[ترجمة أسامة إسبر]
”لماذا تفشل الديمقراطيات؟“
سمعنا هذا السؤال كثيراً في الأعوام القليلة الماضية. وبما أنه لا يوجد جواب واضح كنتُ عادة أجيب على السؤال بسؤال آخر: لماذا يجب ألا تفشل؟
أظهر لنا التاريخ (الدليل الوحيد الصحيح الذي نملكه حول هذا المسألة) أن الديمقراطية نادرة وعابرة. تتوهج على نحو غامض في مكان ما أو آخر محظوظ، ثم تنطفىء تماماً على نحو غامض مشابه. ذلك أنه من الصعب أن تتحقق الديمقراطية الحقيقية، وحين تُنجز تكون هشة. وفي الخطة الكبيرة للأحداث البشرية إنها الاستثناء لا القاعدة.
وعلى الرغم من الطبيعة المراوغة للديمقراطية فإن فكرتها الجوهرية بسيطة وساحرة: كأعضاء في جماعة يجب أن يطرح كلٌّ منا، بشكل متكافئ، رأيه حول كيف يجب أن ندير حياتنا معاً.
هل سبق أن سمعتم كلاماً أكثر عقلانية من هذا؟ لكن من الذي يقول إننا عاقلون؟
ليس البشر ميالين إلى أن يعيشوا ديمقراطياً. ويستطيع المرء أن يقول إن الديمقراطية ”غير طبيعية“ لأنها تقف ضد غرائزنا ودوافعنا الحيوية. إن ما هو أكثر طبيعية لنا، كما لأي كائن حي، هو البقاء والتناسل. ومن أجل هذا الهدف نؤكد أنفسنا (بشكل لا يلين، وبوحشية) ضد الآخرين: ننحّيهم جانباً ونتخطاهم ونطيح بهم ونسحقهم إذا اقتضت الضرورة. وخلف الوجه المبتسم للحضارة البشرية نجد الدافع نفسه نحو تأكيد الذات الذي نجده في مملكة الحيوان.
حين تخدشون سطح الجماعة البشرية ستجدون القطيع على الفور. يقول عالم الحيوان كونراد لورنتس (1) في كتابه الذي يحمل عنوان في النزعة العدوانية إن ”الطبيعة الإنسانية غير المفكرة وغير العقلانية هي التي تدفع حزبين سياسيين، أو دينيين يتبنيان برنامجاً مشابهاً في الخلاص، كي يتقاتلا بعنف“، إن هذه الطبيعة هي التي تجبر ”إسكندراً أو نابليوناً على التضحية بحياة ملايين الأشخاص في محاولة لتوحيد العالم تحت صولجانه“.
ولا يفيد الأمر أنه حالما يُتوَّج ذلك الشخص على العرش، يكون الآخرون متلهفين جداً فحسب كي يخضعوا له. في رواية دوستويفسكي الأخوة كارامازوف يقول المفتش الكبير:“لا يوجد شيء أكثر تعذيباً للإنسان، طالما هو حر، من أن يجد شخصاً ينحني له بالسرعة الممكنة“. ويا له من استسلام عذب! فقد كان الإسكندر الكبير ويوليوس قيصر ونابليون وهتلر وموسوليني متحدثين بارعين، وساحرين للحشود وغاوين سياسياً. وكانت علاقتهم مع الحشد حميمية على نحو خاص. ذلك أنه مع قادة من هذا النوع يكون التأثير إيروتيكياً على نحو عميق، وربما كانت تصريحاتهم فارغة، وحتى هراء، لكن هذا قليل الأهمية، لأن كلاً منهم يدفع الحشد المثار إلى ذروات جديدة من المتعة، ويستطيع أن يفعل ما بوسعه بالأتباع المبتهجين الآن، الذين يخضعون لأي من خيالات سيدهم. هذا هو تقريباً السياق البشري الذي بزغت فيه الفكرة الديمقراطية، ولا عجب أنها تخسر المعركة.
لا تُطلق الديمقراطية الحقيقية وعوداً كبيرة، ولا تُغوي أو تُبهج، بل تطمح فقط إلى قدر معين من الكرامة البشرية. وهي ليست إيروتيكية. وبالمقارنة مع ما يحدث في الأنظمة الشعبوية، إنها مسألة تخلو من الحماس. من هو سليم العقل الذي سيفضل المسؤوليات المملة للديمقراطية على الإشباع الفوري الذي يقدمه حاكمٌ شعبوي؟ من سيفضل الافتقار للحماس على نشوة بلا حدود؟ لكن، بالرغم من كل هذا، اقتربت الفكرة الديمقراطية من التجسد بضع مرات في التاريخ، وكانت لحظات من النعمة نجحت فيها البشرية تقريباً في إدهاش نفسها.
إنَّ العنصر الذي تحتاج إليه الديمقراطية كي تتحقق هو التواضع. فكي تكون ديمقراطياً حقيقياً، يجب أن تفهم أنك، حين يتعلق الأمر بمسألة الحياة معاً، لستَ أفضل من الآخرين، ويجب أن تتصرف وفقاً لهذا. أن تعيش ديمقراطياً يعني بشكل رئيسي أن تتعامل مع الفشل والنقص، وأن تحمل أوهاماً قليلة عن المجتمع البشري. ويجب أن تجسد مؤسسات الديمقراطية وأعرافها وآلياتها رؤية للكائنات البشرية كناقصة، وفيها عيوب، وغير مكتملة.
ابتكرت الديمقراطية الأثينية القديمة قانونين جسّدا هذه الرؤية، الأول هو نظام الاختيار: تعيين مسؤولين عامين بالقرعة. فقد كانت الوسيلة الأكثر منطقية للحصول على المناصب القيادية هي الاختيار العشوائي بسبب المساواة الجوهرية في الحقوق التي تمتع بها جميع المواطنين الأثينيين (البالغون الذكور الأحرار)، وكانت الانتخابات التي ستسمح للبعض بأن يؤكدوا أنفسهم بغرور ودون عدل ضد آخرين ستضرب الديمقراطية في الصميم.
كان القانون الأثيني الآخر هو قانون الإبعاد أو الطرد، فحين يحظى أحد المواطنين بشهرة محدودة، أو يصبح فاتناً للجمهور، يصوت الأثينيون على إبعاده من المدينة لعشر سنوات بنقش اسمه على قطع من الفخار. ولم يكن هذا عقاباً على فعل قد يكون الشخص الذي فتنَ الجمهور قد ارتكبه، بل إجراء استباقياً ضد ما يمكن أن يفعله إذا بقي غير خاضع للفحص والتدقيق. كان الأثينيون يعرفون أنهم لا يستطيعون مقاومة الإغواء السياسي، ولهذا حرموا أنفسهم على الفور من هذه المتعة. وكانوا يعرفون أن الديمقراطية هشة وتكوينها ضعيف ومن الأفضل ألا تُوضع تحت الاختبار.
منذ ذلك الوقت، عاودت الديمقراطية الظهور في أمكنة أخرى، لكن غالباً في أشكال لن يعترف الأثينيون القدماء بأنها ديمقراطية. على سبيل المثال، سيُحكم على جزء كبير من الديمقراطية الأميركية اليوم (إحدى أفضل نسخ السوق الآن) وفق المعايير الأثينية بأنها أوليغارشية (2). إن قلة من الأثرياء المحظوظين تقرر هنا عادة لا قواعد اللعبة السياسية فحسب بل أيضاً من يفوز أو من يخسر. والمفارقة هي أن النظام يفضل ما أردنا بشكل يائس تجنبه حين اخترنا الديمقراطية في المقام الأول، وأعني الحيوان السياسي الجائع للسلطة والمغرور والمؤكد للذات بشكل ظالم. لكننا يجب ألا نتفاجأ، فقد كتب جان جاك روسو قائلاً: ”لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه ديمقراطياً، لكنَّ شكلاً تاماً من الحكم كهذا ليس لبني البشر“. ذلك أنه من المتعذر العثور على الديمقراطية في العالم البشري وحين نتحدث عنها نشير، في معظم الأوقات، إلى مثال بعيد وليس إلى حقيقة. إن الديمقراطية هي في النهاية مثال يحاول الناس تطبيقه عملياً بين وقت وآخر، ليس بشكل مناسب أبداً وليس لوقت طويل، ودوماً بشكل مشوش وبخوف كما لو أن المسألة مسألة تجريب.
إن الديمقراطية صعبة المنال (كأشياء أخرى بينها السعادة) لكن حتى لو تأخر وعدها بشكل متواصل وأبدي تبقى أكثر أهمية من وجودها الفعلي. ومن المحتمل ألا نحظى بها أبداً، لكننا لا نستطيع التوقف عن الحلم بها.
* كوستيكا براداتان فيلسوف أميركي من أحدث مؤلفاته: الموت من أجل الأفكار، الحيوات الخطيرة للفلاسفة، وهو محرر شؤون الدين في صحيفة لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس. والمقال المترجم منشور بالأصل في طبعة صحيفة النيويورك تايمز الورقية (6 تموز 2019).
هوامش المترجم
1- كونراد لورنتس ( 1903 - 1989) عالم نمساوي من المعتقدين بالمذهب الطبيعي وأحد المؤسسين لعلم دراسة سلوك الحيوان.
2- الأوليغارشية Oligarchy أو حكم الأقلية: هي شكل من أشكال الحكم تكون السلطة السياسية فيه محصورة بيد فئة قليلة من المجتمع تتمتع بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.