فلسطين والقانون الدولي ومستقبل عادل غير معهود

فلسطين والقانون الدولي ومستقبل عادل غير معهود

فلسطين والقانون الدولي ومستقبل عادل غير معهود

By : Noura Erakat

مقدمة

تقدم المحللة السياساتية في الشبكة نورا عريقات طرحًا جديدًا في كتابها الجديد المعنون "Justice for Some: Law and the Question of Palestine" [عدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية] ضمن مقاربتها للقانون الدولي في الشأن الفلسطيني. يعتقد المحللون عمومًا بأن القانون في هذا السياق إمّا مفيد إذا نُفِّذَ كما ينبغي، وإما مُضرٌّ بسبب علاقته بالسلطة والنفوذ. غير أن عريقات تطرح حُجةً مختلفةً، إذ ترى أن القانونَ سياسةٌ، ومثلما يمكن استخدامه كأداة هيمنة في يد الدول القوية، يمكن استخدامه على نحو استراتيجي للنهوض بالقضايا التقدمية، بما فيها قضية التحرر الفلسطيني.

تقول عريقات إن "كتابات كثيرة عن القانون وفلسطين تروِّج لفكرة أنه لو سُمحَ بتفعيل القانون، فإننا سوف نلمس عدلًا أكثر في المحصلة." "ولكن القانون يعمل كما ينبغي له أن يعمل، لذا علينا أن نكون أكثر انتقادًا للقانون." وهي ترى أن لا معنى محددًا للقانون، وأنه يعتمد على الإجراءات المتبعة والتفسيرات. وتقول "إن المسألة لا تقتصر على التحليل القانوني وحسب، بل إن القانون يعكس توازن القوى، والاستراتيجية، والأحداث التاريخية."

غير أن السلطة والقوة لها حدودها. وبالرغم من أن هناك كتابات أخرى حول القانون وفلسطين تقول إن القانون مرتهن بالسلطة والقوة، فإن عريقات ترى بأن النتيجة المنطقية لهذا الطرح - القائل إن السلطة تحدد القانون - تستلزم بأن القانون وهم. تقول عريقات: "لو كان القانون تبريرًا بحتًا للسلطة، لَكُنا تخلينا عنه منذ زمن بعيد... ولكانَ ذلك مدعاةً للاحتجاج. ولكننا عهدنا بأن القانون أداةٌ للاضطهاد والقمع، وأداةٌ للمقاومة أيضًا."

تحاورت الشبكة مع نورا عريقات حول مقاربتها إزاء القانون الدولي وما تعنيه بالنسبة إلى فلسطين والفلسطينيين، وماهية المستقبل الممكن تخيله إذا طبقنا هذه المقاربة.

متى أحسنَ الفلسطينيون استخدامَ القانون الدولي؟

أحسنَ الفلسطينيون استخدامَ القانون الدولي في عقد السبعينات. رسَّخ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدةرقم 242 لسنة 1967 مكانةَ إسرائيل كواقعٍ سياسي في الشرق الأوسط حين نصَّ على أن إسرائيل سوف تُعيد الأراضي العربية لأصحابها الشرعيين مقابل تطبيعهم العلاقات مع إسرائيل. وهكذا ترسخت الشرعية الاستيطانية الإسرائيلية وحظيت بالحماية بموجب القانون الدولي بينما تأكدَ محو الفلسطينيين كشعب. فالقرار لم ينص على أن الفلسطينيين شعبٌ أو أنهم سيحصلون على دولة. بل أشار إليهم فقط بمسمى "مشكلة اللاجئين."

وفي 1974، ساهمت منظمة التحرير الفلسطينية في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 3236، والذي كان تصويبًا لقرار 242، حيث أقرَّ بالفلسطينيين كشعب، ونصَّ على أن لهم الحق في تقرير المصير وفي تسوية سلمية دون أن تكون هذه التسوية متوقفة على الاعتراف بإسرائيل. وفي هذه الحالة لا يملك الفلسطينيون دولة، وهم يعكفون على استخدام القانون من أجل بلوغ النتائج المنشودة. والقانون في هذه الحالة أداةُ مقاومة. بالطبع، هذا أقصى ما يمكن تحقيقه بواسطة القانون. ولكن حتى وإنْ كان القانون قاصرًا عن تحقيق نتيجة ثورية، فإنه يظل وسيلةً في يد الشعب من أجل المقاومة والدفاع عن نفسه.

هل هناك قضايا أخرى غير القضية الفلسطينية تُبرز فوائد استخدام القانون الدولي؟

يمكننا أن نتعلم من قضايا قانونية أخرى وقضايا تنطوي على الاستعمار الاستيطاني. فهذه القضايا تُظهر النوع نفسه من المحو القانوني، حيث يقوم المستوطنون بفرض سيادتهم على المجتمعات الأصلية بينما تكافح تلك المجتمعات من أجل تقرير مصيرها. ومن الأمثلة على قضايا الاستعمار النضالُ الناميبي ضد الهيمنة الجنوب أفريقية، حيث يضرب مثالًا لاستخدام القانون الدولي في الدفاع عن القضايا التقدمية.

 

اتسمت قيادة حركة التحرير الناميبية بالحنكة والدهاء في استخدامها القانون الدولي للتحرر من جنوب أفريقيا. عُرفت تلك الحركة باسم منظمة شعب جنوب غرب أفريقيا (سوابو)، ولم تسمح لنفسها قط بأن تخضع لنفوذ جنوب أفريقيا. وبخلاف القيادة الفلسطينية التي أذعنت لإسرائيل وراعيها الأمريكي، اعتمدت منظمةُ سوابو على عملية تفاوضية دولية ولم تقبل أن يكون قامعها ومضطهدها مُحرِّكًا وموجِّها لتلك المفاوضات.

لم تُلق منظمة سوابو السلاح قط. وهذا لا يعني أن الكفاح المسلح هو الطريقة الوحيدة الممكنة للمضي قدمًا على صعيد التحرير الفلسطيني، ولكنها إشارة إلى أن إلقاء السلاح تُعد فعليًا تخليًا عن مصدرٍ من مصادر القوة التي يمكن أن تُعزز الموقف التفاوضي. (لا بد من الإشارة إلى أن منظمة سوابو حظيت بدعم القوات الكوبية في أنغولا. وهذا اضطر إدارة ريغان في نهاية المطاف إلى وضع سياسة تربط بين انسحاب جنوب أفريقيا من ناميبيا وبين انسحاب كوبا من أنغولا).

وفي حالة ناميبيا، جرى تطبيق القانون تدريجيًا وأفضى إلى طرح حُجة قانونية أكبر تعادل الاستقلال. وهكذا تمكنت ناميبيا من تسخير القانون لمصلحتها بفضل ذلك وبفضل أن القيادة رفضت التخلي عن عملية السلام المتعددة الأطراف لأجل الدخول في عملية سلام ثنائية مع جنوب أفريقيا ورفضت التخلي عن كفاحها المسلح.

ماذا ينبغي للقيادة الفلسطينية أن تتعلم من حالة ناميبيا؟

لم تستخدم القيادة الفلسطينية القانون على نحو استراتيجي كما فعل القادة الناميبيون. فالاستراتيجية تتكون من أساليب متعددة تُفضي إلى محصلة في النهاية، غير أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تتبع سوى أساليب قانونية دولية مؤقتة وغير منتظمة. فقد رأينا القيادة وهي تلجأ إلى الأمم المتحدة لمقاضاة إسرائيل بموجب نظام روما الأساسي في المحكمة الجنائية الدولية، ورأيناها تدافع عن مكانتها القانونية كدولة، وفي الوقت نفسه رأيناها تتخلى عن تلك المساعي القانونية حالما عرضت عليها الأمم المتحدة ظروفًا أفضل للتفاوض على "خطة سلام".

إن القيادة الفلسطينية بحاجة إلى استراتيجية حقيقية تتحدى البناء السياسي الذي يُخضِع الفلسطينيين ويُذلهم. فقد وقعنا في فخ السيادة المتمثل في التمتع بسيادة مستأجَرة تقوم على انهماك الفلسطينيين الدائم في إثبات استحقاقهم للحكم الذاتي. وقد انبثق هذا الفخ من اتفاقات أوسلو ، فأيٌّ من بنودها لا يَعِد بإقامة دولة أو نيل الاستقلال في نهاية المطاف. إنما هي اتفاق يؤسس لحكم ذاتي متشرذم ومحدود ومتوقف دومًا على الموافقة الإسرائيلية. لقد نجَحَ الإسرائيليون في 1993 في شرعنة استعمارهم برضى الفلسطينيين. وحتى منظمة التحرير الفلسطينية وصفت إيمانها بأن اتفاقات أوسلو ستقود إلى الاستقلال على أنه مبني على "حسن النية." فيجب علينا أن نرفض أوسلو وأن نرفض الولايات المتحدة كوسيط. وليس هناك خيارٌ آخر سواءً كنا نَنشد حل الدولتين أو حلًا آخر.

هل تقدم الحركة الشعبية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها هذه الاستراتيجية؟

حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات هي إطار عمل يتحدى المحظورات ويحث على النقاش ويضع إسرائيل في موقف دفاعي، وهذه كلها تطورات إيجابية. ولكن حركة المقاطعة ليست حركةً سياسية، ولا تقدم رؤية سياسية للمستقبل. ويرى قادتها بأن منظمة التحرير فقط التي بوسعها أن تتخذ تلك القرارات. وهكذا في حين أن حركة المقاطعة أوجدت حيزًا سياسيًا، فإن أيًا من الفاعلين السياسيين الفلسطينيين لم يستثمر ذاك الحيز للاستفادة من إنجازات حركة المقاطعة في فرض مطالب سياسية. ومن الجيد أيضًا أن حركة المقاطعة تُجسِّد تحليلًا قائمًا على الحقوق، وأُؤكد مجددًا هنا على عدم وجود أي رؤية سياسية من شأنها أن تُبين ماهية حقوق الإنسان التي يمكن تحقيقها في إسرائيل وفلسطين. فعلى سبيل المثال، يؤمن المستوطنون بأن بقاءهم في منازلهم هو حق من حقوقهم الإنسانية. فضلًا على أن هذا يثير مسائل حول ما إذا كان المَطلب المطروح يتمثل في تفكيك تلك المستوطنات أم في دمجها. وهذا غيض من فيض الاحتمالات الممكنة عند التفكير في محدودية إطار العمل المبني على الحقوق. فهو ضروري ولكنه غير كافٍ، ولذلك نحتاج إلى وسيلة سياسية ملموسة أكثر.

تتمثل مهمة الشبكة في تثقيف العامة وتعزيز النقاش العام حول حقوق الإنسان الفلسطيني وتقرير المصير ضمن إطار القانون الدولي. فما الذي ينبغي أن يتذكره محللونا السياساتيون في ضوء بحثك؟

إن ما ينبغي لمحللي الشبكة - والفلسطينيين كافة - أن يفعلوه هو ألا يركزوا على إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية أو العودة إلى 1947. نحن بحاجة إلى رؤية للمستقبل، وعلينا أن نضفي صبغةً سياسيةً أكثر على مطالبنا وأن نشجع الناس على طرح رؤى سياسية جديدة. وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاق الجميع على إطار وطني للتحرير. وحركة المقاطعة ليست إطارًا للتحرر وإنما إطار للتضامن. فما هو إذن إطارنا الوطني للتحرر؟

الحق يُقال إن السلطة الفلسطينية واضحة جدًا في رؤيتها، حيث لا تزال تريد حل الدولتين. أمّا مَن يرفض حلَّ الدولتين، فإن تفضيلَه حلَّ الدولة الواحدة لا يكفي. فماذا بشأن عملية إنهاء الاستعمار؟ وما هو مصير الإسرائيليين في المستقبل؟ فحين صادق الفلسطينيون على فكرة دولة مقطَّعة الأوصال في 1988، كانت تلك انعطافة ثورية لحركة التحرير الوطنية. ولم يتصور المتحمسون الأوائل لها، كمحمود دوريش وإدوار سعيد وغيرهم كثيرون، أنها سوف تنحرف إلى هذا الحد بموجب اتفاقات أوسلو. ويمكن لهذه المخاطر أن تشوب حل الدولة الواحدة أيضًا، فيمكن لحل الدولة الواحدة أن ينحرف ليجسد سيادةَ المستوطنين اليهود الصهاينة وإذلالَ الفلسطينيين. ولأن حل الدولتين أبسط بكثير، فإن تحقيقه يبدو أسهل في مخيلتنا، بَيد أن كلا الحلَّين على القدر نفسه من الجسامة، ولا يكمن تحقيقهما دون إنهاء الاستعمار.

أنتِ تختمين الكتاب بطرح رؤى ممكنة للمستقبل. ما الذي تنطوي عليه هذه الرؤى؟

لنتخيل أن اللاجئين الفلسطينيين قد عادوا. ودعونا نستخدم ذلك كوسيلة لتصور المستقبل. فبدلًا من المطالبة بحق العودة باعتباره المحصلة المثلى، يجب علينا أن نسأل كيف للعودة أن تتيح الإمكانيات والفرص. كيف يمكن للعودة أن تكون مكوِّنًا أساسيًا في الحل وليس نتيجة نهائية؟

هذا يقودني للتفكير: كيف يمكن لهذا أن يعمل على تحويل إسرائيل إلى دولةٍ جزءٍ من الشرق الأوسط، وليس دولةً تابعةً للمستوطنيين تقع في الشرق الأوسط؟ قد يبدو هذا وكأنه ضربٌ من الكفر، ولكنني أنهمك في هذا التفكير لأتخيل كيف يمكن لفلسطين أن تحتضن الجميع. تذكروا أن جزءًا رئيسيًا من المجتمع اليهودي الإسرائيل هم أيضًا عرب. ينحدرون من أماكن مثل العراق وسوريا والمغرب والجزائر، وهم مضطهدون للغاية داخل إسرائيل لأن إسرائيل كانت ولا تزال مشروعًا مبنيًا على تفوق العنصر الأبيض. وقد اضطر اليهود العرب إلى إنكار هويتهم العربية لإنجاح مشروع تفوق العنصر الأبيض. وعلينا نحن الفلسطينيين أن نكون قادرين على تأمين مستقبل للإسرائيليين اليهود أفضل من المستقبل الذي تعرضه عليهم إسرائيل الآن. وهذا أمرٌ مخيف، إذ إن من الأسهل أن تُبرزَ عِلل إسرائيل وعلاقتها بالولايات المتحدة. ولكن ما هو المستقبل الأمثل الذي يمكن أن نتصوره؟

لا ينطوي هذا المستقبل على التطبيع مع إسرائيل. فهي مستعمرةٌ استيطانية مبنية على القضاء على الفلسطينيين، ولا ينبغي تطبيع ذلك. غير أن المؤسسة الاستعمارية الناظمة للعلاقة بين السكان الأصليين والمستوطنين يمكن، وينبغي، أن يتم تحويلها ضمن جهود إنهاء الاستعمار. وهذا ينطوي أيضًا على الاعتراف بالتنوع الإثني والديني واللغوي الهائل في العالم العربي. فلطالما كنا متنوعين - مسيحيين ويهود ومسلمين - ولكن كما يقول أسامة مقدسي إن التدخلات السياسية التي تقوم بها الدول، وليس أقلها الصهيونية، هي المحرك الأكبر للنزعات الطائفية والمذهبية في الشرق الأوسط. نحن لسنا في صراع بين المجتمعات لأننا مختلفين ولكن لأن القوى والدول الاستعمارية أكسبت تلك الاختلافات أهميةً سياسية. فكيف نتغلب على تلك الانقسامات؟ وكيف نبدأ في تصور مستقبل لا ينتمي له الفلسطينيون وحسب، وإنما ينتمي له اليهود العرب أيضًا؟ وهذه دعوة لتخيل المستقبل بدلًا من الحنين إلى الماضي.

يجب علينا أن نتخلى عن إطار السيادة وأن نتبنى إطار الانتماء. فبوسعنا جميعًا أن ننتمي، ولكن عدد مَن يستطيع منا السيطرةَ والحكم محدودٌ. وهذا ضربٌ غير معهود من الحُلم والتخيل. حتى وإنْ لم أخرج بالمعادلة الصائبة، دعوني على الأقل أن أخرجَ بشيء يُلهمكم ويدفعكم إلى ممارسة التخيل غير المعهود أيضًا.

[عن مجلة "الشبكة"]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Jadaliyya Co-Editor, Noura Erakat, Addresses Ceasefire Agreement on BBC

      Jadaliyya Co-Editor, Noura Erakat, Addresses Ceasefire Agreement on BBC

      Jadaliyya Co-Editor, Noura Erakat, joined the BBC last night to discuss the tenuous ceasefire agreement. Despite 15 months of genocide that has destroyed Gaza and killed an estimated 2 percent of Gaza’s Palestinian population, the anchor wanted to scrutinize Hamas, Erakat insisted on setting the record straight.

    • Gaza in Context: "Nothing Will Ever Be the Same Again"

      Gaza in Context: "Nothing Will Ever Be the Same Again"

      In this multimedia video, Jadaliyya Co-Editor Noura Erakat reads her article, “Nothing Will Ever Be the Same Again,” published in The Nation, featuring images and video of the details recounted. This is meant to be resource for classrooms to study both the devastating impact of genocide and the remarkable efforts by millions of ordinary people around the world to stop it.

    • Jadaliyya Co-Editor Noura Erakat Addresses Netanyahu’ ‘tragic mistake’ Comment on Rafah camp strike

      Jadaliyya Co-Editor Noura Erakat Addresses Netanyahu’ ‘tragic mistake’ Comment on Rafah camp strike

      Israel's airstrike on a tent camp in Rafah killed scores of civilians and led to more global outcry. To discuss how it happened and its wider significance, Amna Nawaz spoke with Noura Erakat, an associate professor at Rutgers University and a human rights lawyer, and retired Israeli Col. Pnina Sharvit Baruch, a senior research fellow at the Israel Institute for National Security Studies.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬