قادت أشهر من الاحتجاجات الضخمة إلى إبعاد رئيسي الجزائر والسودان عن سدة الحكم - ويطالب المواطنون في البلدين بتغيير جذري, بما في ذلك تغيير الدستور. وقد أعطى قادة عسكريون في كلا البلدين وعوداً بالتغيير. ولكن ما هي آفاق الإصلاح المجدي؟
في العديد من البلدان الديمقراطية، يكون للدساتير أغراض عدة، مثل تنظيم العلاقة بين الفرد والدولة، وقواعد تنظم تفاعل مؤسسات الدولة الرئيسية فيما بينها. في المنطقة العربية، تعمل الدساتير بشكل مختلف لأن تركيزها الرئيسي هو تنظيم العلاقة بين المؤسسات. لذلك تكرس الدساتير العربية معظم اهتمامها لقضايا مثل من المسؤول عن تشكيل الحكومات، وفي أي ظروف يمكن حل البرلمان، ومن يمارس الرقابة على المؤسسات الأمنية، وقواعد أكثر تفصيلاً مثل شروط الترشح للانتخابات، وأمور أخرى كثيرة. وكمثال أوضح، يخصص دستور الجزائر للإجراءات البرلمانية أحكاماً تزيد خمسين بالمئة عما يخصصه لحقوق المواطنين. كما يغفل فعلياً توضيح هل الحقوق التي يمنحها مجرد طموحات أم لا.
يمثل الإصلاح الدستوري في بلدان مثل الجزائر والسودان فرصة لتعديل الكثير من الأحكام المذكورة لتحقيق عدد من التغييرات. ومن التغييرات الممكنة تركيز السلطة بأيدي مؤسسات أكثر صلابة، أو محاسبة الذين يسيئون استخدام السلطة التنفيذية.
محاولات الإصلاح في السودان والجزائر
يؤكد المراقبون أن مضمون الدساتير العربية غير مهم لأن أولي الأمر يتجاهلونه. ولكن تظهر العديد من الدراسات أن حكومات المنطقة تتبع الأحكام الدستورية فعلياً في الحكم. وأحد الأمثلة هو أن السلطات الحاكمة تعدل فترة الحكم بدلاً من خرقها بشكل صريح.
وتؤكد قوى المعارضة السودانية والجزائرية أن الدساتير القائمة والأنظمة السياسية غير ملائمة - وأنها تساهم في زيادة عدم الاستقرار في كلا البلدين. وفي الرد على ذلك، يقول الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى إن معارضتهم غير مؤهلة لأية تغييرات كبرى، ظاهرياً بسبب الخوف من عدم الاستقرار الذي ضرب ليبيا واليمن وبلدان أخرى بعد فشل العمليات الدستورية فيها.
في الجزائر، حاول رئيس الأركان والمجلس الدستوري والرئيس المؤقت جميعاً الحفاظ على نظام الحكم القائم عبر تنظيم انتخابات رئاسية بموجب الدستور الحالي. لكن لم ينجح الأمر. فلم يقدم أي مرشح ذي مصداقية ثبوتياته للسلطات المعنية بحلول الموعد النهائي. وها هي الانتخابات الرئاسية تأجلت إلى موعد غير محدد.
وفي السودان، سعى المجلس العسكري الانتقالي إلى إبقاء قبضة العسكر على الدولة من خلال استخدام العنف. لكن رد المجتمع الدولي - بما فيه الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة - كان موحداً في إدانة أفعال السلطات الحاكمة. وأجبر ذلك المجلس العسكري الانتقالي على محاولة إعادة فتح المفاوضات مع منظمات المجتمع المدني الرئيسية التي كانت تقود الاحتجاجات العامة.
لماذا الإصلاح الدستوري مهم؟
النتيجة هي أن الإصلاح الدستوري بشكل من أشكاله موضوع على الطاولة في الجزائر والسودان على حد سواء وذلك أساساً لأن الخطط البديلة تفشل كما يبدو. والتحدي الذي يواجه كلا البلدين هو كيف يتم تصميم عملية تحدد مدى الإصلاح لاسترضاء المحتجين.
ولا يزال على الجماعات المدنية الجزائرية والسودانية رسم خارطة طريق لإصلاحات محددة. ولكن في غياب مواعيد محددة بدقة، يمكن استغلال الوقت في بناء توافق حول خطة تعيد بناء الشرعية الرسمية والشعبية في كلا البلدين. والكثير من رموز المعارضة يعتبرون من البديهي أن مثل هذه الخطة يجب أن تعمل أيضاً بمثابة قاعدة لعملية الإصلاح الدستوري.
دروس انتفاضات 2011
مهما كان محتوى الخطة، من المفيد أيضاً البناء على الدروس المستفادة من تجارب بلدان كتونس ومصر واليمن وغيرها بعد انتفاضات 2011. أولاً، على جميع الأطراف أن تدرك أن النقاش والتفاوض بشأن الدستور في أي بلد يخلقان فرصاً مهمة - وأي عملية ناجحة من شأنها تحقيق منافع حقيقية لمؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الأمنية والسكان عموماً. وهي أيضاً معقدة جداً وحافلة بالمخاطر. فعندما تسير الأمور بالاتجاه الخاطئ - كما حصل في اليمن - فإنها تقود إلى العنف وإدامة الصراع لفترة طويلة. وإدارة المفاوضات بطريقة توصل إلى توافق بشأن المقترحات هي أمر جوهري.
وبشكل عملي، فإن هذا يعني ضرورة إيلاء اهتمام كبير بإقرار كيفية تنظيم العملية الانتقالية في بلدانهم. وفي طليعة الأسئلة سيكون هل ينبغي أن يسبق الإصلاح الدستوري الانتخابات أم يأتي بعدها؟
وقد شكل هذا السؤال في جميع تجارب الانتقال بعد 2011 ضغطاً حقيقياً على صناع السياسات في المنطقة، وبرز عدد من الدروس المفيدة في هذا الإطار. وفي البلدان المتعطشة للديمقراطية والتي تعاني من إخفاقات كبيرة على هذا الصعيد، ليس من الحكمة غالباً بل ومن المستحيل أحياناً تأخير الانتخابات. في الوقت نفسه، السماح بأن يتقرر محتوى الدستور بالكامل وفق نتائج انتخابات واحدة هو خطأ فادح.
السودان والجزائر: ماذا بعد؟
يكمن أحد الحلول في تنظيم عمليات معقدة وذات مستويات متعددة تجمع بين التفاوض على المبادئ، والانتخابات، والحوار، وعناصر أخرى تسمح للكيانات المنتخبة والخبراء وجماعات المجتمع المدني وغيرهم بالمشاركة في مختلف النقاط، عبر عملية يتفق عليها رسمياً بين الأطراف. إضافة لما سبق، يجب أن تستند كلا العمليتين أيضاً على البراغماتية لتمكين مواءمة الآليات مع الظروف المستجدة على الأرض، عند الضرورة.
الجزائر والسودان يصارعان لحل التوتر المعهود بين الحاجة إلى الاستقرار وبين الإصلاح. ويبدو أن كلا البلدين الآن يقبل حقيقة أنه لا يمكن تحقيق أي من هذين الهدفين بمعزل عن الآخر. وهذا سبب للتفاؤل، رغم أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي فعله لتأمين مستقبل أفضل لشعبي البلدين.
زيد العلي خبير أول في المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، وهي منظمة دولية بين الحكومات تعمل على تقديم المساعدة الانتخابية وبناء الدساتير، ومؤلف كتاب "الحركة الدستورية العربية: الثورة المقبلة" (كامبريدج 2020).