عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

[الكاتب الفرنسي آلن روب جرييه] [الكاتب الفرنسي آلن روب جرييه]

عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الرابع

By : Basel Ramsis باسل رمسيس

سينما لن تمنحك المتعة، لكنك ستمنحها التقدير 

بالعودة إلى نجيب محفوظ، وفي سياق رده على ادعاء أن كل القصص قد حكيت، يقول عن الروائي الفرنسي "آلن روب جرييه": "أنه يصف الأشياء العادية وصفا مسهبا وكأنه عالم طبيعة وقع على حفرية نادرة، فأجرى عليها دراسة وصفية شاملة. إنه يصف مثلا أكرة باب أو نافذة في عدد كبير من الصفحات في دقة وإسهاب تبعث على الملل، بل وعلى أكثر من الملل، لدرجة أن كثرة التفاصيل غير الهامة تحير القارئ في المعني الذي يرمي إليه الكاتب".

على الأغلب لم يشاهد نجيب محفوظ الأفلام التي ظهرت كموضة خلال بداية حقبة الألفين، ومستمرة كموضة حتى الآن، وبالذات في مجال السينما التسجيلية ونوع السينما الروائية التي تستعير أدوات واستراتيجيات الفيلم التسجيلي، وتقدم حالة شبيهة بتلك التي يصفها بخصوص الكاتب الفرنسي، الذي كان من المهللين لموت الرواية، حيث أن هذه الأفلام انتشرت بعد محاولة اغتياله ودخوله في عزلته الأخيرة.

المقصود هنا ليس فقط الأفلام الطويلة أو متوسطة الطول التي يصنعها عادة بعض الأوروبيين والأمريكيين الشماليين عن مجموعات إثنية في بعض مناطق الغابات في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، باعتبار أن هؤلاء البشر حيوانات غريبة في غابة. هذه الأفلام هي مجرد أفلام تحمل أفكارا عنصرية وكولونيالية، وبعض صانعيها لا يدركون هذه الحقيقة عن أفلامهم، لأنهم لم يطرحوا على ذواتهم سؤالين جوهريين لصنع فيلم.. "ماذا أريد أن أحكي؟"، و"ما نوع العلاقة التي أود أن أخلقها بين المتفرج وبين الشخصية أو الشيء اللذين يتم تناولهما؟". وهما السؤالان، اللذان في حالة الإجابة عليهما بوعي، يجعلان كل الإجابات على كل الأسئلة اللاحقة، سواء كانت أسئلة متعلقة بالشكل أو المضمون، تأتي بسهولة وباتساق مع إجابة السؤالين الأساسيين. هذه الأفلام تجعل المشاهد المطلع يتمنى أحيانا أن يحدث ما هو مستحيل التحقق.. أن توضع على مداخل قارتي أفريقيا وأمريكا اللاتينية يافطة تشير إلى "ممنوع دخول الرجل الأبيض مادام يحمل الكاميرا".

لكن الأفلام المقصودة أكثر هي تلك الأفلام التي تأثرت بحكمة خلافية أبدعها الرجل الأبيض نفسه، ومفادها "العقل يسجل ماهو متخيل، ماهو روائي، ما هو غير حقيقي.. أما الكاميرا فتسجل الحقيقة". هذه الحكمة الخلافية ليست بعيدة تماما عن هذه الموجة من أفلام المراقبة المستمرة للبشر، الذين يحاولون تمثيل أنهم لا يلاحظون وجود الكاميرا، وتتم إدارتهم كي يقوموا بتمثيل حياتهم الحقيقية، ولكن دون أن يفعلوا شيئا، دون أن توجد أحداث درامية حقيقية، أي دون قصص. مجرد كاميرا متلصصة ترصد برتابة وبملل ما "لا" يحدث أمامها. تقدمه باعتباره الحقيقة، وعلى ذهنك – إن عدنا للحكمة البيضاء – أن ينسج ويتخيل ما يتمناه من قصص.

هي أفلام لا تحقق لمشاهديها أي متعة، لكنهم مضطرون للتصفيق لها، بسبب سطوتها المثقفاتية والمهرجاناتية. وكثيرا ما نجد حولها عملية تنظير على التنظير، أي بعض النخب السينمائية التي تسوقها باعتبارها دراسة سينمائية لما يسمونه بـ "الغابة البشرية”. “الغابة البشرية"!! مصطلح يدفعك إلى أن تشاهد الشخصيات التي تحتل الشاشة باعتبارها حيوانات غريبة، في مجتمعات غريبة هي محل للدراسة وللرصد وللتلصص، وليس التفاعل. حيوانات وليسوا بشرا لهم دوافعهم التي تقف وراء الأفعال التي يقومون بها. وبخصوص الأفعال، فأن أي فعل ولو شديد التفاهة أو محدود الأهمية ستقوم به هذه الشخصيات المتواجدة أمام الكاميرا ينبغي عليك أن تراه وكأنه فعل ذو طاقة درامية عظيمة ومتفجرة.

ومثلما كان الكاتب الفرنسي ليس لديه ما يحكيه – بناء علي نجيب محفوظ – فإن صانعي هذه الأفلام غالبا ليس لديهم أيضا ما يحكونه، أو أنهم لم يطوروا قصصهم كما يجب، أو هم واعون بجوانب ضعفها.. فنغرق في ساعة ونصف من الصمت، والأفعال المتكررة، دون أي فعل درامي حقيقي، فعل قادر علي دفع القصة للأمام وتطوير حبكتها، فنكتفي بغرائبية البشر، وبهذا الحاجز من الزجاج البارد الذي يفصلنا عنهم، ويمنعنا من أن نشعر بهم.

وسؤال المتعة ليس سؤالا تافها، ولم يكن أبدا حكرا على السينما التجارية، بل هو سؤال في غاية الأهمية. فالمتعة هي أحد شروط الفن، أن يمنحني العمل الفني أي نوع من أنواع المتعة، ولا أقول التسلية. والمتعة من الممكن أن تكون أن يحاورني صانع الفيلم عقليا بندية واحترام، فيجعلني أرى ما لم أراه من قبل، أو أعيد اكتشاف ما أراه يوميا، بشكل جديد وبانفعالات جديدة.

هذه السينما المملة التي تفتقد للمتعة، وبسبب هذه الحالة العدمية من افتقاد الثقة في القصص والأشخاص الحقيقيين الذين نقابلهم يوميا، وافتقاد الثقة تجاه العالم القبيح المحيط بنا، ورفضه بسلبية أو بنزوع عدمي.. لا تملك إلا أن تقدم شخصيات فاترة في عالم فاتر ورمادي، لن تنفعل بها، ولن تشعر تجاهها بأي مشاعر، فيما عدا مشاعر النفور أحيانا، ولننسى طموحات "التوحد معها"، والتي من المفترض أنها من شروط الدراما كلاسيكياً.

وبالرغم من احتمالية أن نجد المخرج في سياق تنظيره يدعي أنه يريد لنا أن نفهم شخصياته ونتعاطف معها ونحبها، لكن.. هل تحب من تراهم رماديا وهم لا يفعلون شيئا؟ معادلة صعبة التحقق، لأن الفعل هو شرط الفهم والقرب والمشاعر والتعاطف، وهي عناصر تحقق نوعا من أنواع المتعة.

لكن باب التنظير قد ُفتح علي آخره، فربما نجد مخرجين لديهم الشجاعة كي يقولوا لنا أن هذا الملل، هذه البرودة، هذا الافتقاد للمتعة هو شكل فني جديد. أي نفس التنظير في الشكل، الذي يستخدم الضوضاء الشكلانية/التقنية كقنابل دخان للتغطية علي الجوهر. الجوهر الذي من الممكن تلخيصه حقيقة في "ليس لدي قصة لأحكيها". أو كانت لدي قصة تم تخريبها عبر محطات البحث عن قرشين هنا وقرشين من هناك.

 

[المخرج التشيلي ميغيل ليتين]

على سبيل الختام.. لم نعد موضة

تحدث بعض السينمائيين من المترددين عن كثير من مهرجانات السينما في أوروبا، والتي تمنح تمويلات لأفلام عبر أسواقها ومسابقاتها للمشاريع في مرحلة التطوير، أن أي مشروع كان يقدم لهذه المهرجانات عن مصر الثورة، خلال عام ٢٠١١، كان يحصل غالبا على التمويل. في نهاية هذا العام نفسه، وبداية ٢٠١٢، تحول الترحيب بالمشاريع المتعلقة بـ "مصر الثورة" إلى سؤال جديد: "مصر خلاص. عندكوا حاجة عن سوريا؟"

انتهت موضتنا تماما، وانتهت أيضا المخارج التقليدية للمخرجين الطامحين في فعل ما هو بديل، وتم حصارنا في واقع بائس مكون من عدد من الدوائر التي تحاصر هؤلاء المخرجين. منها دوائر تتعلق بالذوق العام، المحدود جدا في تقديري. ودوائر التراث المسلسلاتي العربي والذوق الذي تفرضه استهلاكيا. ودوائر الرقابة وسيطرة الأمن والمخابرات على كل مراحل الانتاج الفني والثقافي وبشكل شديد الإحكام. ودوائر فقر المجال السينمائي من المنتجين الجادين والقادرين على المغامرة في مشروع فيلم يرون فيه امكانيات أن يصبح فيلما جيدا. ودوائر السينما التجارية في أسوأ صورها. ودوائر الإحباط والاكتئاب والانسحاب الطبيعيين بعد هزيمة مشاريع التغيير الاجتماعي والسياسي الكبرى. ودوائر متخذي قرارات التمويل الذين يريدون سينما لا تثق في السينما أو لا تعرفها أساساً.

قام صديق سينمائي بقراءة واحدة من مسودات هذا النص الطويل، الذي نشر هنا على هيئة أربعة مقالات، فقدم عدداً من الملاحظات الهامة، وانتقد هذه الخاتمة لأنها تفتقد للتفاؤل. وعدته بأنني سأعيد النظر بها، لكن الوعد لم يكن صادقا، لعدم معرفتي كيف أصنع خاتمة تفاؤلية لنص يحاول رصد واقع قبيح وصعب. لكن الحل أتى بالصدفة، فخلال الأيام التي كنت أكتب خلالها هذا النص، أتركه وأعود إليه، شاهدت فيلم من تشيلي، تسجيلي طويل مكون من بضعة أجزاء، الفيلم من إنتاج عام ١٩٨٥، بعنوان "محضر عام لتشيلي" قام بإخراجه واحد من أهم مخرجي أمريكا اللاتينية، وهو التشيلي من أصول فلسطينية ويونانية، "ميغيل ليتين".

"ميغيل ليتين" تم تعيينه مديرا لمؤسسة السينما التشيلية، بعد فوز "سلفادور اليندي" بالرئاسة عام ١٩٧٠، مع وقوع انقلاب بينوتشيه العسكري في ١١ سبتمبر ١٩٧٣، وفي نفس يوم الانقلاب، وبسبب منصبه وأفلامه السابقة، أصبح مطلوبا للاعتقال لدي الحكم العسكري، ومع إحتمالات بالإعدام الفوري. لكنه تمكن من الهرب إلى خارج تشيلي. وبعد أثني عشر عاما، استطاع تحدي الحكم العسكري بفيلم جديد، يفضح عالميا هذا النظام. تنكر "ميغيل ليتين" في زي رجل أعمال من البارغواي، قام بتغيير شكله وطريقة كلامه، ودخل تشيلي بجواز سفر مزور بهيئته الجديدة، واستطاع أن ينسق بين ثلاثة فرق تصوير لأكثر من شهر، كي ينجز فيلمه، بمساعدات من أصدقاء ومن مجموعات سياسية سرية داخل وخارج تشيلي، ليخرج منها في الوقت المناسب حين كانت الأجهزة الأمنية على وشك اكتشاف هويته الحقيقية. وكتب عن هذه المغامرة، الروائي الكولومبي "غابرييل غارثيا ماركيز" كتابا بعنوان "مهمة سرية في تشيلي.

لم يكن التحدي هو عمل الفيلم وفقط، بل أيضا وجوده هو شخصيا في بلاده رغم المخاطر ورغم القبضة الأمنية والعسكرية، وقدرته على تصوير فيلم كبير. وكي لا ينكر النظام العسكري فيما بعد أن المخرج المنفي كان متواجدا بنفسه في تشيلي، جعل فرق التصوير تلتقطه بكاميراتها من حين لآخر، في مشاهد وأماكن مختلفة، متطلعا بثبات إلى الكاميرا، مشيرا لمتفرجه.. "أنني هنا"، حتى وهو في القصر الرئاسي الذي قصف بالطائرات يوم الانقلاب.

لم تمنحني تجربة "ميغيل ليتين" تفاؤلا على المستوى الانتاجي الذي قمت بالتركيز عليه في هذا النص، لأن فيلمه كان من تمويل عدة جهات إسبانية وإيطالية، ولم يعان كثيرا من فقر التمويل. لكنها تجربة تمنح التفاؤل على مستويات أهم.. قدرة الانسان، السينمائي في حالتنا، على التحدي والمواجهة والاختراق، وإبداع أشكال ومخارج جديدة.

مرة أخرى المسألة ليست إرادية تماما، هي مرتبطة بالمجتمع وتغيراته على كل المستويات. لكن.. من قال إن كل الدوائر قد أقفلت للأبد؟ العلم والتاريخ يقولان إنه مادام هناك سلطة، فهناك ثورة عليها. ومادام هناك رقابة وأجهزة أمنية هناك أشكال للتحايل عليها والتحرر من سطوتها. ودائما هناك السينمائي الذي يود أن يحكي، ويستطيع أن يخلق قصصا وأشكالا مناسبة لواقعه المحدد والمتغير، وبملامح تتجاوز الصعوبات الموضوعية. وهناك دائما متفرج يتطلع وينتظر الجديد.

 [اضغط/ي هنا للجزء الاول/الثاني/الثالت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      شادي عبد السلام: الفنان في مواجهة الهزيمة

      "لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل". هذه العبارة لشادي عبد السلام (١٩٣٠-١٩٨٦)، قالها قبل وفاته بشهور، بحسب مجدي عبد الرحمن، أحد أصدقائه المقربين.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

      ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية.

    • عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

      عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثاني

      في المقال السابق أشرت إلى "بستفة" سينمائي مصري شهير لكتاب السيناريو من الشباب بأنهم لا ينظرون إلى الواقع. وحاولت أن أقترب قليلا من أحد جوانب الصورة، وهو الخاص بوهم أن كل القصص قد حكيت. لكن هناك جوانب أخري للصورة، أو حقائق لا يمكن إغفالها، منها الجانب الإنتاجي التقليدي، الذي سأخصص له هذا المقال، والبدائل الإنتاجية التي سأخصص لها المقالين التاليين.

عن سينما لا تثق في السينما - الجزء الثالث

الجزء الثالث

سينما الدوائر المثقفة

ماذا ُيطلب من السينمائي حين يذهب إلى جهة أو صندوق لتمويل الأفلام، أيا كانت نوعية الصندوق أو توجهاته؟ لا ٌيطلب من هذا السينمائي تقديم السيناريو ليتحدث عن ذاته ومقومات جاذبيته سواء الفنية أو التجارية/الجماهيرية. وكذلك لن يتم الاكتفاء بـ"السي في"/المؤهلات التي توضح أنه شخص قادر علي تنفيذ هذا السيناريو. وهي طلبات طبيعية، يضاف إليها الميزانية المبدئية، بالرغم من أن المشروع المقدم يكون في أحيان كثيرة بحاجة للتمويل كي يتم الاتفاق مع مدير إنتاج محترف قادر علي عمل هذه الميزانية، كي لا تكون عبارة عن فانتازيات أو أرقام عشوائية.

وإذا كانت هذه الطلبات منطقية ومقبولة، إلا أن هناك المزيد.. سيطلب منك كسينمائي "التنظير" لفيلمك قبل أن يصنع، عبر عدد من الملفات التي تسأل أسئلة لم توجد من قبل خلال أغلب عقود تاريخ السينما في العالم كله، كسؤال "لماذا تريد أن تصنع هذا الفيلم؟"!! هل تجرؤ هنا على أن تجيب بأنني أريد أن أصنعه كي أعمل، كي أمارس مهنتي التي اخترتها وهي أن أكون مخرجا؟ أو هل بإمكانك الرد بالإجابة البسيطة "لأنني أحب قصة فيلمي وأعتقد أن بها امكانيات لأن تصبح فيلما جيداً؟ هذه الإجابات السابقة رغم منطقيتها وصدقها ليست مقبولة، يجب تجاوزها، وإلحاق الإجابات "الأخرى" بعدد آخر من نصوص التنظير المتعلقة بـ"الجديد" الذي يقدمه الفيلم، والشكل والستايل الفني، وتصورات التوزيع ونوعيات المتفرجين، وإن كان هناك اتفاقات مع مهرجانات، أو خطابات توصية... إلي آخره.

الأخطر بين كل هذه التعقيدات هو هذا المطب الذي من الممكن أن يقع فيه أي سينمائي، وهو التنظير فيما يخص فيلم لم يولد بعد، عقلنته قبل بداية حياته، أو بمعنى آخر أن تلعب دور المخرج والناقد والمحلل المستقبلي لفيلمك!!

أغلب القائمين على القرار – مرة أخرى أغلب وليس كل – في هذه الصناديق التمويلية هم أشخاص ليس لديهم علاقة وثيقة بالسينما أصلا. بعضهم محترفو إدارة مهرجانات، وبعضهم الآخر محترفو صنع ملفات تسويقية، والبعض الثالث من نوعية المحررين الصحفيين للأخبار الفنية الذين قاموا بترقية أنفسهم ذاتيا إلى مرتبة الـ"نقاد"، بالرغم من عدم دراستهم لأي مادة متعلقة بتاريخ الفن الذي ينقدونه، أو طرق صنعه أو لغته، أو تطوراته، أو أي من النظريات الجمالية أو نظريات النقد ومناهجه المتاحة، والبعض الآخير، وهم الأقلية غالبا، من السينمائيين المحترفين.

بسبب هذه العلاقة المحدودة بالسينما، تجد كثيرين منهم يكررون بكل ثقة ما قاله صديقنا طالب الإنتاج الذي تحدثت عنه في المقال الأول، وكان يردد ما قام نجيب محفوظ بالرد عليه منذ خمسة وخمسين عاما، أن كل القصص قد حكيت. وتتضخم المشكلة بسبب هالة المعرفة المزيفة التي اكتسبها مسؤولو الصناديق تجاه السينمائيين، بسبب زيارات الكثير منهم للكثير من المهرجانات السينمائية في أنحاء مختلفة من العالم، فتكتسب آراؤهم قوة، تجعل من السهل تصديقها والتعامل معها وكأنها حقيقة، فهم يعلمون أكثر.

إن كانت كل القصص قد حكيت، وليس لدي الجديد لأحكيه، بماذا أجيب على أسئلة التنظير؟ قبل الإجابة على أسئلة التنظير هناك مأزق سابق وهو أن كثيراً من المخرجين في زمننا لا يثقون أصلا في قصصهم. وهو المآزق الذي له أسباب متعددة، من ضمنها أنهم لم يدرسوا دراما أو سيناريو. وهناك أيضا العامل العام.. أن في مراحل الاضمحلال هناك حالة عامة من البلادة والشك تجاه المنتجات الفنية ذاتها، وتراجع لطاقة الدفاع عن منتج فني مازال في طور التكون. وبما أني غير قادر على الثقة في قصتي، في أوراقي، وأصحاب "الخبرة" يقولون لي أن كل القصص قد حكيت، فليس أمامي سوى البحث عن مناطق ثقة أخري لبيعها، وهنا لن أجد سوى الشكل.

العلاقة بين الشكل والموضوع في الفنون أحد جوانب الصراع النظري تاريخيا، والذي كان حاضرا على الدوام، وفي تقديري لن يختفي أبدا. لكنه صراع ساخن بين الهواة والدارسين والقادمين حديثا للمجالات الفنية المختلفة، بوعي وخبرة محدودتين. فتجد نقاشات طويلة إن كان الشكل/الفورم/البناء سابقين على المضمون، أم أن الموضوع هو ما يفرض شكله، أو عن الصراع الجدلي بينهما. في حين أن المبدعين الكبار في كل الفنون، كلا بمفرده، قد حسم فعليا هذا السؤال وامتلك إجابته الخاصة. نجيب محفوظ يقولها في المقال المشار إليه سابقا بكل بساطة، أن القصة هي التي تفرض شكلها لدي، الشكل هو نتيجة. وهذه الإجابة "المحفوظية" بالطبع ليست قانونا، بالعكس.. فمن المتاح الخلاف معها، والوصول إلى نتائج أخرى، إن قمنا بتغيير اسم المبدع الكبير باسم آخر.

إن كنت تعيش مرحلة تراجع فني وثقافي ومجتمعي، وفقر في القصص والمواضيع، وافتقار لامكانيات الالتحام الحميم بالواقع والحياة ومراقبتهما، فلن تثق في موضوعك ولن تبحث عن كيفية تطويره، ستضطر غالبا للتنظير قليلا حوله، دون الدخول في عمقه، وأن تدفع بطاقات التنظير الأساسية إلى منطقة الشكل. والمآزق هنا هو أن كل السينمائيين أصحاب الخبرة يعلمون أن هناك علاقة طردية بين درجة التنظير وجودة الفيلم، كلما ازدادت درجة تنظيرك لفيلمك، ازدادت درجة رداءة هذا الفيلم. هذه العلاقة الطردية ليست قدرية أو حكماً إلهياً، لكنها علاقة طبيعية تتحقق عادة حين تتم عقلنة كل تفاصيل العمل الفني بشكل مسبق، وتربيطها ببعضها البعض على الورق، وقبل الوقت المناسب لاتخاذ القرارات الهامة. فعلي سبيل المثال من المفترض أن أهم القرارات البصرية المتعلقة بفيلم سينمائي يتم اتخاذها بين المخرج ومديري الفرق الأساسية في الفيلم.. الإنتاج والتصوير والديكور، خلال دراسة السيناريو والمعاينات. وليس في ورقة يكتبها مخرج يطلب تمويلا لفيلمه، وربما لا يعلم أثناء كتابة هذه الورقة من سيكون مديرو هذه الفرق. هذه العملية التنظيرية قادرة على إفساد الفيلم وإن كان جيدا، وإخراجه كمجموعة من العمليات الحسابية أو العقلانية الباردة أو الميتة، التي لا صلة بينها وبين المشاعر والحياة وانفعالاتنا كشخصيات فيلمية، أو انفعالاتنا كجمهور.

هناك أفلام يتم إنقاذها خلال هذه العملية التمويلية/التنظيرية، وتخرج على درجة عالية من الجودة، وتقترب من الحياة حقيقة وتحمل رائحتها وتعكسها بشكل فني أصيل. لكنها استثناءات تتحقق مع مخرجين علي درجة عالية من الحرفية والصلابة ووضوح الرؤية والثقة في قصصهم، فيتمكنون من المرور بأفلامهم محافظين عليها من تخريب التنظير، ومن تخريب مرحلة تتطلب من المخرجين أن يكون لديهم مهارات مثل إعداد الملفات الأنيقة والمغرية، القدرة علي التنظير بسلاسة، معرفة اللغات، القدرة علي عمل شبكة واسعة من العلاقات العامة، والقدرة علي الدفاع عن الفيلم الذي لم يصنع بعد أمام جمهور من المفترض فيه الاحترافية، جمهور سينقض عليك عند أول هفوة خلال عمليات "البيتشنج" التي تشترطها بعض الصناديق وأسواق الأفلام التي يتم تنظيمها في سياق المهرجانات. وكلها مهارات لا علاقة لها بالمهارات الأساسية التي يجب توافرها في المخرج الجيد

كان المخرجون سابقا يتجنبون الحديث مع الصحافة، أو مع المقربين، عن أفلامهم قبل صنعها أو خلال مراحل صنعها. لم يكن هذا الكتمان فقط لإثارة التشويق تجاه الفيلم الذي هو في مرحلة الخلق، ولم يكن أيضا بمنطق "داري علي شمعتك تقيد" وإن وجد، بل كان في الأساس كتمانا لتجنب فقدان صانع الفيلم لإحساسه الخاص بفيلمه عبر الحديث كثيرا وخلال فترات زمنية طويلة عنه.. ما يود حكيه، كيف يقوم بتصويره، كيف يراه.. إلخ. وبالتالي استهلاكه وجدانيا. ولنا أن نتخيل هنا الواقع الحالي النقيض، المتمثل في رحلات المخرجين عبر عدد من السنوات أمام لجان "المناقشة" في المهرجانات والأسواق السينمائية، وفي كل مرة تعرض تفاصيل فيلمك، يعطونك نصائح وتوجيهات، وإن أردت تمويلهم فعليك التعامل مع ما يقولونه بجدية. لا تجدي هنا نصيحة "ودن من طين وودن من عجين".

هذه الممارسة نفسها تضيف خطرا جديدا يلاحق المنتج الفني في طور التشكل، وليس فقط بسبب خطورة استهلاكه وجدانيا، أو ظهوره كمجموعة معادلات ميتة، بل أيضا لأن الرغبة في تغطية تكاليف الفيلم، أو جزء كبير منها، تدفع المخرج أحيانا إلى "النصب".

ربما يكون تعبير "النصب" قاسيا بعض الشئ، لكنه الأدق للإشارة إلى ما أعنيه، وهو ادعاء وجود عناصر في الفيلم لا توجد به أصلا، ومحاولة تلفيقها فنيا فيما بعد، كي تبدو وكأنها منسجمة سويا، لإرضاء عدد من جهات التمويل مختلفة التوجهات، فهم ساهموا في تمويل فيلم كما تتصوره وتراه كل جهة منهم، ومن الممكن ألا يكون هو نفس الفيلم الذي كان يحتل خيال مخرجه. فنجدنا بصدد عملية قص ولزق أو كولاج لعدد من العناصر الفنية التي من المحتمل ألا يوجد بينها أي هارموني، وتؤدي أحيانا إلى عملية تطويل مفتعلة لفيلم يبدو مناسبا كفيلم قصير، فيتحول بقدرة قادر إلي فيلم طويل مع الكثير من الصمت، والأفعال المكررة، والفصول المختلفة التي تتناول مواضيع متباينة أو بها ألعاب شكلانية متنوعة.. على أمل أن يرضي الجميع، وكي يتم تبرير التمويل الذي تم جنيه.

ربما يكون هذا النوع من النصب الفني هو الأقل ضررا، لأنه نصب يقوم به الفنان تجاه نفسه وتجاه فريقه وتجاه مشروعه، ولا يؤثر مباشرة علي الجمهور. فهذا الجمهور يستطيع أن يرفض الفيلم أو يمتنع عن مشاهدته. لكن النصب الأخطر هو النصب على الجمهور نفسه، بأختام ولوجوهات جهات التمويل التي تزين بدايات الأفلام باعتبارها علامة جودة. أو النصب علي الجمهور، الذي لا يملك بين يديه تاريخ السينما حاضرا ليراجعه إن أحب، فيذهب لمشاهدة فيلمك منساقا وراء جمل من نوعية "أول فيلم يعرض واقع الفئة الاجتماعية الفلانية".. "الفيلم الذي يكسر لأول مرة التمييز الذي مارسته السينما المصرية تجاه.......”.. "أول فيلم مصنوع بكاميرا الموبيل".. “اقتراب جديد من الفيلم الصوفي الاجتماعي.....”.. إلخ. والمتفرج العادي سيصفق مبهورا، لأنه لا يعرف أن هناك الآلاف من الأفلام المصرية وغير المصرية التي تم صنعها قبلا على هذا الطريق الذي يقولون عنه أنه جديد وأنهم أول من يطرقونه ويمهدونه، أو هو غير قادر علي كشف خواء كثير من المصطلحات المركبة التي لا تعني شيئا.

[اضغظ/ي هنا لقراءة الجزء الاول/الثاني/الرابع]