عُقدت في الرابع والعشرين من شهر حزيران المنصرم قمة أمنية في القدس في فندق سياحي وصفها الطرف الرئيسي المستفيد منها ب“التاريخية“، ضمت مسؤولين أمنيين لثلاث دول هي روسيا وأميركا وإسرائيل. كان موضوع نقاشهم، كما قيل، رسم مستقبل سوريا من خلال حل سياسي متفق عليه، في تجاهل تام للسوريين، المُتَجَاهَلين سابقاً كشعب، وإبعادهم عن لعب أي دور في تقرير مصيرهم السياسي. وفي أعقاب هذا المؤتمر، وبعد أيام معدودة، انقض الطيران الإسرائيلي على أهداف في عدة مناطق سورية في غارة كانت الأطول والأعنف حتى الآن، وسط صمت روسي يثير الريبة، وعدم قدرة إيرانية على إسقاط الطائرات، وفي غياب شبه واضح لأية إمكانية لحماية استقلال السماء السورية.
وفي هذا الوقت العصيب من تاريخ سوريا المعاصر، وفيما الحرب ما تزال تستعر وواقع التقسيم يؤلم جميع السوريين الذين يحلمون بسوريا حديثة حرة وصاحبة قرارها، كنت أتابع على شاشة ”نيتفليكس" مسلسلاً مثيراً للجدل من إنتاج كولومبي بعنوان ”سيمون بوليفار“، يروي قصة المحرر الفنزويلي العظيم سيمون بوليفار الذي حرر كثيراً من البلدان الأميركية اللاتينية من نير الاحتلال الأسباني، ونجح في تحقيق ذلك وطرد الأسبان من أميركا الجنوبية بإمكانيات متواضعة.
بوليفار كما كان في الواقع، وكما يصوره المسلسل (الذي انتقده الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بأنه يحتوي على الأكاذيب والتشويهات) آمن بهدف واحد، لا شيء استطاع أن يحرفه عن تحقيقه، لا الحب ولا الثروة ولا إغواء السلطة، وهو تحقيق الحرية والوحدة، وكلما سقطت مدينة أو بلدة في يد جيشه المغامر المؤلف من العبيد والفلاحين والثوريين الأميركيين اللاتينيين والأوربيين الحالمين بمستقبل جديد، انطلق نحو أخرى بحاجة للحرية دون أن يستسلم لمتع ترف محطات الانتصار وثماره بل تابع طريقه شاحذاً الهمم قبل أن تبرد، لتحقيق استقلال البلدان الأميركية اللاتينية من الاحتلال الأسباني.
يذكّرنا بوليفار بجميع المناضلين من أجل الاستقلال سواء المجهولين أو الذين نجحوا أو لاقوا نهاية مأساوية على حبل المشنقة أو في السجون، وكما كان هناك أبطال للاستقلال في أميركا اللاتينية كان هناك أبطال أيضاً في سوريا ومصر والجزائر والعراق وفلسطين ولكنهم عملوا في إطار محلي، في إطار الدولة القطرية، ولم يجتز أحدهم الحدود من أجل عمل تحرري أو وحدوي على مستوى الوطن العربي، رغم أن جمال عبد الناصر امتلك السحر والكاريزما للقيام بذلك لكنه حورب وأجهض مشروعه.
إن استعادة تجربة بوليفار درامياً في هذا المسلسل، الذي أتابعه على التلفزيون، في الوقت الذي أتابع فيه المأساة الدموية على شاشة الواقع السوري، تبين كيف كان الأميركيون اللاتينيون تابعين وخاضعين وليسوا أسياد القرار في أرضهم كمثل السوريين في هذه اللحظة التاريخية المعاصرة. وفي الوقت الذي يحاول فيه سيمون بوليفار أن يؤكد، على شاشة التلفزيون في إحدى الحلقات المسلسل، أن صاحب القرار يجب أن يكون الأميركي اللاتيني وليس المحتل الإسباني الذي رسخ العبودية ونهب الثروات وأذل الشعوب الأميركية اللاتينية وأحرق تراثها الأصلي، اجتمع آخرون عن السوريين كي يقرروا مسار مستقبلهم السياسي في فندق في إسرائيل، العدو التاريخي لسوريا ومحتلة أرضها، شارك فيه حليف للحكومة السورية، التي يتغنى إعلامها تاريخياً بفكر المواجهة والتصدي والمقاومة، وناقش الأطراف الموضوع السوري، كما لو أن السوريين غير موجودين في العالم، ودون احتجاج رسمي على قبول الحليف بمكان انعقاد اللقاء.
لم يكن الاجتماع فريداً من نوعه، فقد سبقته اجتماعات أخرى، كان السوري فيها غائباً، وأعني بالسوري هنا، المؤمن باستقلالية القرار في سوريا، بسوريا الدولة المتصورة كدولة حقوق وتعدد أحزاب وحرية صحافة وعلمنة ينتقل فيها الدين إلى حيزه الخاص منفصلاً عن السياسة، ويتم فيها احترام المواطن كمواطن يتمتع بحقوقه كاملة ويصبح فيها الناس سواسية أمام القانون، يتمتعون بحرية الانتماء والمعتقد واختيار من يحكمهم.
يحرض مسلسل سيمون بوليفار على التفكير أو الحلم بلحظة سورية بوليفارية تخرجنا من واقع لوردات الحرب وشيوخها الميليشياويين والخنادق والخنادق المضادة، إلى إجماع تحرري يضع سوريا على طريق واضح، ينتشلها من هاوية الحرب ويداوي جراحها. وفيما أقوم بمتابعة مسلسل سيمون بوليفار يومياً على الشاشة، يتواصل الانقسام على شاشة الواقع السوري في ظل اشتعال الجبهات واختراق الطيران الأجنبي للسيادة، ولا أعرف ما الذي سيتمخض عنه واقع الأحداث، وليس بوسعي إلا أن أحلم، وأنا أقولها عن نفسي، كسوري بلحظة سورية تستلهم البوليفارية و كل الذين تركوا إرثاً مشابهاً من سوريين وغيرهم في المنطقة وخارجها، لحظة سورية تخرجنا من واقع الحرب وواقع التقسيم والتبعية السياسية للآخر الأجنبي سواء كان صديقاً أو عدواً.
كان الحلم البوليفاري حقيقياً على شاشة التاريخ ولم يثر في ذاكرتي صورة شبيه عربي لبوليفار، عربي راوده حلم مشابه لمحو خريطة سايكس بيكو وكرس حياته من أجله وحالفته الظروف لتحقيقه. كانت الأحلام تنتهي عند حدود القطر الواحد، أو حدود الدولتين، وكان أشباه الجنرال سنتاندير العرب هم الذين لهم الغلبة، وقد أنشأوا جامعات ومدارس ومصانع لكنهم أفرغوها من التعليم الحقيقي والتصنيع الحقيقي، أما الغرب، الذي تدخل في أميركا اللاتينية عبر استعمار أسباني ودعم أميركي شمالي للانفصالات والدكتاتوريات فقد تكرر في صورة فرنسا وبريطانيا اللتين نهبتا البلدان العربية ورسمتا خرائطها وقامت إحداهما بإنشاء دولة إسرائيل فيها، التي حدث فيها الاجتماع كي يقرر مستقبل دولة ابتُكرت فيها الأبجدية.
في أحد الأيام بعد أن شاهدتُ حلقةً من المسلسل وقرأتُ معلومات كنت أجهلها عن بوليفار، ونصوصاً كتبها إدواردو جاليانو عنه شغلني التفكير قليلاً وتخيلت شخصية عربية تزيح عن نفسها أنقاض الهزائم وتشن حملة تحرير وتوحيد تبدأ باجتياز حدود الدولة القطرية وتُحرِّر البلدان العربية من أنظمتها وداعميهم، وفي الطريق تُشكِّل جيشاً من الحالمين والمعارضين والمؤمنين بالتغيير والفلاحين والعمال المسحوقين والفقراء من أبناء المدن والقرى، وتضع يدها على مال النفط ومال الشركات الخاصة وأموال الشعب المنهوبة وتحقق استقلالاً يجمع الدول العربية كلها في مشروع قائم على اللغة وصناعة تاريخ من الحرية، واحترام التنوع الديني والقومي والإثني، وإعطاء اللغات والقوميات الممنوعة حقها في الوجود، وتحرير المرأة وإنشاء نظام ديمقراطي حقيقي من المحيط إلى الخليج، لكنني ما لبثت أن تخيلتُ الرفاق ينفضون عن هذه الشخصية، وينفصلون في إمارات وممالك، ثم يحولون الحرب إلى حرب ضدها تمولها قوى شاركت في تحطيم الحلم البوليفاري، وتصورت في ذهني هذه الشخصية العربية تركب في زورق في النيل أو الفرات أو دجلة، وقد غضنت وجهها الخيبات، واعتلاه الشحوب، عارفة أن قاربها يبحر فيها إلى نهاية أو موت محتم كما حدث لسيمون بوليفار حين استقل قارباً عبر نهر مجدلينا متجهاً إلى المكان الذي سيموت فيه، بوجه مليء بالتجاعيد ويعلوه الشحوب من التعب وخيبة الأمل (كما وصفه ادواردو جاليانو في كتاب الوجوه والأقنعة، الجزء الثاني من ثلاثية ذاكرة النار) حين بدأ ما ناضل من أجله يتفكك بفعل قوى محلية وأجنبية تدخلت آنذاك، وبعد أن أعلن عن تخليه عن جميع المناصب والتحول إلى إنسان عادي.