طُوّب "الكليشيه" في فرنسا. إنّها أمة الثقافة، "الوعي" علامتها المسجّلة. يترعرع أهلها على حبّ الشعر، يعيشونه، يتنفّسونه، يلمسونه في زهور نوافذهم وأوشحتهم، أحذيتهم الزاهية، تلاعبهم المستمرّ بالألفاظ. لكن تبقى التجربة هي المدرسة المفتوحة للحياة، وقد يتساءل المبتدئون على مقاعدها: ما هي "القبلة الفرنسية" بالضبط؟ هل هي تدوير كل عاشق لسانه في فم العاشق الآخر؟ وإذا سُمِعت، لأيّ سبب كان، هذه الصيحةُ أو الذريعة: "هذه هي الحياة!" فهل سترنّ في المخيّلة أصداء غامضة لمغامرات جنسية؟
تأوي باريس سوق الشعر، بكبار شعرائها وصغارهم. مطلع كل صيف، تنصب لحفلات توقيع دواوينهم وأمسياتهم خياماً بيضاء في ساحة سان سولبيس. لا تفوّت "عاصمة الألم" سانحة لتطلق احتفالاً أو مهرجاناً فأسعفت الشعرَ بعيدٍ يحمل اسمه مطلع كل ربيع، يوم النوروز وعيد الأمّ. يسقط الشعراء النيازك كل يوم في سماء الشعر الواسعة، الضنينة بالشموس كسماء باريس، فيما النجوم اللوامع رواسخ مخلّدون في كوكبة لابلياد ومجرات أخرى.
إن أمّة القرّاء المثقّفين هي أيضاً أمة البيروقراطية والتسلسل الهرمي وأوراق المعاملات التي لا تنتهي. كان الرئيس "المثقف الكبير" فرانسوا ميتران المغرَم بالأهرامات يزور مصر ليتأمّل الخلودَ في رمال الصحراء، مقتدياً بأبو الهول. بضعة مائة متر تفصل نوافير السفينكس في ساحة الشاتليه عن الأهرامات الزجاجية في باحة اللوفر. على مبعدة بضعة مائة متر أخرى، على الضفة اليسرى للسين، وراء جسر العشّاق الذي أزيلت عنه أقفالهم، يشمخ معقل لغة الأرستقراطية الأوروبية، الأكاديمية الفرنسية، ذات القبة الرمادية كبيضة الرخّ، مفخرة الأمة وتاج مجدها الإمبراطوري وجمالها المبين. يقول الذين سئموا الترويج الثقافي للفرانكوفونية إن الأدب الفرنسي الحقيقي ليس في الكتب، بل في موسيقا اللغة الفرنسية وعذوبة رنينها حتى في الحناجر المبحوحة لمذيعات مونتيكارلو، "الخارجات للتوّ من الحمّام أو غرف النوم" كما قال الشاعر. فليفتح القارئ أي صفحة من معجم الأكاديمية الفرنسية، لينعم بالشعر الحقّ ويتذوّق الكلمات ككريستال تبلّله عاشقة بشفتيها تحت شجرة لوز مزهرة مقابل كاتدرائية نوتردام، قبل أن يباغتها جرذٌ بالقفز بين ساقيها. اللغة الفرنسية رقيقة رقّة جارحة، وإن مزّقها الغرباء بشفاههم التي لم ترقّقها للأسف لغاتهم الأمّ.
تنعقد الاجتماعات الدورية في الأكاديمية الفرنسية وتدور الأحاديث بين أعضائها الذين امتشقوا سيفها الشهير لدى انتسابهم إليها، هؤلاء الضليعين في تذوق النبيذ يناقشون أي ترشيح لدخول كلمة جديدة إلى المعجم. لا بد من سياق معرفي-تاريخي للكلمة المرشّحة. هنا تتجلّى الروح الفرنسية الهندسية، روح الدقّة والقانون التي تسنّ نواظم لكلّ شيء وتؤطره، منطلقة من اللغة أولاً لتتجلّى حتى في استقامة الشوارع وتنسيق الحدائق وزخارف الشبابيك. من جهة أخرى، روح الانشقاق والعصيان والعنف لم تغب عن فرنسا في جميع عصورها. لطالما احتجّ أدباء مارقون على الأنوف الشوامخ في الأكاديمية وسترات أعضائها السوداء المخملية المذهّبة الأكمام والياقات، المطرّزة بغصون زيتون ذهبية. وحين تتوطّد مكانة الهراطقة المنشقّين وتحلّ الشهرة تبدأ الأكاديمية الأمّ باحتضان المتمرّدين أو باستمالتهم، لتضيف إلى مثوى الخالدين نجوماً جُدداً سيعبر نورهم الزمنَ بعد الموت. لا بد من إنصاف روح التوازن. الأكاديمية تنوء بعبء الماضي وصرامة القواعد والقوانين، وهي بأمسّ الحاجة إلى الثوريين الذين يهاجمونها، وهذا ما لا يوفّره الفرنسيون عادة، بأمزجتهم العنيدة المتفجّرة الجانحة إلى المبالغات.
لأكاديمية تحرس المعجم وتحرص على توسعته، بأقصى ما يُستطاع من مواكبة العصر والوضوح. الفهم ثم الفهم ثم الفهم. الوضوح فضيلة والزخرفة ضرورة، وتبجيل الانضباط ينعكس حتى في طابور الصابرين المنتظرين الدخول إلى متحف. لكن ربما الغموض سمةٌ أخرى لبهوت الحياة الأدبية الفرنسية، بدور نشرها العملاقة وعراقة مواسمها الأدبية وغزارة مطبوعاتها، تطلق الكتّاب في السباق كما تنطلق الفقاعات وبالونات الاختبار والمناطيد التي يستثمرها تجّار السوق الغامضون. ومَن يضجره الأدب، أو الشعر على الأخصّ، يستطيع أن يرى كيف تحلّق المناطيد بالسيّاح والأطفال والعشّاق في السماء جنوب باريس، كل يوم بين التاسعة صباحاً والخامسة عصراً.
*
ألمح محمود درويش غير مرّة إلى تفشّي الاستسهال في الكتابة، وركاكة بعض الشعراء الجدد الذين لا يجيدون النحو والصرف. بالطبع، ما كان ليكرّر حكاية الشاعر الشابّ الذي احتار كيف سينسى ألف بيت من الشعر أوصاه أبو نوّاس بحفظها. لهذا السبب، سأعود إلى تقليد قديم لدى السلتيين الذين توزّعوا أراضي شاسعة في أوروبا من سواحل البحر الأسود إلى الجزر البريطانية. إنهم، كما نعلم، أسلاف قسمٍ من الفرنسيين المعاصرين، وتجمعهم أواصر دم مع الإيرلنديين والويلزيين.
لم تقضِ المسيحية على أوثان الإيرلنديين وأساطيرهم. الأخضر لون أرضهم، حيث المروج التي لا يتوقّف المطر عن الهطول فوقها. إنه أيضاً لون الجنّيات، المنمَّشات حمراوات الشعور، عازفات الناي الحسناوات المولعات بالغناء والموسيقى، اللواتي "حين يقضين وطرهنّ يقتلن عشّاقهن". التقى و.ب. ييتس في شبابه بفلاحين إيرلنديين نقل عنهم أساطير وحكايات. صارحته إحدى الفلاحات إنها لا تؤمن بوجود الجحيم ولا الأشباح، ولكن "هناك الجنيات وخيول الماء والملائكة الساقطون".
كان الدرويديون كهنة وأدباء أدهشوا يوليوس قيصر حين التقاهم في ويلز، وحسبهم مثل طائفة فيثاغورس يؤمنون بتناسخ الأرواح ويعتقدون بمقدرة السحر على مسخ البشر إلى حيوانات. كانوا منجّمين وقضاة ومعلّمين شفويين يعلّمون الفتيان ويطردون الأرواح ويشنون الحروب ويعقدون السلام. كان الدرويديون شعراء موزعين على ستّ طبقات، طبقتها العليا لفحول الشعراء. لقد أنهت المسيحية هذه التقسيمات ونفَتِ الشعراء إلى مراتب الكهنة والعرّافين والسحرة الصغار، وإن ظلّ لسخريتهم مفعول سحري فتحوّلتْ كلماتهم أحياناً إلى أورام في أنوف الذين طاولوهم بالهجاء. الخرافات حمت الشعر في إيرلندا وارتقت بشعراء القبيلة الكبار إلى مصافّ الزعماء. قام هؤلاء الشعراء بسنّ القوانين التي تنظّم دراسة الطامحين إلى لقب "شاعر". كانت المسيرة الأدبية تستوجب أكثر من اثني عشر عاماً من الدراسات الصارمة في حقول الأساطير والتاريخ والجغرافيا والقانون، وبالطبع النحو والقواعد وكل صنوف البيان والبلاغة. كان التعليم شفوياً، ويتعيّن على كلّ طالبِ شعر أن يحفظ غيباً الأدب القديم كلّه. كان الامتحان السنويّ يستغرق ساعات طويلة. كان على الطالب، المحبوس في زنزانة مظلمة لا يتناول إلا الخبز والماء، أن ينظم شعراً موضوعات أسطورية وقبائلية معينة وفق بحور معينة، ومن ثم حفظها كلّها. كانت الدرجة الدنيا في التقييم تُعطى لمن يكتب قصائد عن سبعة مواضيع، والدرجة الأعلى تُمنح لمن يكتب 355 قصيدة تعكس كلُّ قصيدة منها يوماً من أيام التقويم القمريّ. كانت القصائد تصنَّف وفق أغراضها: القلاع، سرقة الحيوانات، الحب، الحرب، رحلات البحر، الحملات، الخطف، الحرائق، الهجرة، الرؤى...إلخ. كان لكلّ فئة من هذه الفئات حبكات معينة وأوزان شعرية معينة ومفردات معيّنة لا يجوز للشاعر انتهاكها تحت طائلة العقوبة. بالنسبة لفحول الشعراء في الطبقة العليا، كان نظم الشعر أمراً في منتهى التعقيد، لأنهم كانوا يتجنّبون الإحالات المباشرة إلى الأشياء، ويميلون إلى استخدام نظام رمزيّ معقّد من المجازات والكنايات والاستعارات والقوافي، يستمدّونه من شعراء الماضي أو يخترعونه إن استطاعوا. كل الشعراء الذين يتخطّى تقييمهم الدرجة التاسعة في الامتحان قصائدهم غير مفهومة، لأنها تعجّ بالكلمات الميّتة والتعابير المقعّرة والانتحالات والصور بالغة التركيب. يُحكى عن ملك استبدّ به الغضب لأنه لم يفهم كلمة واحدة من مدائح شعرائه المثقّفين الذين اتُّهموا بأن غموضهم قد سرّع انحطاط الشعر وأقفل مدارس تعليمه، لأن ملوك إيرلندا الفقراء ما عادوا يطيقون العبء الثقيل للشعراء، إذ كان هؤلاء متطلّبين، طاقاتهم الخلّاقة تستلزم حياة الترف والمتعة التي لم تكن تتوفّر للملوك أنفسهم.
[استفدنا من محاضرات مختلفة لـِوليم بتلر ييتس وخورخي لويس بورخيس وجاك ديريدا لإعداد الفقرة الأخيرة المتعلقة بالأكاديمية السلتية.]