لم تهدم الحرب في سوريا الأبنية الاسمنتية فقط، بل دمرت وما تزال البنيان الاجتماعي الذي كان واهياً في الأساس. وفيما تتداول وسائل الإعلام أرقام الخسائر العمرانية في المنازل والجسور والمعامل وما تبقى من البنية التحتية، في ظل الحرب التي ما تزال رحاها دائرة تُعْقَد بين فينة وأخرى اجتماعات ومؤتمرات وتُنظَّم معارض لإعادة البناء، ونسمع في الإعلام عن توزيع حصص، وربط إعادة البناء بالتغيير في بنية النظام، أو عن قرار أوربا وأميركا بعدم المشاركة إلى أن يحدث تقدم في الحل السياسي، أو استئثار الروس والإيرانيين بالكعكة، أو تنحية الروس للإيرانيين لكن ما لا يُفكَّرُ به ولا تُعْقد حوله مؤتمرات أو تُنظَّم معارض أو يُسْمع عنه في الإعلام هو إعادة بناء المجتمع الذي هدمت الحرب أعمدته وقوضت فيه ما يمكن أن يشكّل إطاراً للوطنية السورية، أو إجماعاً سورياً على حكومة ما أو هياكل دولة محتملة، لأن الصراع الدائر خَنْدَقَ الأطراف كلها وشحذ شفرة تطرّفها وغمسها في سمّ الطائفية. وما يزيد الطين بلة هو تحوّل الأطراف المتصارعة إلى أوراق أو بيادق في لعبة إقليمية ودولية أكبر تتجلى آثارها في الدمار الذي طال المدن وفي انهيار الاقتصاد، وتدمير مكاسب القطاع العام، وتفشّي الفساد والصراع على الدخل والموارد والوظائف، وعلى الرغيف في بعض المناطق، حتى يمكن القول إن سوريا عادت إلى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة وازدادت حدة الفقر والحرمان ودب اليأس في الفقراء ومحدودي الدخل وازداد تشاؤم القطاع الواسع من السكان الذين التصقوا بأرضهم وبيوتهم حين تسنى لهم ذلك ولم يهاجروا إلي بلدان أخرى كي لا يؤججوا عنصرية العنصريين فيها أكثر أو يدفعوها إلى سياسات ضبط حدود، أو يسمحوا لرؤساء دول أجنبية بالتغريد على تويتر تعبيراً عن حزنهم على مأساة الهجرة السورية.
عقّدت الحرب إمكانية تجاوز الانقسامات الطائفية في سوريا، وازداد التمسك بالمرجعيات وأنظمة الحماية التقليدية وشُكِّلت ميليشيات إما معارضة أو موالية أو ميليشيات حماية محلية وصار الشعب السوري كله يعيش في ظل المجموعات المسلحة في المناطق التي تسود فيها.
اتسمت العقود السابقة في التجربة السياسية العربية بتحول الحاكم إلى محور للمجتمع والسياسة والاقتصاد، وكان يدور في فلكه كل شيء من القضايا الصغرى إلى القضايا الكبرى، وركز الحاكم على المشاريع المضخمة دعائياً كالسدود الضخمة على الأنهار أو شق مجاري أنهار في الصحراء أو أوتوسترادات أو بناء مصانع وتسليم الإشراف عليها إلى المحسوبين عليه وعلى بطانته، وكان هذا مترافقاً مع هدم الإنسان واستصغاره وتحويله إلى تابع وتجريده من حقوقه كافة، فكانت المعادلة السائدة هي إما أن تكون تابعاً أو مكانك السجن أو المنفى. وقد دفع كثيرون ثمناً باهظاً لهذه المعادلة إما في تنفيذ أحكام سجون طويلة بلا محاكمات أو قتلاً، بينما اختار كثيرون المنافي، وكان هذا ثمن غياب الديمقراطية الحقيقية وتعدد الأحزاب وحرية الصحافة وحق الانتخاب. وكُتبَ على الفرد العربي أن يعيش عمره كله في ظل حاكم لم ينتخبْه أو أُجْبر على انتخابه، ومُسِخَ الإنسان، وحُوِّل إلى صرصار يسهل سحقه تحت أقدام السلطة، ولم تكن صرخات الربيع العربي الاحتجاجية إلا تعبيراً عن كل هذا، ولكن البنية السائدة للقوة وتقاطعاتها العابرة للقومية وأدت الحلم المدني وحولت الربيع إلى كابوس ما يزال يقض مضجع المنطقة وكل ذلك كي لا تنجح ثورات التحرر من نير الاستبداد والدكتاتورية وتخترق الحدود العربية وتنتشر كالنار في الهشيم.
والناظر اليوم إلى الوضع السوري، على المستوى البصري، سيهوله رعب مشهد المدن المهدمة كما لو أنه في الجحيم، وبدلاً من أن تؤدي هذه الأوضاع المأساوية إلى عقد مؤتمرات تعمّق الثقافة المضادة للحرب، وتدعو إلى السلم الأهلي، وتعويض الخسائر ومحاكمة مجرمي الحرب وتجاوز الانقسامات والبحث عن حل يحمي ما تبقى من سوريا، وبدلاً من البحث في سبل تأمين الرعاية النفسية والصحية والاجتماعية والمادية للسوريين الذين يعيشون تحت حصار اقتصادي حقيقي يُحرمون فيه من الكهرباء والماء والغاز ووقود التدفئة، فإنها على العكس تثير شهوة المتعهدين وتطرح ثقافة المحاصصة والاستئثار والمشروعات الضخمة والتي لا تفيد في الدرجة الأولى إلا مموليها.
وبينما يمتلك الاقتصاديون ورجال الأعمال ووزراء الاقتصاد وخبراء الاستثمار والمتعهدون والمنفذون والشركات العابرة للقومية وأصحاب المشاريع العملاقة القدرة على التخطيط على مدار الساعة لاستثمار الحروب والمآسي، ولوضع مخططات للأبنية والمولات والأبراج المكتبية فوق أشلاء الضحايا، لا يمتلك الناشطون والمثقفون واليساريون والمعارضون والفنانون والشعراء والروائيون والصحفيون النزيهون ومعارضو اللييرالية الجديدة والحالمون بالعدالة والتوزيع العادل للثورة، وبناء الإنساء الحقيقي في سوريا أو غيرها من بلدان المنطقة، لا يمتلكون الإمكانية ولا المكان ولا المجال ولا الدعم من أجل أن يعقدوا مؤتمرات وينظموا معارض حول كيفية معالجة الخراب الاجتماعي وإعادة بناء ما تهدم بين البشر، وما يمكن أن يجمعهم في مشروع مشترك، وافتتاح أفق جديد للتوصل إلى حل، لكنهم يستطيعون أن يناقشوا هذه المسائل المصيرية في المنابر التي يتيحها الإعلام الاجتماعي بدلاً من أن تُترك صفحاته كي تصول وتجول فيها أقلام تعمّق الانقسامات وتنكأ الجراح.