بعض الأفكار عن الانتفاضة الجزائرية: مقابلة مع حمزة حموشان

[المصدر: حمزة حموشان] [المصدر: حمزة حموشان]

بعض الأفكار عن الانتفاضة الجزائرية: مقابلة مع حمزة حموشان

By : Omar Hassan عمر حسن

بعض الأفكار عن الانتفاضة الجزائرية

إن ما يحدث في الجزائر تاريخي حقاً. ربح الشعب المعركة الأولى في نضاله من أجل تغيير جذري للنظام. في هذه المقابلة، يقدّم لنا الدكتور حمزة حموشان بعض الأفكار حول توقعات وآفاق الحركة الشعبية المتنامية باستمرار.

[أجرى المقابلة  باللغة الإنجليزية عمر حسن لمجلة Redflag.]

1. كانت تغطية الصحافة الدولية للسيرورات الثورية في الجزائر والسودان منقوصة. هل يمكن أن تبدأ بشرح مطالب الاحتجاجات في الجزائر؟ ما هي أهدافها؟

بدأت حركة الاحتجاج الجماهيرية بعد أيام فقط من إعلان بوتفليقة عن نيته الترشح لولاية خامسة كرئيس للجزائر. كانت في البداية صغيرة ومحلية، ثمّ أصبحت ضخمة وانتشَرت على المستوى الوطني اعتبارًا من يوم الجمعة 22 فبراير 2019. وهكذا، خرج ملايين الجزائريين كل يوم جمعة منذ ذلك التاريخ (بعض التقديرات تتراوح بين 17 و22 مليون نسمة لإجمالي عدد السكان البالغ 42 مليون نسمة). خرج الملايين، صغارا وكبارا، رجالا ونساء من مختلف الطبقات الاجتماعية إلى الشوارع في هبّة كبيرة، واستعادوا الأماكن العامة التي صودرت منهم منذ فترة طويلة. تلَت مسيرات الجمعات التاريخية هذه، احتجاجات في العديد من القطاعات (التعليم، الصحة، القضاء، صناعة البتروكيماويات، الطلاب، النقابات، إلخ)، ممّا جعل الاحتجاج أمرًا يوميًا.

ما بدأ كرفض قاطع لترشيح شخص في الثمانين من عمره وغير قادر على الحكم، تحوّل مع عناد النخب الحاكمة وحيَلهم الخادعة إلى رفض موَّحَد للنظام القائم، مع مطالب بالحرّية والعدالة والتغيير الديمقراطي الجذري. هذه الانتفاضة أو الثورة هي تعبير أساسي عن تلاقٍ بين السخط الشعبي من أسفل مع أزمة داخلية عميقة داخل الطبقات الحاكمة. بشكل أساسي، لم يعد بإمكان الأشخاص من أعلى الحكم بالطريقة القديمة ولم يعد بمقدور الأشخاص الموجودين في الأسفل تحمّلهم. إنه أيضاً تعبير عن عقود من المعاناة العميقة والغضب ورفض الاستبداد القمعي وقمع الحريات والاقصاء الاقتصادي والاجتماعي والفساد المستشري والمحسوبية، والتراكم الطفيلي والتفقير، وتزايد أوجه عدم المساواة الاجتماعية والتنمية المتفاوتة، فضلاً عن آفاق مغلقة في وجه الشباب العاطلين عن العمل الذين ما زالوا يخاطرون بحياتهم للوصول إلى الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط هربًا من اليأس والإذلال والتهميش والنزول إلى رتبة “الحيطيين" (حيطيّون من كلمة حيط – حائط أي الذين يقضّون معظم وقتهم  مسندين ظهورهم إلى الحائط) ، هؤلاء العاطلين عن العمل الذين توقفوا عن أن يكونوا فاعلين في جزائر ما بعد الاستعمار. وكلّ هذا في بلد غني مثل بلدنا!

الشعار الجزائري "الشعب يريد يتنحاو ڨاع" (الشعب يريد أن يتنحّوا جميعًا، أو بشكل أدقّ، الشعب يريد إقصاؤهم جميعًا!) ليست سوى نسخة أخرى من "الشعب يريد إسقاط النظام"، الشعار الذي رأيناه خلال جلّ الانتفاضات العربية في 2010-2011.

في هذا الصدد، أعتقد أن ما يحدث في السودان والجزائر يجب أن يُنظر إليه على أنه استمرار لعملية ثورية في منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا، وهي سيرورة ثورية ذات صعود وهبوط، مكاسب و انتكاسات، إذ أسفرت عن انتقال ديمقراطي "نيوليبرالي" في تونس وثورات مضادّة دموية وتدخلات إمبريالية في بقية الدول التي شهدت هذه الانتفاضات. الأمل هو أن يتعلم شعبا الجزائر والسودان من تجارب إخوانهم وأخواتهم في بلدان أخرى وأن يدفعوا بثوراتهم لتتجذّر أكثر وتحقّق مطالبهم الأساسية من أجل الكرامة والعدالة والسيادة الشعبية والحرية، ووضع حدٍ لعقود من القمع السياسي والاقتصادي.

2. بيّنت العديد من مقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت  إبداع وتضامن الحركة الثورية في الجزائر وفي أماكن أخرى. هل يمكن أن تحدّثنا عن بعض اللحظات المميّزة بالنسبة لك؟

نعم، قامت الحركة الثورية في الجزائر بتحرير الإبداع غير المحدود"للعبقرية الشعبية". من خلال الهتاف:"حنا صحينا وباصيتو بينا" (استيقظنا وسوف تدفعون) يعبّر الناس عن إرادتهم السياسية المُكتَشَفة من جديد. عملية التحرر هي في الوقت نفسه عملية تحول. يمكننا أن نشعر بهذا في النشوة والطاقة والإبداع والثقة والفكاهة والفرح الذين ألهمتهم هذه الحركة بعد عقود من القمع الاجتماعي والسياسي.

يمكن أن تكون الدعابة والسخرية مزعزعة وهدامة للغاية وقد أظهر الجزائريون ذلك في شعاراتهم وأغانيهم ولافتاتهم التي أحيت وأبرزت الثقافة الشعبية. لقد رأيت وسمعت الكثير من الشعارات على الإنترنت وفي شوارع عدة من مدن الجزائر. وإليكم بعضًا منها التقطتها بواسطة كاميرا هاتفي:

- "الجزائر، أرض الأبطال يحكمها الأصفار. "

- "لقد أوقفنا الحرقة (الهجرة غير الشرعية)، وتوقفنا عن تعاطي المخدرات وسنوقفكم أيضًا."

- "تغيير النظام ... 99 ٪ من التحميل. "

- "لا لبوتفليقة ومشتقّاته."

- "نحن بحاجة إلى Detol لقتل 99.99 ٪ من العصابة."

- وهذا شعار حملته طالبة طبّ: "لقد تم تطعيمنا وقمنا بتطوير نظام مكافحة IgG (مضادات الأجسام) ... وما زلنا نتلقى معزّزات كل يوم جمعة."

- "المشكلة هي استمرار الوثنية وليس استبدال الصنم."

- "أنا لست هنا لألتقط "سلْفي"، أنا هنا لتغيير النظام."

استهدفت بعض الشعارات بشكل مباشر التواطؤ والتدخل الفرنسيّين:

- "تخشى فرنسا عندما تحصل الجزائر على استقلالها، أن تطلب تعويضاً عن الحديد الذي استخدمته لبناء برج إيفل."

- "ألو ألو ماكرون، عاد أحفاد نوفمبر 54."

وكردّ فعل على دعوات القائد الأعلى للقوات المسلحة الڨايد صالح لتطبيق المادة 102 من الدستور، التي تسمح لرئيس المجلس الأعلى بتولّي منصب الرئيس المؤقت وتنظيم الانتخابات في غضون 90 يومًا بعد إعلان شغور الرئاسة من قبل المجلس الدستوري ممدّدة بذلك الوضع الراهن، أجاب الناس:

- "نريد تطبيق المادة 2019 ... سترحلون كلّكم."

- "طلبنا رحيل العصابة بأكملها، وليس ترقية بعض أعضائها."

- "البطاريات ميتة، لا داع للضغط عليها."

- "عزيزي النظام، أنت هراء ويمكنني إثبات ذلك رياضيا."

- "هنا الجزائر: صوت الشعب. الرقم 102 لم يعد في الخدمة. اتصل بخدمة الشعب على الرقم 07، من فضلك "(في إشارة إلى المادة 07 من الدستور التي تنصّ على أن الشعب هو مصدر كل السيادة).

هذه مجرد أمثلة قليلة من بين آلاف الشعارات الأخرى والأغاني الخلاقة والمضحكة والمرحة. هذا يدل على أن العبقرية الشعبية مازالت حية ويمكن تعبئتها من أجل المقاومة والمطالبة بتغيير جذري.

فيما يتعلق بالتضامن الدولي، ما يمكنني قوله هو أن الشعوب المضطَهَدة في المنطقة وخارجها تشارك في نوع من الحوار فيما بينها. السودانيون والجزائريون يتابعون بعضهم بعضًا ويتزايد إلهامهم وتصميمهم على متابعة ثوراتهم لإسقاط الأنظمة التي سحقتهم على مدى عقود. هناك رسم كاريكاتوري للصحفي الجزائري علي ديلام والتي تظهر فوز السودانيين 2-1 ضد الجزائريين في مباراة كرة قدم من خلال الإطاحة برئيسين حتى الآن ضد واحد فقط في الجزائر. يستلهم المغاربة أيضًا ما يحدث في الجزائر وقد رأينا ذلك في غناء الملاعب. أخيرًا وليس آخرًا هو التضامن الأزلي والثابت مع الشعب الفلسطيني. كلّ هذا يشهد على أن الناس يتطلعون إلى الحرية والعدالة والتحرر وأنهم يصبحون مصدر إلهام عندما يرون آخرين يأخذون مصيرهم في أيديهم ويتحدّون قوى الوضع الراهن.

3. على الرغم من أنّ أحداث 2011 مرّت في معظم أنحاء المنطقة، إلا أن اختلافات محلية مهمة شكلت النتائج المتباينة التي شوهدت منذ ذلك الحين. على سبيل المثال، في مصر، كانت الحركة يقودها الشباب وغير منظمة، مما يعني أنها كانت تفتقر إلى وزن مؤسسي واجتماعي معين في لحظات حرجة، بينما في تونس دور الاتحاد العام التونسي للشغل، خاصة صفوفه الدنيا،  كان مهما جدا. ما هي القوى الاجتماعية التي قادت الحركة في الجزائر؟ وهل هناك منظمات أو أفكار لها أهمية خاصة أو شعبية؟

في نهاية المطاف، الانتفاضة الجزائرية لها خصائصها أيضاً، وسأحاول أن أقدّم لكم بعض المؤشرات لفهم نقاط القوة والضعف فيها.

أ‌) ما يجعل هذه الحركة فريدة من نوعها حقًا هو حجمها وسلميتها وانتشارها الوطني، بما في ذلك في الجنوب المهمّش. تتميز الحركة أيضًا بالمشاركة الكبيرة للمرأة، وبشكل خاص الشباب، الذين يشكّلون غالبية السكان. لم تشهد الجزائر مثل هذه الحركة الواسعة والمتنوعة منذ عام 1962، عندما خرج الجزائريون إلى الشوارع للاحتفال باستقلالهم الذي حصلوا عليه بشقّ الأنفس من الحكم الاستعماري الفرنسي.

ب‌) يمكن للمرء أن يرى في هذه الانتفاضة استمرار النضال ضد الاستعمار في الخمسينيات والستينيات لاستعادة السيادة الشعبية والاقتصادية. إن المظاهرات والمسيرات الكثيرة التي جرت تشير بقوة إلى الثورة الجزائرية المناهضة للاستعمار وشهدائها الأمجاد الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استقلال الجزائر، مما يؤكد من جديد أن الاستقلال الرسمي لا معنى له من دون السيادة الوطنية والشعبية، خاصة وأن النخبة لدينا تبيع البلاد ومواردها منذ أكثر من ثلاثين عامًا. يتم تأكيد هذه المشاعر المعادية للاستعمار من خلال العداء الثابت للتدخل الأجنبي والتدخل الإمبريالي. لقد رأينا كيف رفض الشعب الجزائري بحزم التواطؤ الفرنسي مع النخب الحاكمة ورفضه لمحاولات وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة تدويل الصراع من خلال رحلاته إلى الولايات المتحدة، أوروبا، روسيا والصين.

ج) التضامن مع فلسطين: يفهم الجزائريون أن تحريرهم لن يكتمل بدون تحرير فلسطين. إن هذا التضامن حقًا فريد من نوعه في العالم العربي: إلى جانب الأعلام الجزائرية، نرى دائمًا العلم الفلسطيني والناس يمجّدون دائمًا الشهداء الجزائريين والفلسطينيين دون أي تفريق.  يفسّر ذلك بكون الجزائر الوحيدة (مع فلسطين) في المنطقة التي شهدت تجربة وحشية ولا إنسانية لاستعمار استيطاني عنصري.

(د) ذاك المشهد السياسي القاحل عمومًا والناتج عن عدم وجود معارضة سياسية حقيقية، وإفلاس سياسات الأحزاب المتعددة إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكونات المجتمع المدني، أدى بالناس إلى تنظيم أنفسهم بشكل مختلف. في السنوات الأخيرة، تم التعبير عن المعارضة والسخط بشكل متزايد من خلال المظاهرات القطاعية أو ظهور الحركات الاجتماعية الأفقية، لا سيما في الصحراء الغنية بالنفط والغاز، حيث رأينا حركات المعطلين والمناهضين للغاز الصخري عامي 2012 و2015. العداء للأحزاب السياسية متجذر بعمق، كما يتضح من الديناميات الشعبية الحالية. كما هو الحال في مصر، فإن الحركة يقودها الشباب وغير منظمة نسبيًا. لا يوجد قادة أو هياكل منظمة يمكن تحديدها بوضوح.

من الواضح أن الأمر يتعلق بانتفاضة شعبية بقدر ما حشدت القوى الجماهيرية للطبقات الوسطى وكذلك الطبقات المهمشة في المناطق الحضرية والريفية، التي تأثرت بالسياسات النيوليبرالية لعدة عقود ومن اقتصاد ريعي فاسد في ظلّ عولمة مفترسة تسهّل نهب الموارد المالية والطبيعية للبلاد. تجدر الإشارة إلى أن الطلاب والعمال، خاصة العاملين في قطاع النفط والغاز، والنقابات المهنية والقضاة والمحامين يلعبون دورًا مهمًا للغاية في هذه التعبئة من خلال تنظيم مظاهراتهم الخاصة والدعوة إلى الإضراب مساهمين في الحفاظ على زخم الدينامية. على عكس السودان، حيث يلعب التحالف من أجل الحرية والتغيير وتجمّع المهنيّين السودانيين دور الهيكل التنظيمي والقيادي، يبدو في الجزائر أن الأمور منظمة بطريقة أفقية وبشكل رئيسي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتم إطلاق الدعوات للاحتجاج.

هـ) لست من أولئك الذين، إذا لم تعجبهم نتائج الثورة، أو القوى التي تحملها، نقاط ضعفها، ومطالبها واستراتيجياتها، فإنهم يسارعون إلى إنكار طابعها الثوري أو ببساطة حرمانها من اسم "الثورة". مع ذلك، يجب أن نحافظ على حسنا النقدي ونظل نزيهين فكريًا ونتعلم من أخطاء الثورات السابقة.

تقديس العفوية، والافتقار إلى قيادات والعداء لأي شكل من أشكال التنظيم ليس حصرًا على الحالة الجزائرية، ولكن لوحظ أيضا في ثورات أخرى في بلدان مثل مصر وتونس. صحيح أنّ العفوية والحركة بدون قادة سوف تولّد، في البداية، تعبئة كبيرة بين مختلف الطبقات تعطي انطباعاً بالوحدة رغم كل الاختلافات الطبقية، الجنسية والأيديولوجية. ومع ذلك، يمكن أن يصبح هذا خطراً عندما يتم إسقاط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمهمّشين من النقاش. في مثل هذه السيناريوهات فإن القضايا المشروعة للسيادة الشعبية والعدالة الاجتماعية سوف تفسح المجال أمام المفاهيم الليبرالية السائدة والغامضة حول "التسيير الديمقراطي" و"الحكم الرشيد" و"الحرية" و"المساواة" على حساب مطالب معذَّبي الأرض.

وقد أُطلق على هذا الوضع "ثورة بلا ثوار" أو "ثورات بلا تنظيم". هذه الديناميات والحركات غير المتبلورة وغير المهيكلة ضعيفة للغاية. قد تكون هذه الميزات نقاط ضعف قاتلة، لا سيما عندما يبدأ القمع.

من أجل تمديد الحراك الحالي، نحتاج إلى هياكل ومنظمات ذات رؤية متماسكة، قادرة على صياغة مطالب واضحة، واقتراح استراتيجيات مختلفة للمقاومة، ووضع جدول أعمال متطور بالكامل. يمكن للقادة الظهور بطريقة عضوية، لكن هذا يتطلب تنظيمًا مستمرًا بالإضافة إلى تكاثر المبادرات لفتح مجالات للنقاش والتفكير.

هذه هي الحقيقة على أرض الواقع. رغم ذلك، إنه لمُلهم أن ترى الناس يستعيدون ثقتهم في أنفسهم ويكبر إيمانهم بـقوة "نحن" الجماعية. لقد رأينا كيف لم ينخدعوا بكل الحيل التي قدمتها لهم نخب النظام. الحركة تزداد قوة وتزداد مطالبها كل يوم. ما يوحدهم هو أن جميع رموز النظام القديم يجب أن تختفي ويجب أن تحاسب على كل المعاناة والفوضى التي تسببوا فيها.

4. أصبح الدور الريادي للمرأة في حركة الاحتجاج في السودان ذا أهمية متزايدة، لا سيما مع آلاء صالح. هذه ليست مفاجأة لأولئك الذين درسوا التاريخ؛ كثيرا ما توصف الثورات بأنها مهرجانات المضطهدين. هل يمكنك التحدث قليلاً عن الوضع في الجزائر فيما يتعلق بالمرأة والأقلية الأمازيغية وغيرها من الجماعات المضطهدة؟ ما هي مظالمهم المحددة وكيف هي مشاركتهم في الاحتجاجات حتى الآن؟

لا يمكن أن تكون الثورات بدون المرأة ودون مشاركتها الفعالة. والثورة الجزائرية ليست استثناء في ذلك. منذ بداية هذه الديناميكية الشعبية، لعبت النساء دورًا مهمًا في ربط مطالبهن ضد النظام الأبوي بالمتطلبات الديمقراطية للحركة ككل. في الواقع، رأيت كيف ازدادت مشاركة المرأة أسبوعًا بعد أسبوع. كان عددهن كبيرًا في المظاهرات التي رأيتها في الجزائر، بجاية وسكيكدة. كما يشاركن بشكل كبير في الحركات الطلابية والنقابية. ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر حقيقة أن جزءًا كبيرًا من المجتمع الجزائري لا يزال محافظًا وذكوريا. قد تؤكد الحادثة التالية هذه الحقيقة: تعرضت بعض المناضلات النسويات للمضايقات والاعتداءات خلال مسيرة بالجزائر العاصمة وتم تحذيرهنّ (من قبل الرجال) من صياغة "مطالب نسوية تقسّم الحركة". كان هناك أيضا شريط فيديو هدّد فيه صاحبه باستخدام الأسيد ضد اللواتي يتجرّأن على رفع مثل هذه المطالب. قد يكون هذا حادثًا متطرفًا منعزلًا، لكني أرى أنه يُظهر التمييز الجنسي الراسخ ومعارضة حقوق النساء في مجتمعنا. تمثّل أجساد النساء ساحة قتال، ورأينا كيف تعاملت الشرطة مع أربع نساء ناشطات بعد اعتقالهنّ: لقد تعرضن للإهانة بتجريدهنّ من ملابسهن!

على الرغم من كل التقدم الذي أحرزته النساء في العقود الأخيرة في التعليم والتوظيف والمشاركة السياسية، فإنّ كفاحهنّ من أجل المساواة مع الرجال وضد الاضطهاد الأبوي والعنف لا يزال بعيد المنال (كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم). ما زلن يقاومن رؤية رجعية لدورهنّ في المجتمع، يتجسد في التدابير الاجتماعية المحافظة للغاية مثل قانون الأسرة الرجعي الشهير لعام 1984.

بالنسبة للأقلية الأمازيغية، أودّ التصحيح هنا: إنّها ليست أقلية. في الحقيقة، غالبية الجزائريين هي من أصل اثني أمازيغي. أفضّل القول إننّا عرب- أمازيغ، لأنّ اللغة العربية هي أيضًا عنصر مهمّ في هويتنا الثقافية والسياسية. خلقت مشاكل الهوية هذه العديد من التوترات المجتمعية في العقود الأخيرة لأنّ تنوعنا الثقافي قد تم تجاهله لصالح تصور أضيق لهويتنا. تمّ تهميش البعد الأمازيغي للتراث الثقافي الجزائري وتحويله إلى أحداث فولكلورية. ومع ذلك، فقد تطور الكفاح من أجل الاعتراف بالأمازيغية كعنصر مكافئ للّغة العربية والإسلام في هويتنا الثقافية بشكل كبير منذ الربيع الأمازيغي عام 1980، عندما ظهرت الحركة الثقافية الأمازيغية إلى حيز الوجود في منطقة القبائل. كان الربيع الأمازيغي أول تحدٍ سياسي واسع النطاق ضد النظام منذ الستينيات، عندما عبرت منطقة القبائل عن مطالبها ضد استبداد النظام واحتقاره للهوية الثقافية واللغوية الغنية للأمازيغ، وكذلك إهمال اقتصاد المنطقة. ألهمت هذه الحركة الديمقراطية الجماهيرية الحقيقية عقدًا من الصراع المستمر والتمرد.

في أبريل 2001، بدأت انتفاضة أخرى في منطقة القبائل وفي عام ونصف العام، احتلت حركة شعبية قوية تسمى العروش مركز الصدارة وأعادت مسألة الديمقراطية إلى جدول الأعمال. نظمت هذه الحركة في 14 يونيو مسيرة عظيمة تجاه الجزائر وألهمت الكثير من المواطنين في مناطق أخرى للثورة ضد الحُڨْرة (الإذلال والظلم الاجتماعي). ومع ذلك، فقد استُمِيلت هذه الحركة واخترُقَت وسُحقَت.

عندما يتحدث الغربيون عن الأقلية الامازيغية، فإنهم يشيرون بشكل أساسي إلى سكان القبائل. لأسباب تاريخية تعود إلى الحقبة الاستعمارية كانت هذه المنطقة في طليعة الكفاح ضد القمع والاستبداد، ولاتزال كذلك في هذه المرحلة. وينطبق الشيء نفسه على المجموعات الأمازيغية الأخرى مثل الشاويّين والمزاب والطوارق. كلهم مقحمون كمواطنين جزائريين في مواجهة تكتيك النخب الحاكمة "فرق تسد". في الواقع، كانت الشعارات واضحة في المسيرات المختلفة: لا نريد تقسيمًا، فنحن جميعًا جزائريون، مما يُبرز وحدتهم الشعبية.

5. ما هي التيارات الرئيسية للتوجه اليساري في الجزائر وإلى أي مدى يلعب اليسار المنظم دوراً في هذه الحركة؟

في رأيي، ينبغي أن يكون اليسار هو القوة القادرة على الجمع بين الحرية والمساواة. أنا لا أتحدث فقط عن المساواة السياسية، ولكن أيضًا عن المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي تقضي على التباينات الطبقية في المجتمع. لا يمكن أن تكون الديمقراطية كاملة في سياق هيمنة رأس المال وديكتاتورية الأسواق. لهذا السبب نحتاج أيضًا إلى الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية. ماذا سيفعل الجزائري الشاب بالحرية إذا لم يكن لديه وظيفة أو سكن لائق؟

لسوء الحظ، ولأسباب مختلفة، وخاصةً على المستوى العالمي، فإن اليسار المنظم في الجزائر مجزّأ، صغير وضعيف للغاية. ومع ذلك، في مثل هذه اللحظات الثورية يمكن أن يتجدد وينمو إذا أراد أن يلعب دوره التاريخي كأداة للجماهير للتعبير عن، وتحقيق، مطالبها الأساسية بالحرية والكرامة والعدالة. وللقيام بذلك، يجب أن يكون لديه رؤية واضحة لهذا المستقبل المنشود، وأن يكون مستقلًا فكريا وتنظيميا، والتخلص من النظرة الأبوية وأن يشكّل منظمات جماهيرية تخدم الفئات المحرومة.

أكبر حزب يساري في الجزائر هو حزب العمّال التروتسكي للويزة حنون. لسوء الحظ، ولأسباب عصية على الفهم، لطالما ساندت لويزة حنون بوتفليقة، لأنها اعتبرته حصنًا ضد الإمبريالية. إن هذا الموقف "المضاد للإمبريالية" الذي يبرّر الاستبداد قد شوهد بالفعل، خاصّة في حالة سوريا مع بشار الأسد. هذا مثير للسخرية خصوصا وأن عهد بوتفليقة هو أكثر العصور ليبرالية في تاريخ الجزائر المستقلة مع الكثير من التنازلات المقدمة للشركات متعددة الجنسيات والعواصم الغربية. إنه عصر تنازلات النخب الحاكمة من خلال ربط مصالحها بالخارج وإخضاع المصالح الوطنية لمصالح رأس المال الأجنبي. بمعنى آخر، لقد تخلى نظام بوتفليقة عن الشرعية الشعبية لصالح رأس المال الوطني والدولي.

هناك تنظيمات صغيرة وأحزاب سياسية أخرى كحزب العمال الاشتراكي  والحركة الديمقراطية والاجتماعية  تحاول إطلاق مبادرات مثل دعوات التنظيم الذاتي للعمال، الطلاب والجماهير الشعبية. وأعتقد اعتقادا راسخا أنه ينبغي تشجيع هذه المبادرات وتعزيزها. نرى هذا بالفعل في الحركة الطلابية وكذلك في محاولات بعض النقابيين على مستوى القاعدة لاستعادة أكبر نقابة في الجزائر، الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وتخليصها من الفاسدين والموالين للنظام.

6. أعرف أنه في بلدان مثل مصر، هناك تقليد سياسي قوي للناصرية التي تدافع عن الجيش على أساس ماضيه "القومي العربي" المزعوم. هل هناك أوهام مماثلة في الجزائر؟ وإلى أي مدى استوعب الناس دروس الدور الرجعي للجيش في الثورة المصرية؟

إن تاريخ الجيش الشعبي الوطني في الجزائر فريد من نوعه: إنه ذو أصول شعبية، وُلد في الكفاح ضد المستعمرين الفرنسيين ولعب منذ ذلك الحين دورًا رائدًا في المجال السياسي. لا يزال يتمتع بهذه الشرعية الثورية رغم كل تجاوزاته منذ الاستقلال عام 1962، بما في ذلك مقتلة مئات الشباب خلال الانتفاضة التي اندلعت في أكتوبر 1988، وانقلاب عام 1992 ودوره في المجازر ضد المدنيين في العشرية السوداء. بسبب العسكرة العميقة للمجتمع، هناك خوف مبرر من الجيش وما يمكن أن يفعله. علاوة على ذلك، لا يمكننا أن ننسى أنّ القيادة العسكرية العليا والجنرالات شاركوا في نهب المال العام وفي فساد مستشري. ارتباطه بالأوليغارشية، حرم الشعب الجزائري من حقه في تقرير المصير. أما فيما يتعلق بحزب جبهة التحرير الوطني، فقد تم تشويه سمعته بالكامل باعتباره الواجهة المدنية لنظام عسكري فاسد وسلطوي. تم التعبير عن ذلك بشعارات كثيرة مثل: "آف آل آن، ارحل! "

الولوج الحاسم للجماهير للساحة السياسية أجبر القيادة العسكرية العليا على الانفصال عن الرئاسة. تدخل الجيش بوضوح لإنهاء حكم بوتفليقة للحفاظ على النظام القائم. إنّ التخلي عن بوتفليقة هو لحظة مهمة في الديناميكية الشعبية التي بدأت في فبراير 2019، لكنها مجرد انتصار أول في الكفاح الطويل من أجل التغيير الجذري الذي يجب أن يشمل الإطاحة بجميع رموز النظام، بما في ذلك اللواء الڨايد صالح؛ فهو شخصية رئيسية في نظام بوتفليقة ومؤيد لعهدته الخامسة قبل أن يتراجع تحت ضغط الحركة الشعبية المتنامية. من الخطأ للغاية الثقة في قيادة الجيش، كما يظهر بوضوح من تهديداته الأولية للحركة قبل تبنّيه نبرة أكثر تصالحية. في بيانه بوهران في 10 أبريل، قال الڨايد صالح إنه لا يوجد مخرج للأزمة الحالية، إلّا في دستور مُصَمَّم بشكل أساسي لحماية النخب الحاكمة ومصالحهم. في الأساس، يقدّم دعمه ووزنه للانتقال المتحكم فيه من أعلى، أي إلى انقلاب ضد الانتفاضة الشعبية.

بالنسبة لي، يقود الڨايد صالح والقيادة العسكرية العليا الثورة المضادة التي بدأت تظهر علاماتها علنًا، بما في ذلك القمع العنيف للمتظاهرين السلميين. أولئك الذين خُدعوا به وبإعلاناته حول مساندته لمطالب الشعب بدأوا بالتفطن وأصبحوا أكثر حذراً. لا يمكن تطبيق شعارات مثل "الجيش الشعب، خاوة خاوة" على الجنرالات الفاسدين الذين استفادوا من نظام بوتفليقة وأيّدوه.

يجب أن يكون الشعب الجزائري - وخاصة الطبقات الشعبية- حذراً من تدخل مثل هذه الجهات الفاعلة من أجل تجنّب سيناريو السيسي في مصر. هناك، أيضًا، ادّعى السيسي أنه تدخّل نيابة عن الشعب عندما قام بانقلاب على مرسي وكلّنا نعرف ما حدث منذ ذلك الحين. قد يكون من التكتيكي الاستفادة من الصراع الداخلي المتواصل على السلطة بين النخب الحاكمة، لكن سيكون من الخطأ المميت الاعتقاد بأن قيادة الجيش ستكون إلى جانب الشعب أو ثورته. يجب أن تكون الجماهير الجزائرية أكثر يقظة وعزمًا من أي وقت مضى على منع القوى المعادية للثورة من الالتفاف حول هذه الانتفاضة التاريخية.

7. في رأيك، ما هي المهام والتحديات العاجلة التي تواجه الحركة؟

بعد تسعة أسابيع من الاحتجاج، على الرغم من كل محاولات التلاعب والتقسيم والتخويف، فإن الحركة لا تضعف. على العكس من ذلك، فإنها تتجذر وتمتد إلى العديد من القطاعات المهنية. لم يتوقع أحد أن يدعم القضاة الحركة الشعبية: إنهم يرفضون الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة المقرّر إجراؤها في 4 يوليو. لا يزال الطلاب ينظمون مظاهرات ومسيرات ضخمة في جميع أنحاء البلاد لدعم الحراك الشعبي ودعوا إلى إضراب وطني. كذلك تواصل بعض النقابات المستقلة دعواتها إلى الإضراب لدعم الديناميكية المستمرة.

في الأسبوع الفارط، أعلن العشرات من رؤساء البلديات رفضهم إجراء انتخابات في مناطقهم. بعض منظمات المجتمع المدني مصمّمة على استعادة الساحات العامة من خلال تنظيم مناقشات وأنشطة عامة، التي مازالت تُمنع في العاصمة وغالبا ما تنتهي بالقمع والاعتقالات. لقد رأينا أيضًا كيف أنّ العديد من الزيارات الوزارية قد توقفت أو أُلغيت بعد طرد عدّة وزراء في تبسّة وبشار وتيسمسيلت وتيبازا وولايات أخرى.

أصبح من الواضح جدًا أن الناس يرفضون خطة الانتقال التي يريد النظام أن يفرضها، ومن الواضح أننا نعيش في وضع ثوري قد يزيد حدة ويصبح أكثر جذرية تبعا لرد فعل الطبقات الحاكمة، ومستوى الوعي السياسي وتنظيم الحركة. إن ما يسمّيه المتظاهرون "أعضاء العصابة" لهم مصلحة كبيرة في الحفاظ على الوضع الراهن وسيبذلون قصارى جهدهم للتمسك به، بما في ذلك عن طريق التضحية ببعض أكباش فداء لربح الوقت وإنقاذ النظام.

لا يمكننا أن نكون ساذجين. الثورات لها تكلفة والقمع سيكون في الموعد. يتم تحديد الطابع السلمي أو العنيف للثورة دائما من قبل الطغاة وأساليبهم. النظام لن يستسلم بسهولة. لهذا السبب، يجب تغيير ميزان القوى بشكل كبير لصالح الجماهير من خلال استمرار المقاومة (المسيرات، المظاهرات، احتلال الأماكن العامة، الإضرابات العامة، وإلخ.) لإجبار قيادة الجيش على تلبية مطالب تغيير النظام وتصفية رموزه. يجب على المنظمات والمثقفين الذين لديهم وعي كبير والمتسلحين بالمبادئ الثورية عرقلة الطريق أمام القيادة العسكرية والأوليغارشية الكومبرادورية.

أعتقد أنّه يمكن تلخيص بعض التحديات التي تواجهها الحركة في:

- التنظيم عن طريق دفع وتشجيع التنظيم الذاتي المحلي من خلال لجان الأحياء والمجموعات الطلابية والتمثيلات المحلية المستقلة وفتح المساحات للنقاش والتفكير من أجل الوصول إلى رؤية صلبة وبرنامج متماسك. سيغذّي هذا الدينامية على المدى المتوسط والطويل لأن المعركة أبعد من أن تنتهي.

- إن تزويد الحركة بهياكل وآليات شعبية وديمقراطية سيمكننا من تطوير استراتيجية: كيفية صياغة مطالب واضحة، ونوع التكتيكات التي يجب تبنيها، ومعرفة  متى نكثف المقاومة أو نفاوض. لا يمكننا التسرع في الذهاب إلى الانتخابات الآن لأنّ القوى المهيكَلة هي دائما (بما في ذلك قوات النظام القديم) من سيستولي على الحكم.

- في هذه المرحلة الحاسمة، من المهم للغاية التأكيد على حرية التعبير والتنظيم الفردي والجماعي في كل وقت، وليس فقط يوم الجمعة.

- إنكار ورفض أي انتقال يسيّره الأوليغارشيون والعسكريون بشكل قاطع والدعوة إلى تأسيس جمعية تأسيسية سيادية وشعبية لاقتراح دستور شعبي وديمقراطي حقيقي يضمن العدالة الاجتماعية والسيادة الشعبية على الموارد الطبيعية. على أي حال، يجب أن يكون الانتقال الديمقراطي في أيدي الشعب، وتديره قواه ومن أجل الشعب.

- الاستمرار في رفض أي تدخل أجنبي في الأحداث الجارية.

- أخيرًا، يجب أن نجمع بين الحقوق الاجتماعية الاقتصادية والديمقراطية، لأن هذه الثورة هي تعبير عن إرادة المضطهَدين للدفاع عن مصالحهم المشتركة.

تواجه ثورتنا مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة والمخاطر حقيقية بالفعل وتتطلب مستوى من الوعي والتنظيم والاستراتيجية الثورية لمواكبة تطلعات الجماهير، وخاصة الأكثر فقراً منها.

التغيير الجذري ليس عملية مبرمَجة تُشغَّل بزرّ ضاغط. إنها عملية سياسية مستمرة، وهي مواجهة تتطلب تضحيات، تتسارع في لحظات معينة، على طريق معبّد بالصراعات الطويلة والخبرات المتراكمة. على حدّ تعبير عبارة مشهورة معروفة لدى المسلمين (بتصّرف): "دعونا نعمل من أجل تغيير جذري كما لو أنّ الأمر سيستغرق دهرًا ولنهيئ لذلك الميدان كما لو أنّه سيحدث غدًا".

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬