جيجل: بعيداً عن الجزائر العاصمة، الحلم نفسه بتغيير سلمي

[جيجل، مسيرة 14 يونيو/حزيران 2019] [جيجل، مسيرة 14 يونيو/حزيران 2019]

جيجل: بعيداً عن الجزائر العاصمة، الحلم نفسه بتغيير سلمي

By : Nadjib Belhimer نجيب بلحيمر

كيف يمكن أن نرى الثورة السلمية من خارج العاصمة؟ الإجابة نبحث عنها على بعد ثلاثمائة كيلومتر شرقا، بولاية جيجل التي ورثت عن تسعينيات القرن الماضي سمعة المدينة المحافظة المرتبطة بسنوات الاستقطاب الايديولوجي والحرب الأهلية. وفي حين تتمركز قوى القمع الرئيسية في العاصمة، فإن الحراك في جيجل، المتسم بالتعددية والوحدة، قد عقد العزم على المضي قدماً رغم كل الصعاب من أجل تحقيق حلمه.

“نحن هنا من أجل تغيير النظام”.. هكذا تحدث رجل في العقد السادس، يقف أمام مقر بلدية جيجل، حيث كان الناس يتوافدون تباعا للمشاركة في المسيرة التي تنظم كل جمعة منذ أربعة أشهر، جاء كلام الرجل تعليقاً على ما كان يقوله شاب عشريني باستعمال مكبر صوت، يصف الجزائر التي يُريدها، بأنها “جزائر باديسية نوفمبرية” (نسبة إلى عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وثورة نوفمبر 1954 التي انتهت باستقلال الجزائر) وليست جزائر العلمانيين “المسلوخة” عن هويتها.. قال لي أحد المداومين على المشاركة في المسيرات منذ 22 فيفري إن الشاب المتحدث ينتمي إلى حركة مجتمع السلم (حزب مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين).

هذه التجاذبات الإيديولوجية، بدأت تطفو على السطح منذ الشهر الثاني من الثورة السلمية، لكنها لم تؤثر كثيرا على انسجام المتظاهرين ولا أبعدتهم عن مطالبهم الجوهرية، المتعلقة بإحداث تغيير حقيقي يُعيد للجزائريين الحق في اختيار من يحكمهم.. بعد أن أنهى الشاب كلمته المقتضبة صفق عليه بعض الحضور وسلم مكبر الصوت ليفسح المجال لمتدخل آخر، ردد بعض الشعارات المتداولة ثم تحدث عن “الجزائر حرة ديمقراطية” وهو الشعار الذي بقي إلى عهد قريب علامة دالة على الانتماء إلى أحزاب سياسية ذات توجه علماني.

لقد حلت مطالب إقامة دولة مدنية يكون القانون أساسها وتعود السيادة فيها للشعب، محل الشعارات التي سادت في التسعينيات عندما كان الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين على أشده وانتهى إلى حرب أهلية، وإلى غاية 22 فيفري بقيت هذه التصنيفات التي تضع المحافظ المتدين مقابل الحداثي العلماني قائمة، وعلى المستوى السياسي بقيت مناطق بعينها، ومن ضمنها جيجل، تصنف على أنها من معاقل الإسلاميين، ففيها أنشأ الجيش الإسلامي للإنقاذ (كان يوصف بالذراع المسلح للجبهة الإسلامية المُحلة) مقر قيادته، وفي أم الحوت، وهي منطقة جبلية وعرة تقع على بعد أربعين كيلومترا جنوب عاصمة الولاية، تفاوض أمير جيش الإنقاذ مع الرجل الثاني في المخابرات إسماعيل العماري، وتوصلا معا إلى اتفاق نزل بموجبه آلاف المسلحين من الجبال بعد سبع سنوات من حرب أهلية أحدثت شروخا في المجتمع وتركت ندوبا عميقة في النفوس.

يقول كمال، تاجر في الخامسة والأربعين، إن “هذه الثورة السلمية حررتنا من أشباح الحرب الأهلية التي ظلت تسكننا لعقدين كاملين بعد نهايتها ونحن اليوم نعرف طريقنا جيدا”، والحقيقة أن هذه الثقة لم تتكرس إلا بعد مرور أسابيع من مسيرات حاشدة لم تشهد أي عنف وبعدها صار الحفاظ على السلمية من أهم ما يحرص عليه المتظاهرون.

خلال عشرين سنة من حكم بوتفليقة ظل الخطاب الرسمي يستحضر آثار ما جرى في التسعينيات لتذكير الجزائريين بقيمة الأمن والاستقرار الذي يتم ربطه باستمرار النظام القائم، وفي كل مرة كانت هناك دعوات لانفتاح سياسي أو إطلاق عملية انتقال ديمقراطي، كانت السلطة والإعلام التابع لها يتهمون أصحاب المبادرات بالسعي إلى جر البلاد مجددا إلى سنوات “الدم والدموع”، وحتى بعد المسيرات الأولى وقف الوزير الأول السابق أحمد أويحيى، الذي يقبع في السجن بتهم فساد، أمام البرلمان ليذكر الجزائريين بأن ما يجري في سوريا بدأ أيضا بمتظاهرين يحملون الورود، غير أن الرد جاء من الشارع بالتأكيد على سلمية المظاهرات والإصرا ر على تغيير حقيقي وعميق، فلا التخويف بالعودة إلى الحرب الأهلية، ولا تكرار سيناريو المآسي التي تشهدها سوريا وليبيا أقنع الملايين بالكف عن التظاهر والعودة إلى بيوتهم.

الأحزاب خارج اللعبة

يعتقد كثير من المتظاهرين بأن الاستقطاب الايديولوجي قد يؤدي إلى تشتيت الصفوف، ولذلك وجبت العودة إلى نقطة البداية، عندما كان الإجماع حاصلا على أولوية تغيير النظام، ففي الميدان يسير المتظاهرون جنبا إلى جنب، فقط بعض اللافتات، وعلى قلتها، تخبر عن قناعات إيديولوجية أو سياسية، لافتة هنا تطالب بـ “مرحلة انتقالية ومجلس تأسيسي”، ولافتة هناك تصف الجزائر بـ “الإسلامية وباديسية ونوفمبرية”، فلا وجود للممثلين المحليين للأحزاب تماما مثلما كانوا غائبين عن الساحة خارج المناسبات الانتخابية. خلال عقدين من حكم بوتفليقة انقسمت الساحة بين مؤيد حول حزبه إلى لجنة مساندة تدعم كل السياسات الحكومية وتبررها، وبين معارض خاضع لقواعد اللعبة التي فرضتها السلطة، لكن الصلة مع المجتمع بدت مقطوعة تماما، وحتى التجمعات التي تنظم بمناسبة الانتخابات لم تكن تستقطب إلا أعدادا قليلة من المهتمين، في معظمهم من منخرطي تلك الأحزاب، وعندما انطلقت المظاهرات الحاشدة وجدت هذه الأحزاب نفسها على الهامش ولم تستطع استيعاب ما يجري إلا بعد ثلاثة أسابيع، عندها بدأت ترسل بعض الشباب لتصدر المظاهرات ورفع لافتات تدعم أطروحاتها السياسية، وهي لافتات تغطي عليها قوة الشعارات التي يرددها المتظاهرون، الذين جاء أغلبيتهم من هامش الساحة السياسية لاطلاق ثورة شعبية تفرض الآن توازنات جديدة. عبر الميسنجر وصلتني رسالة، هي عينة عما يجري تداوله عبر الخاص، يحاول مضمونها تبرير تخلف المنطقة - جيجل - اقتصاديا بالمواقف التاريخية لأبنائها الذين لعبوا دورا حاسما في مكافحة الاستعمار، لذلك تمت معاقبتهم من طرف النظام الحاكم، وتنسب هذه الرسائل إلى ما يعرف بـ “الذباب الإلكتروني”، وحسب أحد الخبراء في تكنولوجيات الاتصال، فإن السلطات تستعين بشركة صينية من أجل تسيير حرب إلكترونية تستهدف التشكيك في عفوية الثورة السلمية، وتؤكد وجود جهات تتلاعب بالمتظاهرين، وتبدو الرسالة التي وصلتني منسجمة تماما مع تلك الأطروحات التي تحمل مسؤولية الخراب الاقتصادي لبوتفليقة المتحالف مع فرنسا والقبائل، وقد تصاعدت هذه الحملات الإلكترونية مع نهاية حكم بوتفليقة وخروج قيادة الجيش إلى الواجهة.

الجيش في قلب الجدل السياسي

عشية المسيرة كان قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح قد ألقى خطابا مثيرا، تحدث فيه عن حظر رفع كل الأعلام باستثناء الراية الوطنية، وعن توجيه تعليمات إلى الأجهزة الأمنية بتطبيق صارم للقانون، وكان واضحا أن المقصود هم من يحملون الراية الأمازيغية.. هنا أيضا تظهر هذه الراية منذ بداية المظاهرات، يحملها ثلاثة أو أربعة أشخاص ولم يثر الأمر أي جدل، ورغم أن الولاية لم تُعرف بتبنيها للمطلب الثقافي والهوياتي الأمازيغي، فإنها لا تظهر أيضا أي عداء لهذا المطلب، لكن خطاب قائد الجيش أثار الكثير من المخاوف.. بالنسبة لجمال الدين الأمر واضح تماما “هذه محاولة لتشتيت الجزائريين والقضاء على ثورتهم السلمية، وليس هناك من رد إلا بأن نرفع هذه الراية جميعا”، لم يكن هذا ما شاهدته عندما نزلت إلى الشارع.. في الصباح كانت الأغلبية قد تابعت عبر فيسبوك بثا مباشرا لما جرى في العاصمة من اعتقالات في صفوف من حملوا الراية الأمازيغية وكيف كان رد المتظاهرين، فالمصدر الوحيد لمتابعة ما يجري في بقية مدن البلاد، والعاصمة تحديدا، هو “فيسبوك” باعتبار أن القنوات التلفزيونية الخاصة لا تنقل ما يجري على الأرض بموضوعية بسبب خيارات ملاكها أو ضغط السلطة عليها. كان المتظاهرون الذين يتجمعون أمام مقر البلدية يركزون مع هواتفهم، قلت لأحدهم يبدو أن الأمور متوترة في العاصمة رد علي “نحن نتابع ما يجري هناك، بعد قليل ستنطلق المسيرة وستسمع الهتافات نفسها التي تتردد في العاصمة”. هذه ثورة تلعب التكنولوجيا دورا حاسما فيها، كما قال لي أحد المختصين، وهذا يجعل القضاء عليها أمرا مستحيلا، تأكد لي هذا التشخيص عندما شاهدت كيف توحد منصات التواصل الاجتماعي المواقف وتعطي المظاهرات صبغة وطنية، وتنقض الخطاب الرسمي الذي يزعم أن المناوئين لقائد الجيش وخيارات السلطة هم مجرد أقلية قليلة تحاول اختراق المظاهرات في العاصمة وتستفيد من تغطية إعلامية محلية وأجنبية لتضخميها.

قبل انطلاق المسيرة بقليل، كان جمال يلف على وسطه الراية الأمازيغية وعلى كتفيه يحمل صبيا متدثرا بالعلم الوطني، هو يفعل هذا في كل مسيرة ولم يشعر بأن خطاب قائد الجيش يرغمه على تغيير موقفه، لم يلتفت إليه أحد، وعلى بعد أمتار منه كان كهل يقف وقد غطت الراية الأمازيغية جسده وتحتها العلم الوطني، كان واضحا أن الأمر يتعلق بتحدي الخطاب وما تضمنه من وعيد، وعلى عكس ما جرى في العاصمة لم يأت أحد لمصادرة الرايتين واعتقال حامليهما، اقترب شخصان بالزي المدني من الكهل وطلبا منه نزع الراية الأمازيغية وإخفاءها فرفض، تدخل شاب من المتظاهرين دفاعا عن حرية الرجل في حمل الراية، فرد الشخصان بأنهما من رجال الأمن وأنهما ينفذان التعليمات، انتهى النقاش بسرعة بامتثال الرجل الذي أخفى الراية، في حين بقيت راية أخرى ترفع في المسيرة إلى غاية عودتها إلى نقطة انطلاقها بعد أن جابت الشوارع الرئيسة للمدينة.

حصار العاصمة يحرر بقية الجزائر

لا شرطة هنا لتنفيذ التعليمات بصرامة، ولا وجود لقوات مكافحة الشغب، كل شيء يسير بهدوء لأن المعركة كلها تدور في العاصمة وحولها، يقول لي حميد “منذ بداية المظاهرات قبل أربعة أشهر لم نشاهد أي حضور لقوات الأمن، يبدو أنهم نقلوا أغلبيتهم إلى العاصمة، أما هنا فيكتفون برجال أمن بالزي المدني يتابعون المسيرات من داخلها ويراقبون كل التفاصيل”، بالنسبة للسلطة تُعتبر السيطرة على العاصمة أهم من أي شيء آخر، كانت هذه هي السياسة المتبعة خلال السنوات العشرين التي بقي فيها بوتفليقة في الحكم، لكنها لم تتغير عقب رحيله في الثاني من شهر أفريل الماضي، لا يزال حظر المظاهرات في العاصمة قائما رغم أن تطبيقه على مسيرات الجمعة لم يعد ممكنا بسبب العدد الكبير من المتظاهرين، في حين تتعرض مظاهرات طلاب الجامعات التي تجري كل يوم ثلاثاء إلى تضييق شديد لمحاولة منعها، ومن المفارقة أن الخطاب الرسمي الذي يؤكد على أن العاصمة ليست الجزائر كلها، تنقضه ممارسات السلطة التي تركز كل جهودها في السيطرة على الوضع بالعاصمة وبعض المدن الكبرى دون غيرها. عند الوصول إلى مقر الولاية يتوقف المتظاهرون لرفع العلم وترديد النشيد الوطني وأثناء مسارهم يقتربون من سور مدرسة عسكرية يوجوهون أنظارهم إلى براج المراقبة، حيث يتابع جندي ما يجري، فتنطلق الأصوات الرافضة لحكم العسكر “مللنا من حكم الجنرالات” و“الجيش شعب خاوة خاوة والقايد صالح مع الخونة”، يمتعض بعض المشاركين في المسيرة من الشعار، يقول أحدهم “ليس من الحكمة مهاجمة الجيش”، يرد عليه آخر “نحن لا نهاجم الجيش كمؤسسة لكننا نرفض خيارات رئيس الأركان”، جدل يحتدم مع نهاية كل مسيرة لكنه يجري في هدوء تام، فالأغلبية التي بقيت لسنين على هامش الممارسة السياسية متعطشة لهذه النقاشات العلنية التي تجري في كل شارع ومقهى، حيث يتعلم الناس كيفية الاستماع إلى الرأي الآخر ومناقشته والتعايش معه.

الثورة تسقط الأنانيات الصغيرة

مع بلوغ المتظاهرين منتصف المسار، لمحت شابا يقف على سور صغير ويردد الشعارات مع المتظاهرين بحماس كبير ويصور ما يجري.. سمير مهندس اتصالات، عمل مع شركات الهاتف المحمول قبل أن ينضم إلى الفريق الذي يعمل ضمن مشروع أطلقته شركة كوجيسي (kougc) المملوكة لعائلة كونيناف بقيمة 250 مليون دولار، ويتضمن إنشاء مصنع لإنتاج الزيوت والأعلاف الحيوانية، ومنذ إلقاء القبض على الإخوة كونيناف المقربين من عائلة بوتفليقة وإيداعهم السجن توقف العمل بالمشروع الذي كان من المفترض أن يدخل مرحلة الإنتاج قبل نهاية السنة الجارية. يتولى سمير الآن الاتصال بوسائل الإعلام من أجل تحسيس السلطات بضرورة المحافظة على المشروع، وحجته أن هذا الاستثمار ممول بنسبة 80 بالمائة من طرف بنك عمومي، وتوقف المشروع قد يسبب تلف التجهيزات التي كلفت غاليا وسيكون البنك هو الخاسر الأكبر، فهذا المشروع الذي يعتبر أهم استثمار للخواص في المنطقة يمكن أن ينعش الاقتصاد المحلي بمنطقة تعاني العزلة وضعف الموارد، وباستثناء الاستثمار القطري في مصنع الحديد بالميلية، والذي تبلغ قيمته 2.5 مليار دولار لم تشهد الولاية تنفيذ مشاريع كبيرة في السابق، وحتى مشروع مصنع تركيب سيارات رونو تم نقله إلى وهران بسبب شروط الشركة الفرنسية، عكس رغبة الحكومة الجزائرية التي أعلنت سابقا بأن المشروع سيتم تجسيده بجيجل. لا يشعر سمير الذي يبلغ الأربعين وهو أب لثلاثة أطفال، أن الثورة السلمية التي أدت إلى وقف المشروع وسجن مالكه، وقد تجعله بلا وظيفة، عاكست آماله، قال لي “أنا أشارك في المسيرات منذ 22 فيفري ولن أتوقف، فهذه فرصتنا التاريخية لبناء جزائر جديدة وهذا هدف لابد له من تضحيات، ثم ماذا يساوي فقدان وظيفة مقارنة بفقدان أرواح؟”، فمن وجهة نظره وكثير غيره، تعتبر السلمية مكسبا لا يقدر بثمن.

 [تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬