«هناك، حيثما نعيش، ذلك هو وطننا» ــ شعار تجمّع العمل اليهودي (البوند)
حاول جدي الأكبر (جد أمي)، فنان ما بعد الانطباعية، «سام روثبورت»، في السنوات الأخيرة من عمره أن يعيد، بالرسم، عالم طفولته الفاني في القرية (أو «الشتيتل»، كما تعني باليديشية) إلى الوجود. من بين مئات الرسومات المائية التي أسماها «رسومات الذاكرة»، برزت رسمة واحدة. تصور اللوحة فتاة أمام أكواخ، ثوبها بلون غسق السماء في الأعلى. كانت، قبلها بلحظة، قد ألقت حجراً على نافذة الكوخ التي تهشمت الآن. في طرف اللوحة، يناولها صديقها المزيد من الأحجار.
[عنونَ سام العمل «إتكا البوندية، تحطّم النوافذ.».]
ربما كنت في الخامسة عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين من العمر، عندما لمحت اللوحة في غرفة جلوس عمتي المشمسة، أو في شقة أمي؛ لا أتذكر تحديداً. ما علق في ذاكرتي هو غرابة اسم البطلة «إتكا» المأخوذ من العالم القديم. قلّبت المقاطع «اليديشية» (لغة يهود أوروبا) على لساني. وكذلك لفظ «بوندي». ما معنى ذاك؟
لقد قادني هذا السؤال إلى تجمع «البوند»، المجتمع الثوري الذي كان جد أمي أحد أعضائه، والذي تمازجت قصته مع ويلات اليهود في شرق أوروبا، ومع انتصاراتهم كذلك، والذي كاد اسمه أن يمحى من الذاكرة.
أسس التجمع في عام 1897 في مدينة «فيلنا» (فيلنيوس في ليتوانيا حالياً،) ووصل ذروته في فترة ما بين الحربين العالميتين في بولندا. كان البوند حزباً سياسياً (سرياً في بعض الفترات) ذو مبادئ إنسانية، اشتراكية، علمانيةً و يهودية بإصرار. قاتل البونديون قيصر روسيا وتصدوا للمذابح المنظمة ضد الأقلية اليهودية، كما وكافحوا الأمية في قرى الشتيتل. وساهموا في قيادة انتفاضة غيتو وارسو. وعلى الرغم من أن ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي محقا البوند، إلا أن معارضة البونديين للحركة الصهيونية هي السبب الرئيسي وراء غياب البوند عن الوعي الجمعي في الوقت الحاضر. ورغم نظرة البونديين لليهود كأمة، إلا أنهم عارضوا وبشدّة تأسيس دولة إسرائيل كوطن بديل لليهود في فلسطين. جادل البونديون بأن الشتات هو الموطن. وأن اليهود لا يمكن أن يتخلصوا من مشاكلهم العالقة بسلب الآخرين. بدلاً من ذلك، التزموا بمبدأ الـ «دو إكايت» أو «الهنائية»: لليهود الحق في العيش بحرية وكرامة حيثما كانوا.
عندما يِذكرُ البوند اليوم، هذا إن ذكر أصلاً، فإنه يصوَّرُ كنهج مثالي ساذج وأن مبدأ «الهنائية» الخاص به تم دحضه بالمحرقة النازية. لكن وأنا أرى صوراً على وسائل التواصل الاجتماعي لرصاص القناصين الإسرائيليين يقتل المتظاهرين الفلسطينيين، أعتقد أن البوندية، بيهوديتها التي كانت متعاطفة، وصلبة كالحديد في ذات الوقت، كانت الحركة التي أثبت التاريخ صحة نهجها.
عندما أسس 13 يهودياً حزب البوند في إحدى بيوت مدينة فيلنا المتوارية عن الأنظار، كان سام روثبورت مراهقاً يتيماً ينحدر من بلدة «فولكافيسك» التي كانت تبعد مسافة خمسة أيام بعربة الحصان. كانت بلدته واحدة من بلدات المنطقة التي كانت تعرف بـ «بيل أوف سيتيلمينتس» (حِجر المستوطنات)، وهي منطقة فقيرة تشمل الأقاليم الغربية للإمبراطورية الروسية أجبر القيصر الروسي اليهود على العيش فيها. عانى السكان اليهود في منطقة الحجر من تجنيد الأطفال الإجباري ومنعوا من العمل والتعليم وحق الملكية. وتعرضوا للمذابح المنظمة «البوغرمز» التي كانت تنفذ بتشجيع وإشراف الدولة. نجد هذه الأحداث المأساوية في رسومات سام أيضاً. في رسوماته المائية، يصور سام المهاجمين الروس وهم يمزقون ريش الأسرّة ويحرقون المنازل: حيث يرمز الريش المتناثر والنيران الملتهبة لحالات الاغتصاب والقتل التي كانت ترافق هذه الأحداث. يتناوب أسلوب العنف الممنهج في هذه اللوحات مع الإهانات اليومية. يصرخ المعتدون الروس في عنوان إحدى الرسومات المائية، «اخلع قبعتك أيها اليهودي.» ويرضخ اليهود للأمر.
فقد سام أمه باكراً بسبب وباء الكوليرا، وأقتصر تعليمه على التردد على الكنيس حيث كان يغني؛ وعندما خشن صوته أضطر للعمل كمساعد في صناعة الجلود. لكن الصور المتبقية عن فولكافيسك من مطلع القرن العشرين تناقض نظرته الوردية في كتاباته عن جمال موطنه والتي اصطبغت بالحنين العاطفي إلى الماضي. فقد كانت قريته التي ترعرع فيها متاهة من الأبنية الخشبية والشوارع الطينية يفصل نهر «نيمان» بينها ويحكمها مجلس من الأعيان المتدينين الذين كانوا يتعاملون مع السلطات غير اليهودية نيابة عن مجتمع اليهود الفقراء الذين كانوا يستغلونهم بنفس الوقت.
كانت اليديشية اللغة السائدة في تلك المجتمعات، وفي طبيعتها الهرمية، كان الكنيس مركز البلدة الفكري. حيث يعلو كعب الرجل على المرأة، والكبير على الصغير. ويتمحور العيش حول المناسبات الدينية ومواسم الحصاد وعطلة السبت. بفضل فيلم «عازف الكمان على السطح» يعرف الأمريكيون نمط تلك الحياة التي يصورها الفيلم بصورة مبالغ بعاطفيتها، لكن شخصية «تافيا» وعاداته كانا بالضبط ما لم يتحمله مجتمع البوند. في مذكراته الصادرة بعنوان «النجوم تشهد» يهاجم عضو البوند بيرنارد جولدشتاين «جهل» مجتمع الشتيتل و «معتقداته الخرافية الدينية القديمة» مقارنة بمعتقدات البوند «الجديدة القائمة على أخوة الإنسان والاحترام المتبادل وكرامة الفرد.»
بعد شهور من تأسيس حركة البوند، قام الدعاة لها بزيارة فولكافيسك لنشر مفهوم حقوق العمال بين المتدربين الشبان مثل سام. تحت تأثير البونديين نظم المتدربون إضراباً. واستأجر أصحاب العمل أناساً لإنهاء الإضراب. تطور الأمر لمواجهات عمت الشوارع وانتقلت للكنيس نفسه حيث تواجه البونديون مع الذين استقدموا لقمع الاضراب بالهراوات في مشاهد أعاد سام تصويرها لاحقاً في لوحاته المائية. لم يقف سام مراقباً للأحداث عن كثب، بل كان جزءاً منها، كما كتب لاحقاً، «شاركتُ في الإضرابات وفي استهداف الأملاك (لأصحاب العمل). أصبحت ثورياً.» حصل المتدربون، بالعنف، علي حق أساسي جديد: عطلة ليلة كل سبت.
معززين بنجاحهم، تزايدت أعداد أعضاء البوند في فولكافيسك إلى ما يقارب الثمانين عضواً، الكثيرون منهم جندوا عن طريق المكتبة اليديشية. كان بأمكان أي شخص قراءة ترجمات للروائي الفرنسي «جول فيرن»، لكن الزوار الواعديم إأعيروا نسخاً محظورة من أعمال «كارل ماركس.» وعلى الرغم من وضع حزبهم غير القانوني، فقد قاموا بالتجمع في الصيف تحت علم أحمر في غابة «ساموكوفين» وأنشدوا نشيد البوند القسم «دي شفي»: «العلم الأحمر عال وعريض. يلوح بغضب. أحمر بالدم.»
قاموا بوضع المزيد من الخطط الطموحة. فقد سطوا على المصالح الحكومية المحتكرة للكحول في قرية «إزابيلين». وقاموا، خلال فترة الإضرابات، بقطع أسلاك الهاتف وتحطيم المعامل وضرب العمال غير الملتزمين بالإضرابات. كما نصبوا الكمائن لأرتال نقل المساجين حيث كانوا يرشقون وجوه السواق بمسحوق التبغ (وسيلة مرتجلة تشبه رذاذ الفلفل المستخدم اليوم) ويحررون رفاقهم المعتقلين. كما وقاموا ذات مرةً بنشر قضبان زنزانة صديقهم «بيرل دجوكين» وتحريره، وعندما لاحقه رجال الشرطة لمخبئه في بيت إحدى رفاقه، نجح في التملص متخفياً تحت جناح الليل منتحلاً زي امرأة عجوز
في سنة 1902، وهي السنة التي قام فيها أحد أعضاء التنظيم بإطلاق النار وجرح حاكم مدينة فيلنا المكروه، كان البوند الحزب الثوري اليهودي الوحيد في روسيا. لم تملك أي مجموعة أخرى الوسائل لطباعة منشورات غير قانونية أو شبكات تهريب لداخل وخارج حجر المستوطنات؛ تكفّلت المساهمات التي كانت تصل من مجتمعات الشتات اليهودية ت بتمويل الميليشيات التي شكلها التنظيم لمقاومة مذابح البوغرومز. شكل البونديون في ذلك الوقت ثلث سجناء مخيمات قيصر روسيا التي كانت منتشرة في سيبيريا، ونما التنظيم بانتشار أعضائه خارج حدود الإمبراطورية الروسية نتيجة سياسات النفي وحالات الهروب.
بحلول عام 1904 وصل عدد أعضاء البوند إلى 35,000. في شباط من ذلك العام قام الأسطول الياباني بإغراق سفن حربية روسية في «منشوريا» في أول هزيمة مذلّة لحكم القيصر خلال الحرب اليابانية- الروسية. في خضم تلك الأحداث نفذت الكثير من الإضرابات التي أعقبتها اعتقالات عشوائية. ففي مدينة «بايليستوك» (في شمال ما أصبح لاحقاً بولندا) كانت الشرطة تقتل العمال اليهود بلا رقيب. قرر سام الفرار من الإمبراطورية الروسية والتوجه إلى العالم الجديد ليتجنب ظروف السجن في سيبيريا أو الزج به في حرب القيصر البحرية في البحر الأصفر. حين رست سفينته في جزيرة «إيليس» طلب من جدي الأكبر أن يوقع على وثيقة تصرح بأنه ليس فوضوياً (آناركيا) وليس موالياً لقيصر الروس. كان صادقاً في الأخيرة، ولكن لدي شكوك حول الأولى.
لقد هرب في الوقت الضائع. تثير الحروب الحمقاء العصيان والثورة. أدرك رعايا القيصر في أنحاء الإمبراطورية أن وقت القيصر قد شارف علي الانتهاء. وكانت البوند واحدة من مجموعات راديكالية كثيرة أقسمت على «دفع الوحش المتداع إلى الهاوية.» فعندما قامت الثورة الروسية في شباط انتفض البونديون على امتداد الحِجر حيث واجهت فصائلهم الشرطة والجنود من شارع لآخر، من «لودز» في بولندا وحتى «أوديسا» في أوكرانيا.
في عام 1905 تلقى سام صورة من أصدقائه في بلده القديم صورت بأسلوب صور الأستوديوهات القديمة: يقف عشرة بونديون أمام خلفية مزينة بالنقوش، يلبس كل منهم بلوزة فلاحين سوداء حيث كانت تعتبر حينها رمزاً لأناقة الثوريين. يبدو «تشايم تشالكة» أصغر من أن تنمو له لحية و «موشي كاترييل» شارد بنظره بينما يرفع «إسرائيل صانع الأقفال» رأسه الوسيم.
ما الذي حدث لأولئك الفتية الجامحين؟ هل تمكنوا من البقاء أحياء تلك السنة؟ كانت هناك موجة من المذابح بعد فشل الثورة. قام العديد من الروس والأوكرانيين—أخوة البونديين العمال—بقتل مئات اليهود. فر ما يقارب الـ 125,000 من الباقين إلى نيويورك.
وجد الكثير من هؤلاء اللاجئين ، مثل سام، ثقافة يهودية بديلة في نيويورك كان للبونديين التأثير الأكبر عليها. سميت «بيوت فلاديك» في القسم الشرقي الأسفل من المدينة، باسم عضو البوند الثوري «باروك تشارني فلاديك» والذي كان قد أرسل إلى سجون سيبيريا في شبابه، قبل سنوات من حصوله على عمل في مشروع إدارة السكن لصالح عمدة المدينة «فيوريللو لاجوارديا». وماذا عن مشروع إسكان «أمالجاميتد» في البرونكس؟ هذا أيضاً كان تحت رعاية نقابة خياطي الألبسة (الجاهزة) التي كان يرأسها «سيدني هيلمان» والذي بدأ نشاطاته العمالية كمنظم من البوند. وقام بقيادة مسيرة عيد العمال في شوارع مدينة «كوفنو» في ليتوانيا. تحمل إحدى جوائز الصحافة الشهيرة ت اسمه. كما قادت مهاجرات بونديات نقابة عمّال الألبسة بالإضافة إلى الاتحاد الاشتراكي اليهودي. وشكل البونديون أغلبية «دائرة العمال» وهي جمعية خيرية يهودية علمانية ما تزال نشطة إلى اليوم وما تزال لافتاتها حتى اليوم في التظاهرات المناهضة للرئيس ترامب.
وبالطبع سهلّت هذه البيئة اندماج سام في العالم الجديد. فقد انضم إلى دائرة العمال وأصبح يقرأ جريدة «ذا جويش دايلي فوروارد» اليومية الاشتراكية الناطقة باليديشية. وأصبح نباتياً ورافضاً للعنف، وفناناً.
فلنترك جدي آمناً في بروكلين وننتقل لصفحة أخرى في تاريخ البوند. هنا يحضر «برنارد جولدستاين» زعيم مليشيا الدفاع الذاتي في مدينة وارسو ومؤلف المذكرات المطبوعة «خمس سنوات في غيتو وارسو: النجوم تشهد» و «عشرون سنة مع تجمع العمل اليهودي».
لم يسمع برنارد جولدستاين بسام روثبورت، فقد كان أصغر منه بسبع سنين وكانا نقيضين في الكثير من النواحي. فقد كان برنارد رجلاً ذا ولاء حزبي، لا فناناً فردانياً. وكان أيضاً ميالاً للخصومات، لا مسالماً هيبياً. فقد ولد في قرية خارج وارسو ومن ثم انضم للبوند عام 1902 في سن الثالثة عشرة. كان قد قضى فترة الحكم عليه بالسجن وهو بعمر السادس عشرة؛ حيث بقي أثر ندبة تلقاها من سيف حارس السجن على ذقنه. قضى برنارد عقوداً من الزمن يفر من السجن وينظم النقابات حتى أتت ثورة عام 1905 التي شارك بها والتي بالكاد هرب منها سام. في عام 1915 وخلال فترة سجنه في سيبيريا وقعت حادثة خلدت اسمه كأسطورة: قام أحد مفتشي السجن بإهانته، فرد جولدستاين بتحطيم فانوس على رأس المفتش. فانتقم المفتش منه بقسوة عندها. لكن جولدستاين (كمعظم أقرانه في البوند) كان يتحلى بروح التسامح: فعندما قامت الثورة وانتفض المساجين على الحراس، قاموا بربط المفتش على شجرة وسلموا رقبته لجولدستاين ليعدمه. لكنه عفا عنه مشدداً على أن الثورة يجب ألا تفقد إنسانيتها
انتقل جولدستاين بعدها إلي كييف وقاد ميليشيا في عام 1917 كما وتسلم منصباً في مجلس البلدية. لكن اللحظات الوردية للثورة سرعان ما ذبلت في جو الرعب والاستبداد الروسي وفي خضم الحرب الأهلية. كتب القائد البوندي «فلاديمير ميديم» آنذاك «إننا نقترب أكثر فأكثر من اليوم الذي سنرى فيه نصب محاكم ثورية حيث يقوم البلشفيون المقبولون اجتماعياً بإعدام البلشفيين المشكوك بهم.. فدائرة الاشتراكيين المقبولين أو الملتزمين بمبادئهم تضيق شيئاً فشيئاً.». في عام 1921 قام البلشفيون بحل تجمع البوند بالإضافة للأحزاب السياسية الأخرى. ممتعضاً من تلك التوجهات، عاد جولدستاين لوارسو. فقد ازدهرت مجموعته في بولندا التي حصلت على استقلالها حديثاً رغم نهاية وجودها في روسيا.
تنقل جولدستاين بين طبقة العمال اليهود في وراسو، تلك الطبقة التي اختفى أثرها من ذاكرة الأحفاد ذوي التفكير المواكب للعصر الذين ترعرعوا في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كان أولئك اليهود قصابين وسائقي عربات «الدروشكي» وخياطات وبائعات هوى وعتالين حملوا بضائع المدينة على ظهورهم. لقد كانوا أناساً أشداء متواضعي التعليم وغالباً—برجالهم ونسائهم—عنيفون يجالسون رجال العصابات ويحلون خلافاتهم بالسكاكين ويطلقون على أنفسهم ألقاباً مثل «يانكل الندبة» و «شلوييم العظم». نظم جولدستاين ورفاقه هؤلاء الكادحين الأشداء في نقابات بوندية وصل تمثيلها عام 1939 إلى مئة ألف يهودي. لم يكتف البونديون حينها بموضوع العدالة الاقتصادية وحدها بل سعوا لخلق ثقافة موازية بإصدار صحف تقدمية وافتتاح مسارح ومكتبات ومدارس علمانية تعلم باليديشية. فقد أصبح بإمكان البوندي إرسال طفله إلى طلائع الكشافة الاشتراكية التي عرفت بالـ «سكيف» ثم إلى الرابطة الشبابية البوندية الـ «جوكونفت». كما وتمرن الشبان بنوادي الرياضة البوندية «مورخينشتيرن» بينما أرسل أطفال الأحياء الفقيرة المصابون بمرض السل إلى ريف مصحة ميديم الجميل للعلاج.
كتب جولدستاين: «لقد كنا دولة داخل دولة، دولة شُكلت واختبرت صراع آلاف السنين، حاملين تراثنا وحقوقنا التي أخذناها بالقوة من مستضيفينا غير المرحبين بنا.» تشهد الصور الأرشيفية على غنى تلك الحقبة: تلقي «بيلا شابيرو» (إحدى قائدات البوند العديدات) خطاباً أمام مظاهرة عيد العمال في مدينة «لبلن» عام 1936 حيث ترفرف الأعلام الحمراء ذات الزركشة الذهبية والأحرف اليديشية المرسومة بشكل أنيق، بينما يرفع عمال النقابات قبضاتهم للأعلى وتظهر متمرنات الجمباز بحيويتهن وملابسهن القصيرة، بقلوب ملصقة على أرديتهن الفضفاضة؛ وكما يظهر شبان يتلاكمون على الشاطئ مبتسمين تحت حرقة الشمس. تستدعي تلك الصور من الحياة الريفية الصحية كل الأسى عندما نتذكر كيف انتهى الحال بمعظمهم.
كان أعداء البوند كثر. بدءاً من عصابات الجريمة المنظمة، ومروراً باليهود الحاسيديم الغاضبين من تصرفات البوند المتصادمة مع الدين. وكذلك أصحاب المصانع وانتهاء بمعادي السامية من الغلاة. فلم يقتصر أعداء البوند على اليمين، بل استهدف الشيوعيون المدعومون من السوفييت البوند عن طريق الاختراقات والتخريب والقتل. لكن بينما كان البونديون يواجهون الشيوعيين في الشوارع، بقي الصهاينة، الذين طالما اعتبروا أوروبا الشرقية أرض المنفى من الأرض الموعودة، أهم الخصوم فكرياً. لأنهم عرفوا أن تأسيس دولة جديدة لابد أن يمر عبر دماء الآخرين، تنبأ البونديون بالصراع المرير الذي رافق إقامة دولة إسرائيل حيث قاد الأمر إلى حرب دائمة بينها وبين جيرانها وأصحاب الحقوق المغتصبة (من الفلسطينيين). كتب قائد البوند «هينريك إرليتش» في عام 1938: «إن قامت دولة يهودية في فلسطين فسيكون مناخها الروحي هو الخوف من العدو الخارجي (العرب)؛ الصراع الأزلي على كل قطعة من الأرض مع العدو الداخلي (العرب)؛ كذلك الصراع المستدام لإبادة اللغة والثقافة اللاعبريتين ليهود فلسطين. أهذا مناخ يمهد للحرية وللديمقراطية وللتطور؟ أوليس هذا هو المناخ الذي تزدهر فيه الرجعية والشوفينية؟»
كما وقد أدرك البونديون أن الصهيونية ستشجع العنصريين البولنديين. ففي عام 1937 دعا حزب «معسكر الوحدة الوطنية» (Oboz Zjednoczenia Narodowego) إلى طرد 90 بالمئة من يهود بولندا مطلقاً عليهم وصف «الدخلاء». لذلك عندما زار مؤسس الصهيونية التصحيحية «زئيف جابوتينسكي» فيلنا في ذلك العام، قام البونديون بتنظيم مظاهرات مناهضة له واصفين إياه بـ«الأب الروحي للفاشية اليهودية». فبينما كان معسكر الوحدة الوطنية يريد ترحيل الملايين من اليهود البولنديين، دعا جابوتينسكي لـ«إخلائهم» —فارق بسيط لم يتوقف عنده البونديون. «نحن مواطنو هذا البلد ولنا نفس الحقوق!» كتب في إحدى القصاصات، «يجب أن نكافح لأجل فرصة العمل. لأجل لقمة الخبز. لأجل الحياة ولأجل حقوقنا هنا في بولندا! لن نسمح للمدّعين بالتحدّث باسمنا!»
مثلت قوانين التمييز العنصري التي وضعها هتلر واضطهاد اليهود المتنامي في الجارة ألمانيا مصدر إلهام للحكومة البولندية للانجراف نحو معاداة السامية. كما وقد ساعد نشوء نسخ محلية من ميليشيات «القمصان البنية» النازية في تعزيز تلك النزعة. حارب البونديون حالات الضرب في العلن ومجازر البوغرومز إضافة لسياسة عزل مقاعد الطلاب في الجامعات والتي عرفت بـ «غيتو المقاعد» متحالفين أحياناً مع الحزب البولندي الاشتراكي. ونتيجة لكل ذلك تعرضت مقرات البوند للهجوم من قبل فاشيي بولندا. كما وتحولت مسيرات عيد العمال إلى حرب شوارع. كتب جولدستاين: «ناهضنا معادي السامية البولنديين معتقدين أنه لم يمكن لليهود أن يتمتعوا بحقوقهم بدون إظهار قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم.» في نفس الوقت كانوا يطالبون بتدخل دولي ضد الفاشية. يتابع جولدستاين، «لكن تأثير جهودنا كان متواضعاً في وجه القوى ذات التأثير الأكبر التي كانت تدفع العالم المتردد وغير القادر على المقاومة نحو حافة الهاوية.» رغم أن مناشدات البوند في الخارج ذهبت أدراج الرياح، إلا أن المقاومة أكسبته محبة وولاء بين صفوف المجتمع اليهودي في الداخل. فبحلول عام 1938 أصبح البوند الحزب اليهودي الأكثر شعبية في بولندا.
نشر جولدستاين تقريراً في مذكراته الشخصية حول نجاحه بالتسلل لداخل مدينة «بريتز» سنة 1939 بعيد ارتكاب الشرطة مذبحة بحق اليهود. كيف وجد أن الحياة في المجتمع اليهودي توقفت لتحسبهم إمكانية حدوث هجوم آخر بأي لحظة. يلتقي جولدستاين رفيقاً بولندياً في الحي اليهودي المهجور حيث يعملا معاً على وضع خطة للمعركة بينما يلحظا ضياء شموع السبت من إحدى النوافذ.
«كنت أشرح لـ ’دابروفسكي‘ معنى شموع السبت ... فيما كنا نتجول في الشوارع الخالية بسبب المذابح غارقين فالتفكير ... يهودي وبولندي اشتراكي. ظننت أن الأمل ربما يكمن في ذلك. نحن الاثنان، دابروفسكي وأنا، نمشي هنا معاً لأجل هدف واحد.»
أتفق مع الرفيق برنارد رغم كل ما حدث لاحقاً.
***
هناك مفهوم خاطئ مفاده أن اليهود، قبل إسرائيل، لم يقاتلوا (للدفاع عن أنفسهم). ذلك يشمل حتى ادعاء «حنة آريندت» المثير للجدل بأن القيادة اليهودية تواطأت مع النازية. فقد قاتل قادة البوند المنتخبون من قبل أكبر المجتمعات اليهودية في أوروبا من اليوم الأول للاحتلال وحتى آخر يوم.
خلال دفاع اللحظة الأخيرة عن مدينة وارسو في أيلول من عالم 1939، كانت نصف الكتائب اليهودية المدافعة من تنظيم البوند. فقد بقي قادة البوند «فيكتور ألتور» و «هينريك إرليتش» في المدينة حتى لحظة سقوطها قبل أن يفرّا شرقاً بحثآً عن ملجأ خلف خطوط المواجهة السوفييتية؛ قبل أن يتم قتلهم بعيد ذلك من قبل اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية السوفييتية (NKVD).
أما جولدستاين فقد دخل مرة أخرى لوارسو سراً لتنظيم أصدقائه القدامى في النقابة في تشكيل سري. فقد شكل البونديون مجموعات شبابية وصحف ومدارس غير قانونية ونظام تراسل عمل على نقل الأخبار على امتداد مناطق بولندا المحتلة؛ حيث تبادل أعضاؤها المعلومات في مطابخ أعدها البونديون كغطاء لعملهم السري. كان التمويل يأتي من منظمات مقيمة في نيويورك مثل هيئة العمل اليهودية (التي شكلت في فلاديك)، وكانت تهرب الأموال بواسطة فتيات ذوات بشرة باهتة اللون. بدين كمواطنات بولنديات غير يهوديات. كانت الأموال تصرف على المخابئ والأسلحة. وعندما اقتاد النازيون يهود وارسو إلى الغيتو في تشرين الأول من عام 1940، نظم البونديون التجمعات السكانية المكتظة في هيئات سعت للحفاظ على صحة الأفراد وثقافتهم.
بأخذ الحرمان والاستبداد بعين الاعتبار، فإنه لم يكن مفاجئاً قلة عدد من حملوا السلاح من سكان الغيتو المثقلين بالصدمات النفسية. لكن اللافت هو الأثر الباقي للانقسامات السياسية الطائفية وصعوبة تجاوزه المتمثل بعدم قدرة المئات القليلة ممن قرروا القتال على التوحد في وجه تصفيتهم المحتومة. أخيراً، في 23 تموز من عام 1942، بعد البدء بنقل جموع اليهود (إلى معسكرات التجميع)، توحد البونديون مع الشيوعيون والصهاينة اليساريين تحت إطار «منظمة التصدي اليهودية» (ZOB). ومع ذلك يتهكم الناجون من أعضاء البوند في مذكراتهم على المجموعة المسلحة الأخرى في الغيتو المسماة «اتحاد اليمين العسكري اليهودي» (ZZW) لكونها كانت تحت قيادة صهيوني تصحيحي. بعض الضغائن لا تضمر.
سمحت علاقة البوند الطويلة بالاشتراكيين في بولندا بخرق الجدران المحيطة بالغيتو وإدخال بعض مقاتلي المقاومة في بولندا مما مكن من نشر عدد من المشاهدات الأولى حول جرائم الإبادة العرقية التي كان يقوم بها النازيون، من خلال شهادات كل من «زالمان فريدريش» و «يان كارسكي». فمن خلال تلك الشبكات كانت الأخبار تتسرب للخارج، وكانت الأسلحة تهرب للداخل. ففي شهر نيسان من عام 1943، أي بعد ثلاثة أشهر بمن المعركة الأولى في انتفاضة غيتو وارشو، وصلت آخر دفعة من الأسلحة المهربة بواسطة البونديين عبر جدران الغيتو.
إلى الآن لايزال عدد الجنود النازيين الذين سقطوا في تلك الانتفاضة الفاشلة موضع نقاش. وفقاً لعضو البوند «ماريك أديلمان»، الذي أصبح قائداً لمنظمة التصدي اليهودية بعد انتحار أول قائد لها خوفاً من الاعتقال، كان عددهم ثلاثمئة. أما بالنسبة للقيادي في منظمة الـ «شوتسشتافل» النازية ذات السمعة السيئة «يورغن شتروب»، والذي يرغب، بالطبع، بتقليل الرقم الحقيقي، فقد كانوا ستة عشر فقط. ما هو معروف أن تلك الانتفاضة استمرت ثلاثة أسابيع حتى تمكنت الشوتسشتافل (المنظمة العسكرية الموازية للنازيين، والتي كانت مصدر الرعب الأول لدى الأوروبيين) من إخضاع 750 معتقلاً جائعاً وضعيف التسليح.
ومع ذلك، فلم يسقط الغيتو بسبب القتال ولكن بسبب النيران التي أشعلها قاذفو اللهب الألمان وبسبب القنابل الحارقة. قتل ما يقارب الـ 13,000 يهودي خلال الثورة. وفي لندن قام ممثل البوند في البرلمان البولندي في المنفى المدعو «أرتور تسيجلبوم» بتسميم نفسه في محاولة للفت أنظار العالم المتردد. كان مضمون رسالة انتحاره: «أحبكم جميعاً. يحيا البوند.»
بحلول العاشر من أيار كان الغيتو قد حُوّل إلى كومة من الرماد؛ نجت مجموعة من المقاتلين بقيادة أديلمان و «أبراشا بلم» (المرأة الوحيدة التي قادت منظمة التصدي اليهودية) بالإضافة للناشطة العمالية والصهيونية «زيفيا لوبيتكين» بالفرار عبر أنفاق المجاري. في الطرف «الآري» من الجدار، يذكر جولدستاين: «وقف حشد كبير من الناس غير مصدقين أعينهم عندما خرجت هياكل بشر برشاشات آلية ملتفة حول أعناقهم يزحفون للخارج واحداً تلو الآخر ... أكدت النظرات في عيونهم الرصاصية للحشد أنهم لن يترددوا بإطلاق النار.»
قتلت شرطة «الغستابو» السرية النازية بلم. بينما قاتلت لوبيتكين وأديلمان في صفوف محاربي «البارتيزان» حتى تحرير بولندا. انتقلت بعدها لوبيتكين لإسرائيل عام 1946 حيث أمضت بقية حياتها في كيبوتز للبارتيزان، بني على أنقاض قرية عربية هُجّر أهلها من قبل ميليشيا الهاغانا التي أصبحت جزءاً أساسياً من جيش الدفاع الإسرائيلي عشية اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948. أما بالنسبة لأديلمان فقد بقي في بولندا. وبرغم كونه طاعناً فالسن فقد شارك في حركة التضامن التي أدت لإسقاط الديكتاتورية الشيوعية في بولندا بشكل سلمي عام 1989. وعندما وافته المنية سنة 2009، قام المشيعون في جنازته بتلاوة نشيد البوند على تابوته؛ لكنه لم يتلق أي تقدير من الدولة اليهودية.
**
لقد كانت المجتمعات اليهودية منتشرة على امتداد أوروبا الشرقية: شكلوا حينها «الهنا» في مصطلح «الهنائية» لدى البوند. لكن بحلول عام 1945، اختفى ذلك العالم وسكانه من الوجود. اختفت وارسو جولدستاين كما اختفت فولكافيسك سام.
في السادس عشر من يناير عام 1945 غادر جولدستاين مخبأه الذي قضى فيه سنتين كأنه دفين ليجد مدينته قد تحولت لركام. فقد قتل تسعون بالمئة من يهود بولندا وعومل الناجون بعنصرية من قبل البولنديين. في الوقت ذاته، كرس السوفييت المحتلون وقتهم لملاحقة أي شخص ذا صلة بالمقاومة البولندية. «لم يكن هذا أبداً التحرير الذي انتظرته بألم ومعاناة طوال خمس سنين.» كتب جولدستاين، «فقدنا ملايين وملايين من الرجال والنساء والأطفال تحت وطأة حكم النازيين ... لكن الآن فقدنا الأمل بأنه ... بعد كابوس من قلة الحيلة تحت رحمة القتلة سيأتي يوم نرى فيه عدالة وأخوة وكياسة لدى البشر.» غادر جولدستاين، مستخدماً أوراقاً مزورة، إلى مخيم للمشردين في تشيكوسلوفاكيا ثم شق طريقه للولايات المتحدة. حيث كرس بقية عمره لتدوين مجلدين من مذكراته الشخصية تكريماً لرفاقه الذين فقدهم. توفي سنة 1959 ودفن في نيويورك. حاول أعضاء بوند آخرون إحياء المنظمة من جديد حتى صيف العام التالي عندما قام بولنديون بذبح 42 يهودياً في مدينة «كييلتسا» في جنوب بولندا منجرين وراء كذبة «طقوس الدم اليهودية» المزعومة. خلال ثلاثة شهور من تلك الواقعة، تمكن الـ 95 ألف يهودي وبواسطة شبكة سرية صهيونية من الفرار إلى مخيمات نازحين في الجزء الأوروبي الواقع تحت سيطرة أمريكا.
ما لم تحققه مذابح البوغرومز تكفلت به الستالينية. كتب جولدستاين: «شعر الكثير من اليهود الذين أصروا على التمسك ببيوتهم رغم حالات معاداة السامية بأن عليهم الفرار من الشيوعية.» فقد شنت حكومة بولندا المدعومة من السوفييت حملات اعتقال جماعية ومراقبة واعدامات ضد كل من كان يمثل بديلاً ذا مصداقية لحكمها. فخلال ثلاث سنين بعد التحرير تمت تصفية منظمة البوند.
كما حدث لجولدستاين، تشتت البونديون. قليل الحظ منهم انتهى المطاف به في مخيمات نزوح أشرف عليها الصهاينة في الغالب تعرض فيها للتبريح والحرمان من بطاقات المعونة –كما زعم—كل من قاوم التجنيد الاجباري الذي فرضته الهاغانا. بعضهم تخلى عن الصراع مع الصهيونية وركب قوارب التهريب نحو فلسطين التي أعدتها الهاغانا. المحظوظون منهم حصلوا على تأشيرات دخول مكنتهم من الانضمام لتجمعات اللاجئين في شانغهاي وجوهانسبرج وباريس ومونتفيديو. أعيد تشكيل البوند كمنظمة عالمية في عام 1947 حيث اتخذت من نيويورك قاعدة لها. في السنة نفسها طالبت المنظمة بفلسطين مستقلة تضمن العدالة والحكم الذاتي لكل من اليهود والعرب، وبإعادة توطين اللاجئين اليهود في جميع الدول الحرة، كما ودعت الصهاينة لـ «التخلي عن هدفهم بإقامة دولة يهودية مستقلة.» ومباشرة بعد الحرب الإسرائيلية العربية عام 1948 طالبت البوند بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين أخرجوا من أرضهم بواسطة جيش الدفاع الإسرائيلي.
لم تتلق تلك الإنسانوية العالمية والمتجاوزة للاعتبارات الدينية أو العرقية تجاوباً كبيراً بعد المحرقة النازية. كتبت الهيئة التنسيقية للبوند سنة 1948: «في جو من الحزن العميق والصدمة لما حدث من قتل ستة ملايين من إخوتهم، انتابت جموع الشعب اليهودي نزعات قومية قوية ... معززة بدعاية صهيونية متقنة، جذبت اليهود نحو التعلق بأوهام الخلاص والصهيونية.» آخذين ذلك بعين الاعتبار، ألم يوصد الغرب المتحضر أبوابه أمام اللاجئين اليهود لمدة خمس عشرة سنة بحجة أنهم لم يكونوا أوروبيين حقيقيين؟ أكان العراق، بعد بضع سنوات، سيمتنع عن ترحيل أكثر من مئة ألف مواطن يهودي بحجة أنهم كانوا صهاينة؟
ربما لم يكن ممكناً لمنظمة ذات خصائص أوروبية شرقية—كما كانت البوند—أن تنجح في أرض غريبة. بالنظر للأمر، فلم يكن لدى البوند ما يقدمونه لليهود الشرقيين (المزراحيين) أو السفارديين. فلم تتمكن كحزب صغير من تالحصول على تمويل كاف في تل أبيب لتقدم طلب الترشح في الانتخابات. وفي دولة ديموقراطية رأسمالية كأمريكا بدت المنظمة كأثر قديم حتى بين أوساط المنظمات الأمريكية التي أسسها جيل سابق من البونديين أنفسهم؛ حيث زاد التباعد حدة في مجتمع المهاجرين البونديين عندما تم الإصرار على اليديشية كمحدد للهوية اليهودية في وقت كان أبناؤهم قد هجروا تلك اللغة. رغم استمرارهم بالبروز في فترات تاريخية معينة—كمسيرات داعمة للحقوق المدنية في الخمسينيات، وتنظيم ندوة للأكاديمي الفلسطيني الأمريكي إدوار سعيد في السبعينيات—إلا أن مجموع تطورات فترة ما بعد الحرب، كمعسكرات الأعمال الشاقة السوفييتية والاندماج في المجتمعات الغربية إضافة لطغيان النفوذ الإسرائيلي، كانت كلها عوامل أبعدت البوند عن دائرة الاهتمام، وصولا للثمانينيات حين اقتصر وجودهم على مجموعة صغيرة من المسننين المحاطين برايات حمراء متآكلة ولغة ميتة وأشباح في قاعة رابطة المقاتلين القدامى من أجل قضايا خاسرة.
تم حل الهيئة التنظيمية العالمية للبوند سنة 2003، رغم بقاء عدة مجموعات موالية. وفي عالم 2018، عندما قام أحد الأشخاص بلصق شعار الصليب المعقوف على إحدى لوحات الإعلان في مدينة ملبورن الأسترالية، تم تغطيتها مباشرة بملصق يحمل شعار المنظمة التي انضم اليها جدي عام 1898.
**
برغم أنه توفي قبل أن أولد، فقد نشأت محاطة بما يذكر بجدي. لم تتمثل تلك الذاكرة بآلاف الرسومات والمنحوتات واللوحات المائية واللوحات الفسيفسائية التي ملأت بيت جدتي في حارة «شيبسهد باي» فحسب، بل بحضور الجد سام نفسه وقد دفعت شخصيته الحية بطيفه لأن يخيم على المكان. تعرفت على قصته عن طريق أمي وعمتها.
عمل سام في بروكلين كمزخرف وحارس لبيوت العائلات الغنية. كان يمضي وقته خلال الليالي الطويلة بنحت هياكل خشبية صغيرة. وبتشجيع من رب عمله ترك شغله وكرس وقته للفن. فقد علم نفسه الرسم بنهم وأنانية، وتمكن من عرض لوحاته طوال عشرينيات القرن الماضي. ثم انتقل في ذروة فترة الكساد الكبير إلى منطقة ريفية في «لونغ آيلاند» لينشئ مزرعة دواجن امتنع فيها عن ذبح الديكة (حيث كان نباتياً من باب أخلاقي وسابقاُ لعصره). لكن المزرعة أفلست، كما كان متوقعاً.
عاد بعدها لشيبسهد باي مع زوجته روزي (التي أشبهها في بعض ملامح وجهي) التي كانت تنحدر من قرية تدعي «لونا فودا» قرب مدينة «بياليستوك» البولندية. لكن لعجزه عن الاستمرار في تحمل نفقات الرسم في بروكلين قام بتعلم النحت على الأبواب القديمة وأعمدة الأسوار. «بدون فن، أنت ميت!» قال ذات مرة. وبالرغم من وجود أماكن عرض للوحاته، لكنه طوال عقود فضل عرضها في واجهة بيته كل صباح تحت مسمى «متحف روثبورت المنزلي للفن المباشر». كما نشر، علي نفقته، كتاباً عن منحوتاته بعنوان «من الخشب والحجر» يستحضر فيه فولكافيسك مؤمثلة. ترتسم القرية اليهودية في ذاكرة سام وكأنها لوحة من عمل الفنان الفرنسي «مارك شاغال»: أرض عجائب تحوي كبار الماعز والانبياء وتقلبات الحب السماوي مصورة جميعها بأسلوب عالمي لا قبلي. ومثل رامبراندت، فقد صور سام نفسه بأشكال مختلفة. ربما كانت تلك الرسومات الزيتية ورذاذها الذي لطخ وجهه سبب سرطان الجلد الذي أنهى حياته سنة 1971. روحه المرحة أضحكت ممرضاته وهو يحتضر.
بجانبه تعلمتْ أمي الرسم، وعرفت أمثاله ومبادئه. بالنسبة لها كان دائما الجد سام، الفنان الذي علم نفسه بنفسه، الماهر الذي كان ينفخ النار من فمه ويعلق جسده مقلوباً على القضيب المعدني حتى وهو في الثمانين. الإنسان الذي آمن أن كل البشر إخوة—مع أفضلية الفنانين. المثقف الذي قرأ أعمال شكسبير باليديشية والرجل الذي لم تره يوماً يذهب للتعبد في كنيس رغم أن والده درس التلمود.
كنت أعرف أن سام روثبورت كان ثائراً ، لكنني لم أكن أعلم بوضوح ما معن» ذلك. ربما كان يعتبر نفسه أحد «ثوريي» القرن الماضي، لكن ادراكي لمضامين تلك الكلمة لم يكن شيئاً مقارنة بكل ما عرفته عن جد أمي الحبيب. يظهر في الصور كعجوز ممازح لطيف وهالة من الشعر الأبيض حول رأسه، وأنف كالفأس وابتسامة تملؤها الإنسانية. في أمريكا لم يمل لحزب، لا ديموقراطي ولا شيوعي. كانت كل نشاطاته السياسية عبارة عن كتابة رسائل للرئيس آيزنهاور، وظلمقتنعاً بأنها عجّلت بإنهاء الحرب الكورية.
عندما قرأت كلمة «بوندي» لأول مرة في عناوين لوحاته، قمت بالبحث عن معناها في موقع غوغل بدون اكتراث. لكن عندما قمت بإعداد التقارير الإخبارية كصحفية من غزة وأماكن أخرى، وقتها تحول الأمر لدي إلى هوس. أردت أن أستقصي عن البوند. لا لأنهم كانوا رفقاء جدي فحسب، بل لأنني أردت إبراز مجموعة كانت في طور الاختفاء رغم صحة وعدالة نهجها. حصلت على بعض الكتب التي مازالت متوفرة عن البوند. حيث قضيت أياما في مكتبة نيويورك العامة أتفحص كراسات مغبرة وصوراً زودني بها معهد البحث اليهودي (YIVO) بالإضافة لأرشيفات نشرات بوندية على شبكة الانترنت.
بالنهاية، وجدت من يترجم لي اليديشية جزءاً عن البوند في «كتاب اليزكور» الخاص بمدينة فولكافيسك (كتب يزكور هي عبارة عن سجلات لقصص منقولة شفهياً تم تدوينها بعد الحرب العالمية الثانية لتوثّق حياة أعداد كبيرة من سكان قرى الشتيتل في أوروبا الشرقية الذين قتلوا في المجازر). عندما تفحصت الصفحات المترجمة وجدت اسم سام كأحد الناقلين لذلك التاريخ مباشرة فوق صورة لمجموعة من الفتيات إحداهن «إتكا» الشهيرة بقصة شعرها الأنيقة وغير المألوفة. كان هذا دليل: لقد شارك سام حقاً في المقاومة المسلحة، وهي شيء لم أكن أتصور أنه كان قادراً على فعله. ما الذي غيّره وكيف تطور تفكيره من حامل للسلاح إلي رافض للعنف لدرجة رفض قتل دجاجة، شيء يعصب فهمه.
لقد حمل الأثر البوندي بداخله بشكل كان يمكنني تتبعه أيمنا حل. فوضاه غير المؤذية. كرهه للمال. ترحيبه بأبي البورتوريكي وعمتي الكورية. غياب صِلاته بإسرائيل. تمثال قبضة العامل المطبقة على الطريقة الشيوعية الذي صنعه—رغم سخريته الحذقة من الشيوعية في توصيف العمل. إنسانيته البوهيمية التي تتسع لكل العالم.
**
يقلل من شأن البوندين أو يتم ُتجاهلهم في إسرائيل. تخبرني «إليزابيث جوركوف» الناشطة الإسرائيلية في مجال حقوق الانسان: «يُنظر إليهم كأفراد أصروا على التمسك بحل غير واقعي لاضطهاد اليهود في أوروبا، مقابل الحل ’الصحيح‘ الذي قدمه الصهاينة—أي الهجرة لإسرائيل.» فمن مصلحة منظري الصهاينة تأطير القضية بهذا الشكل: لدى اليهود خياران لا ثالث لهما: إما الانقياد كالنعاج للموت الجماعي في غرف الغاز، أو أن يصبحوا إسرائيليين شجعان، شجعان في قمع العرب. ضعف يهودي الشتات هو نكسة ضرورية لقوة الذين يولدون في الأرض المقدسة.
قمت مرة بزيارة إسرائيل والأراضي المحتلة كمراسلة. سحرني جمال القدس وشاهدت المستوطنين يرمون الحجارة في الخليل؛ وفي غزة سمعت أصوات القذائف وهي تتساقط حولنا. رغم إنجازات إسرائيل لكن سم القومية العرقية اليهودية بادٍ فيها كما في الدول القائمة على القومية العرقية وكما هي الحال في تلك الدول. ماتزال إسرائيل تحصد ثمار سياسة الاستبداد والموت. فالمخرج الوحيد من تلك الحالة هو التضامن العابر للدين والعرق. التضامن الذي عاشه كل من دابروفسكي وجولدستاين وهم يتجولون ليلة ذلك السبت في شوارع مدينة بريتز الخالية ما بعد المذبحة.
بالعودة للـ «دو إكايت» أو الهنائية، تلك العقيدة التي أوجدها يهود غير متدينين في مجتمعات الشتات وكتبت بكلمات خليطة بالأحرف العبرية وحملها عابرون مثيرو المشاكل وحاملو جوازات سفر مزورة، الذين كان جل مطلبهم هو حق البقاء (حيثما أرادوا). ما الذي تعنيه الهنائية في عصر الهجرات الجماعية؟ إنها، برأيي، محاولة للعثور علي الذات في بلاد المنفى، للتوفيق بين الموطن وحرية مغادرته.
عنون سام إحدى رسوماته «بلا جواز سفر». تظهر رجلين وامرأة تقتادهم شرطة القيصر الروسي في غابة تحت ضوء القمر. على الأرجح كانت تصور يهوداً لم يكن لديهم جواز سفر داخلي يمكنهم من مغادرة «حجر المستوطنات». لكنهم حاولوا رغم ذلك. هل كان ذلك خيانة للهنائية؟ أم مازالت «الهنا» داخلهم وهم يحاولون التنقل بشكل غير شرعي؟ هل أشعرهم التحدي ذاته بطعم الموطن؟
أود أن أتخيل بأن سام ورفاقه قاموا بنشر قضبان نافذة أولئك السجناء لاحقاً تلك الليلة. كان عليهم أن يتسلقوا مستخدمين قطعة قماش (ربطوها بالنافذة)، ربما يتوقف الزوجان ليقبلا بعضهما البعض في جو من البرد وسكون الغابة، ثم يستمر الثلاثة عابرين الحدود، التي محاها الثلج المتساقط، نحو وجهتم التي اختاروها.
[ترجمة: مروان هشام. نشر المقال في «نيويورك ريڤيو أوف بوكس» في السادس من تشرين الأول من عام 2018.]
***