دفتر بغداد

شارع المتنبي، الصورة من المؤلف شارع المتنبي، الصورة من المؤلف

دفتر بغداد

By : Sinan Antoon سنان انطون

هناك طقوس تصبح ضرورية لكل من يعود في زيارة إلى بلاده بعد أن «تكدّست على صدرها الكوابيس» كما يقول سركون بولص، وعاث بها الجراد فساداً. وأهم هذه الطقوس هي أن يزرق نفسه بمصل ضد أعراض. . . الحنين. لكي لا يطيل الوقوف عند أطلال، مادية ومعنوية، وما أكثرها. وليمنع نفسه، أو يكبحها، عندما يبدأ لا شعورياً، بتقليب الصور والخرائط الذهنيّة القديمة، ويجد أنها لا تحاكي إلا نفسها. وأنها مرايا الغياب، ونوافذ إلى ما ليس هناك، وإلى ما لم يعد. ولا ينجح هذا المصل المجازي دائماً. فقد يخف مفعوله، ويختفي كلياً، في مواقف معيّنة. فالقلب بوصلة عنيدة تشير إلى ما تريده. هذا ما دار في ذهني وأنا أعود إلى بغداد في شباط الماضي. العودة الثالثة منذ خروجي الأول عام ١٩٩١. سألني أحد الأصدقاء: «هل ستذهب إلى بغداد للبحث عن شخصيّات جديدة لروايتك القادمة؟» فأجبته «أعرف شخصيّتيّ الرواية التي أكتبها الآن جيّداً. ومع أنهما عراقيان، فهما يعيشان في نيويورك منذ مدة طويلة.» لكنّني استدركت قائلاً:«بل سأبحث عن شخصيّات من رواياتي السابقة. فقال لي: «لكنّهم ليسوا أحياء. فأنت دائماً تقتلهم في النهاية.» أجبته: «بعضهم يعيش. ولست أنا الذي يقتلهم. أنا أسرد حياتهم.» وأردت أن أقول له، لست أنا الذي يقتلهم، لكنّني أضفت. . .  «وموتهم.» 

استعدتُ ذلك الحوار وأنا أدخل شارع المتنبّي. فروايتي الأخيرة، «فهرس»، تبدأ وتنتهي، فيه. حيث يلتقي عراقي عائد، مثلي، من الولايات المتحدة، بالصدفة، ببائع كتب يعمل ويعيش في شارع المتنبّي ويتورّط بحكايته ومخطوطته. بائع الكتب مهووس بفهرسة خسائر الحرب من بشر وحجر وشجر وبالإنصات إلى منطقها. في كتاب «ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء». 

كانت قد وصلتني عدة رسائل إلكترونية من العراق بعد نشر الرواية يسأل مرسلوها عن هذا الودود. هل هو شخص حقيقيّ أعرفه أو كنت قد قابلته، أم محض خيال؟ وكنت أتردد قليلاً في الإجابة، فأي إجابة ستفي السؤال حقه؟

قبل أمسيتي في معرض الكتاب، استوقفني رجل وسألني بعد السلام والترحاب: «كم سنة عملت في تغسيل الجثث؟» في إشارة إلى جواد في «وحدها شجرة الرمّان» وتفاصيل طقوس غسل الموتى. فضحكت وأجبته أنني لم أعمل في تغسيل الجثث أبداً.

طويلة هي الحدود بين تخوم الحقيقة، وبين تخوم الخيال. طويلة ومتعرّجة. يحرسها بعض البشر بمعتقداتهم وخرائطهم ومنطقهم. ويحرص البعض على تعزيزها فيخطّطون ويفكّرون ببناء جدران هائلة تحافظ على الاختلاف والمسافة الضرورية. لكن هناك دائماً مناطق، تسمح طوبوغرافيتها بمراوغة المنطق والعقل، وبالتسلل عبرها لتهريب البشر، والسماح لهم بلذة التجوّل بحريّة هنا وهناك. ويعرف الفنانون هذه الثغرات جيّداً أكثر من غيرهم. ويعيشون عليها ومن أجلها. هم الذين يصطحبون الآخرين إلى حيث يمتزج العالمان. لا حرس حدود، ولا جدران، أو أجهزة مراقبة. ما دام الكتاب مفتوحاً.

الكتاب الذي قال عنه بورخس إنّه «أعجب أدوات الإنسان. فالأدوات الأخرى امتدادات لجسده. المجهر والمنظار، امتداد لبصره. الهاتف امتداد لصوته. لكن الكتاب شيء آخر كلياً. فالكتاب امتداد للذاكرة والخيال.»

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • استقالة نعمت شفيق: الجامعات الأمريكية والاستثمار في الإبادة

      استقالة نعمت شفيق: الجامعات الأمريكية والاستثمار في الإبادة

      ترى هل تعد حرب الإبادة الشاملة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة، من بين أكثر مشاكل العالم تعقيداً بنظر من يحتلّون مناصبهم في مجالس أمناء الجامعات المرموقة، والرؤساء الذين واللواتي يقع اختيارهم عليهم، وعليهن؟ وما الدور الذي لعبته جامعة كولومبيا ورئيستها في التعامل مع مشكلة بالغة التعقيد كهذه؟

    • نتنياهو والتصفيق للبربرية

      نتنياهو والتصفيق للبربرية

      حَفِل الخطاب، كما هي عادة نتنياهو، بالأكاذيب الغوبلزيّة (نسبة إلى جوزف غوبلز، وزير دعاية هتلر)، والسُعار وتأجيج العصبيات العنصريّة.

    • إنكار العنف السياسي في أمريكا

      إنكار العنف السياسي في أمريكا

      «لا مكان للعنف السياسي في بلادنا» هذه هي الجملة التي ردّدها، أو ردّد تنويعات عليها، عشرات السياسيين والمعلّقين الأمريكيين في الساعات والأيام التي أعقبت قيام شاب أمريكي بمحاولة فاشلة لاغتيال الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.

كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة


"ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة. وفاجأته: "أنظر يا حبيبي، وجدت كرة أرضية خرافية! تلعب بها بالقلم الإلكتروني، فيقول لك القلم اسم البلد وعاصمته، ويقول لك "مرحباً" بلغة البلاد. سيحييك بـ "بونجور" في فرنسا، و"هِلو" في إنجلترا، وتحييك بـ” كونيتشيوا" في اليابان. ما رأيك؟".. انفُرجت أساريره وسأل بلهفة: "متى تشتريها لي؟" فقلت: "إنها هدية قيّمة وخاصة جداً، لن تحصل عليها إلا في عيد ميلادك أو بعد إنجاز كبير..". لم يدم إحباطه طويلاً، لكنه عاد كل بضع ساعات يسأل: "متى تأتي الأرض المتحدثة؟"

وجدت متجراً إلكترونياً يعرض الكرة المتحدثة بسعر مخفّض، فوضعتها في سلة المشتريات الافتراضية حتى لا أضطر للبحث عنها مجدداً عندما يحين موعد "الهدية القيمة". كنت وأنا اتصفح العروض فخورة بأن ابني يريد أن يتعلم أسماء البلدان. "أريد أن أذهب إلي أفريقيا" قال. وفي مرة أخرى سأل: "هل يمكن لنا أن نزور الصحراء في يوم من الأيام؟" فقلت: "سنزور الأردن، فيه صحراء جميلة، والنجوم في ليلها قريبة. إن السماء تمطر نجوماً على الساهرين فيها."...كنت سعيدة بفضول ابني واهتمامه المبكر باستكشاف العالم، إلى أن لسعتني فكرة مفاجئة.. ستكون فلسطين مدفونة تحت خارطة إسرائيل التوسعية، وإذا كان حظي سيئاً ستمتد خريطة العدو لتبلع قطاع غزة والضفة الغربية، وقد يتكرم مصنِع الكرة على إسرائيل بتنصيب القدس عاصمة لها، فما علاقة المصنع الألماني بالقرارات الدولية، وما الضرر في ذلك؟ وإن كان هناك ضرر فهل من مشتكٍ؟

لن أجد إسم (پالستينا) على الخريطة إن سألني عنه سامي، وفي المقابل سيكون إسم إسرائيل كبيراً واضحاً، لأن المنتِج ألماني، وحاجة الألمان والصناعة الألمانية إلى توثيق وجود الدولة اليهودية كبيرة جداً. إذا نقر إبني بقلمه البرتقالي على الخريطة سيطلق الصوت المسجل تحية "شالوم" من فلسطين.

لم يتعلم ابني القراءة بعد، لكنه يميز بعض الأحرف الكبيرة في أول الكلمات. سيعرف أن الكلمة المكتوبة على بلدي تبدأ بالـ (آي) وليس بالـ (پي) مثل پالستينا. فماذا أقول له إن سألني أين (پالستينا)؟ كيف أشرح له الاحتلال؟

"لماذا لم يُكتب على فلسطين أنها محتلة إذن؟ لماذا لا توجد فلسطين أصلاً على الخارطة؟" سيتساءل إبني.. "هل تدعي أمي وجود أماكن غير موجودة؟" هل سيظن أنني كاذبة أم أنه سيشفق علي لكوني مختلة عقلياً وأرى ما لا وجود له.

ترددت. . .هل أؤجل شراء الكرة الأرضية والحديث عن الوجود إلى حين يكبر إبني؟ وما جدوى التأجيل إذا درسته المدرسة في أول سنواته ما اتهرب منه أنا - جبناً من المواجهة؟

هل أشرح له أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأن العالم ملئ بالمؤامرات، وأن الأقوى هو الذي يكتب التاريخ ويرسم خطوط الخرائط وحدودها، وأن بلاداً وشعوباً قد وقعت من الخريطة بقوة السلاح...ما هو دليلي على ما أزعمه؟ عندما تتحدى بمقولتك الخارطة المرسومة، عليك أن تتسلح بما هو أقوى في عين الطفل من الألوان والخطوط والأحرف الأولى. ماذا لدي لأبرهن لإبني على وجود ما لا يراه؟

اغرورقت عيناي بدمع المغلوب على أمره. إن عمره خمس سنوات أيها الظُلّام! كيف أشرح له أن أمه أتت من اللا مكان، كيف أقول له إن عائلتها تقطن في مكان تغطيه إسرائيل عن أعين العالم، لتفعل بهم ما يخدش الحياء والقانون والإنسانية؟ كيف أعلمه الثقة في الكتاب وما يقوله، بعد أن كَذَبتُه أنا في أول الطريق؟ كيف أزعم أمامه أن فلسطين حقيقة وليست من صنع خيالي، وأنها ليست كبلد الجنيات والعجائب التي يراها في الرسوم المتحركة؟

أدركت أنني بعد أن خسرت معارك الأرض في فلسطين، ومعارك الجو في بيروت، وبعد قبولي بجنسية أخرى في ألمانيا، ها هو تاريخي كله مطروح للزوال عن الخريطة.

بكيت بحرقة على مائدة الطعام، حتى شعرت بيد صغيرة دافئة على كتفي. "ماذا بك يا ماما؟" سأل ببراءة. قلت له بيأس: فلسطين موجودة، لكنهم لا يكتبون إسمها على الخريطة!"، فرد: "لا يهمك ولا تبكين! فأنا أصدقك!"

 

هينيف، ٢٣ مارس ٢٠١٧