنتشر عبر الطبقة الوسطى والعمالية والحارات الفقيرة، وتنسّق مع المحتجين في مناطق نائية عن الخرطوم  بما فيه الولاية الشرقية على البحر الأحمر، ودارفور إلى الغرب البعيد في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، إن الشعارات التي عززها واستخدمها المحتجون صيغت أيضاً بشكل هادف كي تعبر عن مظالم طيف واسع  من السودانيين وليس فقط الطبقة الوسطى والنخب الإثنية والسياسية المتركزة في الخرطوم والأقاليم الشمالية. وصيغت هذه الشعارات بطرق مصممة لتعبئة الدعم عبر الفئات الإثنية والعرقية مؤكدة على أن الطريق الوحيد إلى الأمام هو إسقاط عمر البشير والنظام الحاكم.  وبفعلها لهذا، شددت على المستوى المتوطن وغير المسبوق من فساد النظام وحلفائه وعقود انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين في البلاد على يد قوى الأمن، وفي الحروب الوحشية التي شنها النظام في دارفور، وولاية النيل الأزرق على حدود جنوب السودان، وجبال النوبة في جنوب كردفان.

وفي الحقيقة، ربما كان أحد المظاهر الأكثر بروزاً لهذه الاحتجاجات، والذي ميزها بشكل كبير عن الانتفاضات السابقة ليس فقط مجرد وزنها المناطقي بل المستوى العالي غير المسبوق من التضامن عبر الخطوط الطبقية في البلاد. إذ لم يقم الناشطون الشباب وأعضاء التجمعات المهنية بتحدي الخطاب السياسي للدولة فقط، بل لعبوا أيضاً دوراً مهماً في هندسة تحالفات عابرة للطبقات في سياق هذه المظاهرات. وفي الأسبوع الماضي، تم التوقف عن العمل، والإضرابات عن العمل، والاعتصامات لا في الجامعات والمدارس الثانوية فحسب بل أيضاً بين موظفي القطاع الخاص والعام والعمال. ومن الأمثلة الأكثر أهمية الإضرابات المتواصلة لميناء السودان على البحر الأحمر والتي طالبت بإلغاء بيع الميناء الجنوبي لشركة أجنبية وتمت عدة إضرابات عن العمل ونشبت احتجاجات قادها موظفو أهم الشركات المزودة لخدمة الاتصالات وشركات خاصة أخرى في البلاد.

سيناريوهات:

احتمالات انتقال سلمي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب

إن احتمال أن تقود الانتفاضة إلى انتقال ديمقراطي تعادله في الأهمية الطبيعة الناشئة وبالغة التعقيد لمطالب المتظاهرين فيما تتواصل الاحتجاجات دون توقف. كانت الأهداف الأولية للمتظاهرين هي مجرد الإطاحة بعمر البشير ونظامه. لكن مستوى المظالم والغضب بين السكان جعل هذا الأولوية الأكثر أهمية في بداية الاحتجاجات. على أي حال، وبعد أن أصبح تنسيق هذه الاحتجاجات أكثر تعقيداً بشكل متزايد، وخاصة تحت قيادة التجمع المهني السوداني فإن أهداف غالبية المحتجين الآن ليست إنهاء نظام عمر البشير الدكتاتوري فحسب (والذي يبقى أولوية) بل أيضاً تحضير وتمهيد الطريق لفترة انتقالية تتألف من أربع سنوات تؤدي إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب في البلاد. وفي هذه اللحظة ينخرط الناشطون السودانيون وحزب المعارضة السياسية وقطاع واسع من منظمات المجتمع المدني في مناقشة سيناريوهات متنوعة محتملة بما فيه احتمال أن تقف القوات السودانية المسلحة إلى جانب الاحتجاجات وتشرف على الانتقال الديمقراطي كما في الماضي، وانقلاب داخلي في القوات المسلحة يقوي الحكم الاستبدادي بقيادة جديدة، أو انهيار المركز وتفكك الدولة كما حصل في ليبيا والصومال. وفي النهاية، ستعتمد نتيجة هذه الاحتجاجات، على نحو غير مفاجئ، على التحالف المتواصل بين المحتجين والمتظاهرين ومواصلة الاحتجاج، وسلطة وقوة الاستخبارات الوطنية والقوى الأمنية والميليشيات شبه العسكرية، ومدى دعم القوى الخارجية الإقليمية، خاصة في المنطقة، للنظام في الخرطوم خوفاً من تقوض مصالحها الإقليمية بعد إسقاط البشير من السلطة.

إن التوازن بين الأنشطة المحلية المعارضة للحكومة ومنظمات المجتمع المدني، وبين جهاز أمن الدولة والرعاية الخارجية هو بالطبع جوهري للخروج بأية سيناريوهات في المستقبل ومعروف جيداً.  وما يهمنا هنا هو أفعال البشير مؤخراً والتي بينت أن المظاهرات غيرت ديناميات النظام الداخلية وحساباته. ونتيجة لتصاعد الاحتجاجات في المناطق، سافر البشير إلى مناطق لم يزرها أبداً من قبل، ونتيجة لاحتجاجات ضد التعذيب والعنف المتواصلين ضد المتظاهرين، قام ببعض العروض الفاترة مثل إطلاق سراح بعض السجناء السياسيين، وفيما تواصلت الاحتجاجات دون توقف، اقترح المؤيدون داخل برلمانه مؤخراً جداً أن يعلن رسمياً أنه لن يغير الدستور ويترشح لولاية رئاسية ثالثة. ومن المؤكد تقريباً بأن هذا يعكس وجهة نظر البعض في بطانته الداخلية للتوصل إلى مخرج للبشير بطرق تهدىء الاحتجاجات والإضرابات عن العمل وإضرابات العمال والاعتصامات التي حولت الآن الاحتجاجات من ما دعي ب“احتجاجات شارع“ إلى حركة اجتماعية بدلت المشهد السياسي والثقافي السوداني لعقود قادمة. وكان محورياً لهذا التبدل النقد الحاد ومقت الناشطين للمشروع الإسلامي لحزب البشير الحاكم حزب المؤتمر الوطني وداعميه الإسلاميين الذي جعل نظام البشير في أعين معظم السودانيين  مجرد طغمة حاكمة تتألف من تجار الدين. وتفيد التقارير بأن المعارضة واسعة النطاق للنظام توسعت إلى درجة أن وزارة للبشير أقرت أن المعارضة الآن في ”جميع المنازل“، ناهيك عن ذكر كثير من المساجد في الخرطوم وفي أنحاء البلاد.  وفي أثناء كتابتي لهذه السطور، ظهرت انقسامات عميقة داخل النظام  نفسه.  ففي صباح 22 شباط أعلن الرئيس القوي لأجهزة الاستخبارات والأمن الوطني السوداني صلاح قوش أن البشير سيتنحى من منصبه كرئيس لحزب المؤتمر الوطني الحاكم ولن يتم تعديل الدستور من أجل إعادة انتخابه في 2020. لكن في خطاب متلفز فيما بعد في المساء نفسه، ناقض البشير تصريحات رئيسه الأمني وأكد أنه بينما سيؤجل التصويت في البرلمان على تعديل الدستور سيبقى رئيساً للدولة، وأعلن حالة الطوارئ لمدة عام واحد. ومن المؤكد تقريباً أن هذه المظاهرات سجلت نجاحاً ملحوظاً بطرق كان قلة سيتنبأون بها قبل 19 كانون الأول. إذ حدث تنشيط ملحوظ للمجتمع المدني في السودان رغم عقود الحكم الاستبدادي وسياسة التقسيم عبر الخطوط الإثنية والعرقية والطبقية. لكننا يجب أن نكون دقيقين حيال هذه المسألة. لم يكن الأمر مجرد ظهور مجتمع مدني قوي بمعنى يكتنفه الغموض بل حدث بالأحرى تنشيط للنقابات العمالية والمهنية في وقت كان الجميع سيتنبأون فيه بنهايتها ويؤكدونها.  يجب ألا يغيب عن انتباهنا أيضاً التمكين اللافت لحراك الشباب واستخدامهم للإعلام الاجتماعي للمساعدة في تنسيق المظاهرات عبر الخطوط الطبقية والإقليمية والعرقية بدلاً من التعبير ببساطة عن حساسية طبقة وسطى ونخبوية وسياسية ضيقة، وكان هذا نقد تم توجيهه إلى حراك الشباب في أنحاء المنطقة. إن  شجاعة وجرأة الناشطين الشباب في السودان والمنطقة لا يعتريهما شك. وما نراه في السودان هو إضافة إلى هذا العرض من الشجاعة اللافتة في التنسيق الوثيق بين  الناشطين عبر الحملات المتكررة في حارات الطبقات الوسطى والعمالية لدعم الريف، وحدث تعاون لافت بين الجنسين عزز التبدل السياسي والثقافي الذي أنجزته المظاهرات. وحين دعا البشير مؤخراً، معترفاً بالدور البارز للنساء في المظاهرات، إلى تغيرات في قانون النظام العام الذي أساء للنساء السودانيات وحط من قدرهن لعقود، أجابت الناشطات النسويات على الفور أن صراعهن لا يتمحور فقط حول قانون النظام العام، بل يركز على إسقاط نظام استبدادي والعمل على توسيع الحريات المدنية والسياسية لجميع السودانيين.

إن الانتشار الواسع للانتفاضة السودانية واستمرايتها غير مسبوقين في تاريخ البلاد. كما أن التنسيق والصلات التي عقدتها التجمعات المهنية الرسمية ونقابات العمال ومنظمات المجتمع المدني والناشطين الشبان مع الشرائح الشعبية والعمالية  في الاقتصاد غير الرسمي (الذين هم جوهرياً عمال في الاقتصاد غير الرسمي) من الأسباب الأكثر أهمية لاستمرارية الاحتجاجات.  ذلك أن النجاح في التنظيم عبر الطيف الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي هو الذي مد في عمر الاحتجاجات.  ولم تكن فكرة انخراط النقابات العمالية والمهنية مع الناشطين في الشوارع والعمال في الاقتصاد غير الرسمي قابلة للتصور أو التمكين من قبل كثير من الفاعلين السياسيين الذين انخرطوا في احتجاجات شعبية سابقة. لكن هذا التطور لعب دوراً أساسياً في استمرار الاحتجاجات وفي تقويض نظام البشير بطرق لم يكن ممكناً التنبؤ بها بسهولة حين نشبت الانتفاضة في البداية في عطبرة، مدينة الحديد والنار في ولاية نهر النيل.

 وبعد إعلان حالة الطوارئ وحل حكومة الوفاق الوطني وحكومة الولايات عيّن البشير ضباط أمن وضباطاً من الجيش كحكام لولايات البلاد الثماني عشر. ومؤخراً جداً، استقال البشير من حزب المؤتمر الوطني الحاكم وعيّن حليفه الوثيق أحمد هارون نائباً لرئيس الحزب. وهارون المدان مثل البشير بجرائم حرب في دارفور أعلن حواراً وطنياً مع المعارضة. وهذا تكتيك شفاف يُستخدم كثيراً للحفاظ على حكم حزب المؤتمر الوطني والقيام باسترضاء شرائح من المعارضة.  إن محاولة القيام بالحوار الوطني لا تهدف إلى استرضاء المعارضة فحسب، بل  أيضاً إلى حماية من السيناريو المحتمل (والأكثر تهديداً) وهو أن تصف شرائح متوسطة الرتبة من الجيش في النهاية مع المحتجين، وتطيح بالبشير وحزب المؤتمر الوطني، ثم تشرف على انتقال إلى نظام حكم جديد.

يحافظ نظام البشير على حكمه من خلال مزيج من القمع وتقسيم المعارضة وبالتالي استرضاء قيادات رئيسية من الأحزاب السياسية التقليدية. وبفعله لهذا، يحاول أن يحمي نفسه من وقوف الجيش مع المحتجين، والإطاحة بالبشير وحزب المؤتمر الوطني والإشراف على تحول إلى نظام حكم جديد.  ويواصل النظام تشديده أن المظالم التي أدت إلى الاحتجاجات اقتصادية وليست سياسية، وأنه يعوّل على كبح التضخم المتزايد وجذب الاستثمار والمساعدة الأجنبية في غضون العام القادم.  وبشكل أكثر تحديداً، يعوّل البشير على بناء روابطه مع جوبا (جمهورية جنوب السودان) من أجل أن يبدأ من جديد بإنتاج النفط في البلاد. ويأمل أن يؤمن عائدات جديدة من أجور الترانزيت وخط الأنابيب وفق ترتيبات موجودة لوقف تدهور الجنيه السوداني وتمويل شبكات المحسوبية التابعة للنظام.   

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬