الغريب والقريب: مسارات 'الممكن' في عمارة أمريكا اللاتينية، إسقاطات على المشرق العربي

الغريب والقريب:  مسارات "الممكن" في عمارة أمريكا اللاتينية، إسقاطات على المشرق العربي

الغريب والقريب: مسارات "الممكن" في عمارة أمريكا اللاتينية، إسقاطات على المشرق العربي

By : Wesam Al Asali وسام العسلي

على الطريق الفرعي في واهاكا، المكسيك، سألت صديقي ميغل أنخل: ألا تعتقد أن تبنيك لطريقة بناء الأوروغوياني إلاديو ديسته Eladio Dieste فيها إنقاص لعملك الشخصي؟ لم أعد اذكر كيف التففت على الكلمات لكي لا يصبح السؤال مجحفاً كما أكتبه الآن، أنا أذكره كما دار في رأسي حينها. تماماً كما أذكر جواب ميغل أنخل: إنها شجرة واحدة، نحن فروع تبحث عن السماء.

في بحث أمريكا الجنوبية عن سمائها، نستطيع التعميم قليلاً. فمدنها تعرف بعضها البعض جيداً، تصغي لجلاديها وأبطالها. معماريوها، كفنانيها وشعرائها وكتابها، يشربون من جذور مشتركة، ويتفرعون، كما يقترح ميغل أنخل، في سماء واحدة. تثير تجاربها في العمارة والعمران الكثير من الأسئلة والاجوبة للباحثين عما لا ندرسه في مدارس العمارة، ذلك الذي يصيغ الحداثة حول تجارب الشمال في الشمال ثم يصيغ الكولونيالي حول تجارب الشمال في الجنوب. يسقط ما ندرس، سهواً أو عمداً تجارب الجنوب في الجنوب، أو تحال لمآلات كولونيالية. لا أحد يفكر بشجرة ميغل أنخل. انتبه لذلك الآن، أما حينها، فكنت سعيداً، جالساً في سيارة صديقي المعمار وهو يقودها باتجاه مدرسة قام ببنائها منذ عشرين عاماً، مخترعا نظاماً إنشائياً لتغطية قشرية من الإسمنت المسلح، شرحه لي لاحقا ونحن نتجول حول سور المدرسة المغلق.

عرّف تاريخ العمارة منتج أمريكا الجنوبية بتعاريف متغيرة العلاقة مع عمارة الحداثة، لكنه فشل في تقديم هذا المنتج بصورة شاملة وواضحة في آن معاً. يعود ذلك ربما للمركزية الذاتية التي يرى بها الغرب نفسه، وهو من كتب ويكتب تاريخ العمارة لسياقات خارج حدود جغرافيته. عند بزوغ مشهد الحداثة في العالم وإسقاط هذا المشهد على المدينة، ظهر دور جديد للمعماري كونه الفاعل والقادر على تحقيق وعدها بإمكانية حياة أفضل. بعد الخمسينيات، حضرت عمارة أمريكا اللاتينية في هذا المشهد. فنحتت قالباً متفوقاً لصياغة عمارتها في الوقت الذي كانت أوروبا تزيل أنقاض حربها، وبينما كانت أمريكا الشمالية تتعثر بمشاريع التجديد الحضري. كسرت أمريكا الجنوبية ارتباطها بالتبعية المطلقة لتصاميم مستوردة لتصيغ مساراً خاصاً بجغرافيتها واجتماعيتها، بعمارة تتباين وتتفاضل عن مسار الغرب حتى وإن كانت انعاكساً لها. ظهرذلك واضحاً ­في تصميم جناح البرازيل في معرض 1939 New York World's Fair في نيويورك، والمصمم من قبل اوسكار نيماير Oscar Niemeyer ولوسيو كوستا Lúcio Costa والذي كان منتجاً مثيراً يطرح علاقات جديدة بين الداخل وبين الخارج، بين الشكل وبين الفعالية، بين الفتحات وبين الكتلة، في الوقت الذي لم تكن فيه الأجنحة الأخرى أكثر من ترسبات النيو-آرت ديكو في عمارة الأربعينيات في أوروبا وامريكا. من حينها كان الإعجاب بالمنتج المعماري البرازيلي لفرادته، فحضر في مراجعات نقاد أوروبيين وشماليين في العمارة.[i]

لكن هذا الحضور لم يكن دائماً إيجابياً. ففي أواخر الخمسينيات اتهمت عمارة البرازيل وأمريكا اللجنوبية بالفردانية، والتشكيلية العضوية الفارغة، والخروج من المحتوى الاجتماعي. ربما كان من الممكن نقاش هذه النقاط أكثر لو كانت الأكاديميا واللغة عادلة في حينها، متيحة المجال لتوثيق ردود معماريى أمريكا اللجنوبية النصية والمعمارية. لكن نقاد العمارة في الغرب، والذين غالباً ما كانوا ينصبوا أنفسهم أوصياء على مفاهيم الحداثة، قاموا عمداً أو سهواً بإسقاط العديد من التجارب الغنية لقارة كبيرة مركزين على شكلانية بعض المشاريع التي تغلّب نقاشهم. وبذلك تم التركيز على المشهد التشكيلي في عمارة أمريكا الجنوبية، فظهرت مصطلحات ترسخ الكولونيالية بتوثيق العمارة، على الأقل فيما نقرؤه الآن بالإنكليزية كـ)حداثة اخرى، "تجارب" دول في طور التطور،..إلخ(.

غير أن أخطر ما قام به هذا التركيز على الشكل والتايبولوجيا فقط هو عزل ما شكل، برأيي، أساس فرادة عمارة وعمران أمريكا الجنوبية. وهو جدية العمل الجمعي التجميعي على تطوير المواد المتوفرة لتصبح فراغات، أي على تطوير عناصر الإنشاء السائدة في سياق "الحاجة" و"القلة"، وهي مفاهيم لم تستطع الحداثة الأوروبية فهمها لتعلقها البدائي بالتفاؤلية، حيث كل شيءٍ ممكن. تطوير هذا السياق هو ما أريد التركيز عليه وإسقاطه على عمارتنا في المشرق، ليس باختلافاته التقنية فحسب، ولكن أيضا بنقديته العفوية تجاه مفاهيم سهلة الاستهلاك كالثقافة، والأصالة، والتراث.

من الصعب جداً الإلمام بعمل القارة على المستوى العمراني وإسقاطاته على مفهومي الحاجة والقلة، إذ يظهران في نصوص متفرقة أو كتب معينة كتبت هنا وهناك عن أشخاص ومعماريين بعينهم. غير أن التركيز على عنصر إنشائي-معماري يتيح المجال لمقارنات قد تكون أكثر تخصصية، وغنية، وقادرة على إعطاء مقطع شاقولي في سياقات ثقافات البناء في أمريكا الجنوبية. بالتركيز مثلاً على "بدائل الاسقف البيتونية المسحلة"، يمكننا مقارنة الحلول الإنشائية المدروسة والمطبقة في عدد من دول أمريكا الجنوبية، وقياس المواد والإمكانيات بدلاً عن مناقشة التشكيلات والحجوم فقط. عند الحديث عن بدائل الإنشاء، يظهر بشكل تلقائي أحد أهم وأشهر المعماريين-المهندسين في الجنوب، وتحديداً في الأوروغواي. ألاديو ديسته، والذي قام بمزاوجة التسليح (المتبع عادة في الإسمنت المسلح) مع الإنشاء بالطوب المشوي (المتبع عادة في البناء اليومي) لإنتاج عمارة قشريات إنشائية بأبعاد جديدة لم نكن نعرفها في الإنشاء التقليدي من أقباء وعقود، وباسعار جديدة لم نكن نعرفها في إنشاء قشريات الإسمنت المسلح. إن عبقرية ديسته في الأوروغواي تكمن في شقه نهجاً جديداً بأدوات موروثة، وعامة، وتقليدية.

لكن ديسته لم يكن وحده في هذا البحث، فهو حلقة مميزة في سلسلة أطول بكثير من تجارب ومحاولات تبحث عن تبادل معرفي جدي بين معماريي أمريكا الجنوبية، مضافاً إليهم أوروبيون وشماليون جدد قادمون من إسبانيا، وإيطاليا، وإلمانيا، وفرنسا، هاربين من حروب أوروبا قبل منتصف القرن الماضي. إن أول عمل لديتسه كمهنس إنشائي كان بالتعاون مع المعماري الكاتالوني الإسباني انتوني بونت كاستيانا "Antoni Bonet Castellana" في بيت بيرلينغييري "Berlingieri"، في هذا البيت تم مداخلة الإنشاء بالقبوات  بنظام التشبيك "Bovedas Tabicadas" وهو الإنشاء السائد في اسبانيا مع التسليح الذي اقترحه ديتسه. [ii]من خلال هذا التزاوج بدأت منشآت ديسته بالاتجاه نحو ما تم تسميته بالسيراميك المسلح "Ceramica Armada" والذي انتهى به المطاف ليكون من أهم منتجات الاورواغواي الإنشائية، إن لم يكن كامل أمريكا الجنوبية والعالم. [iii]

 

[الاديو ديسته Cristo Obrero y Nuestra Señora de Lourdes المصدر Dr. Michael Ramage مايكل راماج]

ديتسه هو المثال الأكثر سطوعاً من بين العديد من الآخرين الذين لم أعرف عنهم شيئا في دراستي في أو دمشق أو كامبريدج. لم أستطع التعرف عليهم سوى بالاختصاص الضيق الذي شاء له أن يحمل أسئلة شبيهة بتلك التي عالجها هو وأصدقاؤه في جنوبهم الشحيح. فتسليح القباء الإنشائية كان أيضا هاجساً لأعمال العديد من المعماريين الذين وجدوا فيه حلاً لنقص الإسمنت أو الحديد. في الأرجنتين، عمل إدواردو سكريسته "Eduardo Sacriste" لفترات طويلة على تطوير نماذج بيوت مبنية من القبب بحيث تصبح هذه المفردة الإنشائية جزء لا يتجزأ من عمارة المنزل ممثلة بعنصر مسبق الصنع. أما في المكسيك، فقد عمل خورخة غونثاليث لوبو "Jorge Gonzalez Lobo" على تطوير أساليب إنشاء الفرو سمنت باتجاه استخدام الطين بديلاً عن الإسمنت. كذلك لا يخفى عمل فيلكس كانديلا Felix Candela المكسيكي الاسباني والذي نهج تطويع جيومتريات السطوح المسطرة "Ruled surfaces" لتبسيط إنشاءات قشرية معقدة مستخدماً نفس عنصر الخشب المعتاد للكوفراجات الإسمنتية لصب الأسطح المثنية، متيحا المجال لأي عامل بناء في المكسيك للعمل على هذه الإنشائيات المعقدة.

ربما يرجع ذلك إلى كون العلاقة اليورو-لاتينية بين المعماريين خصوصاً فيما يتعلق بالإنشاء وتطبيقاته قائمة على مبدأ الندية وليس التبعية قبل كل شيء، أي أنها كانت قائمة على البحث المشترك للجديد وليس استعارته من نماذج سابقة. هنالك الكثيرون من الأمريكيين الجنوبيين ممن عملوا في مكاتب لوكوربوزيه ووالتر غروبيوس، وفرانك لويد رايت. نذكر منهم إيميليو دورهات Emilio Duhart من تشيلي، والأوروغواييان كارلوس كليموت Carlos Clémot وخوستينو سيرالتا Justino Serralta الأخيران عملا مع لوكوربوزيه في فرنسا ولاحقا مع ديسته في الأوروغواي. خلقت هذه السلسلة من القادمين الجدد وطلابهم ممارسة تصميمية مختلفة تماماً عن أدوات وتطبيقات العمل المعماري في أوروبا. فالبحث التقني الأيديولجي كان مشتركا ونابعا من الحياة اليومية. على عكس اعتقاد نقاد العمارة في الخمسينيات، كان البحث عن العمارة يستقى من المجتمع في كل تفصيلاته، بذلك يصبح أوسكار نيماير واجهة لماكينة تصميمية نسيها الكثير من هؤلاء النقاد وركزوا على شخصه المعماري. تماما كما يتم التركيز الآن على عمارة سولانو بينيتثSolano Benitiz وفريدا اسكوبيدو Frida Escobedo.  

 

[المعمار ميغيل أنخل باوتسيتا.  يمين: صورة من بيت من تصميم المعمار. يسار: المعمار أمام منزله. من تصوير الكاتب]

كل هذه الأعمال ليست فردية بالمطلق بل تمت بمجموعات تتناقلها مكانياً وزمانياً من أجيال لأجيال ومن حدود لحدود. هذه شجرة ميغل أنخل الذي كان هو نفسه طالباً لدى غونثالث لوبو في مدرسة العمارة في المكسيك، وإن كانت مشاريع الأخير معروفة للمهتمين بالعمارة التي تبحث عن بدائل الاسمنت المسلح، فإن ميغل أنخل هو مثال لامتداد هذه العمارة لعمق الريف المكسيكي والذي قام خلال سنوات عمله ومعيشته في هذه المدينة على تطبيقه وممارسته في عمله المعماري دون الحاجة لصفحات استهلاك العمارة السريعة التي تلتهمنا يومياً. صمم ميغل أنخل منزله بالفرو سمنتFerro Cement، وهو يقوم الآن ببناء بيوت أقربائه بتقنيات مشابهة بالطوب والحديد مقارباً بين كل من قمت بذكرهم وآخذاً منهم. كنت قد تركت ميغل أنخل في واهاكا وهو يعد غرفة جديدة ليتعلم بها كيفية التطبيق الأمثل لتقنية الإنشاء بالطوب المائل بدون أي دعائم مؤقتة، متعلماً من أحد أهم الخبراء المعاصرين في هذا الإنشاء، ألفونسو راميريث بونثه Alfonso Ramirez Ponce. في بيت الأخير جلسنا على مقاعد من الصوف تصطف على مصطبة صممها هو كما صمم كل مفردات بيته الإنشائية. استخدم المعماري ألواح المعدن المرمي من مصانع زجاجات الصودا والذي تستخدمه هذه المصانع لصناعة الأغطية ليقوم بتحويلها لقوالب إسمنتية في بيته. في واحدة من غرف هذا البيت، قام ألفونسو بتجريب أول قبة مبنية بنظام الطوب المائل. جربها ببيته قبل كل شيء، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ليصبح اليوم أحد أهم مراجع هذا النوع من البناء وطرق تصيميمه وتنفيذه[iv].

تحت سقف تلك الغرفة، أخبرني المعلم ألفونسو راميرث عن الفيلسوف المكسيكي في الأنتروبولجيا غيريمو بونفيل باتايا Guillermo Bonfil Batalla  والذي قارب الثقافة من خلال علاقة البشر معها بنوعين: قريبة Propia غريبة Anjena. في عالم عادل لا يشبه عالمنا، يمكن للثقافتين أن تتعايشا في ظروف مثالية من الاستقلالية الذاتية لشعوب العالم. لكن الغلبة اليوم لآليات كولونيالية لسلطة خارجة عن تحكم المجتمع بثقافتة، تغرب ثقافة القريب وتقرب ثقافة الغريب. في تحليل بونفيل للثقافة والكولونيالي موازنة رصينة لعلاقة الثقافة بالماضي، الحاضر، والمستقبل. وفي ذلك دروس عن مفاهيم الأصالة والهوية والتي لا أجدها تثقل الثقافات في أمريكا الجنوبية بقدر ما تفعل في شرقنا. فبونفيل يعتبر ما يتم إنتاجه "اليوم" من مفردات ثقافية جديدة من داخل المجتمع لها قيمة هوياتية لا تختلف كثيراً عن ما توارثته هذه الثقافة. بل ويمكن أيضا التشكيك بالمتوارث من الثقافة كونه النسخة المغرّبة من الثقافة الماضية والتي أعاد الكولونيالي إنتاجها وتقديمها لنا لتصبح شكلاً جديداً من أشكال الاستحواذ الثقافي.

 

  [المعمار الفونسو راميرث بونثة. يمين: صورة غلاف لكتاب المعمار منحنيات من الطين. يسار : بيت المعمار (من تصوير الكاتب). الأسفل Salon de Fiestas من أعمال المعمار.]  

أجد هذا النوع من النقدية للقادم من الماضي غائبة في علاقتنا بماضينا في المشرق. حيث يصبح القديم أو التراثي أهم من الممكن أو المتاح. شرقنا المتعب من مقارنات خطية بين الـ"نحن" والـ"هم" أو اللاهث وراء ثقافة الفقد، تلك التي تؤطرنا بالخارجين من جنان مدننا التقليدية كأننا كنا نملك مفاتيحها أو كأنها تملك أرواحنا. ثقافة الفقد التي تدفع بعضنا في المشرق لصوغ مقاربات تصل لاعتبار جنوننا وحروبنا نتيجة هذا الخروج الطوعي عن مدننا القديمة. كل ذلك لا يهم في عمارة أمريكا الجنوبية التي ينتصر فيها فعل المضارع. هنالك من يبحث الآن عن حل لمشكلة ما، يستمر في بحثه وأسئلته مدوناً أسئلة معلميه واقتراحاتهم، مضيفاً عليها القليل أو الكثير. لأنها مشغولة بصياغة نفسها في فعل المضارع، تتفوق أمريكا الجنوبية على نموذج جنة الماضي بنفس الأسلوب الذي تتفوق به على نموذج استيراد حداثة المستقبل.

 

[مدارس الفن في كوبا, المعماريون Ricardo Porro  ريكاردو بورو، Vittorio Garatti  فيتوريو غراتي، Roberto Gottardi  روبرتو غوتاردي. من تصوير الكاتب. [v]]

في هذا، وبينما كنت اقوم بملاحقة الأسطح الملتوية في أسقف بيوت ومدراس المكسيك وكوبا، وجدت تجربة أمريكا الجنوبية ثرية إنشائياً ومجتمعياً بشكل مختلف عما أعرفه في شرقنا المتوسطي.أكتب ذلك الآن وأنا على أمل انتاج مقارنات أكثر تفصيلية. لكن، يبدو من الصعب في الوقت الحالي، كما أشارت لي أستاذة في الجامعة التقنية في كوبا، صوغ مقارنات الجنوب-جنوب المتحمسة دون المرور بالشمال، تمويلياً كانت تقصد، أما معرفيا، فقد فهمتها وأفهمها الآن. في الوقت الذي تتردد فيه مفردات إنهاء الاستعمار "Decolonization" وإعادة التفكير في آليات إنتاج المعرفة والثقافة "Knowledge Production". وإذ تبدو هذه الهموم واعدة ومشتركة في الجنوب، فإنها تغص بتفاصيل صغيرة تجعلها متباينة، وتجعل من الأطلسي الجنوبي محيطاً واسعاً.

لكن وفي الوقت الذي يتسع فيه الأطلسي وترتفع جدران الفصل، وتنكمش الأكاديميا والعمارة على نقاشات كيفية تعريف إنهاء الاستعمار، تماماً كما ينكمش العالم على نفسه، تنساب المسارات المعرفية للبناء متجاوزة الجغرافيا. إن إنشاء القبب بنظام التمييل المنتشر في المكسيك، والذي تعلمته في إسبانيا في عام 2015 مع المعماري رامون اغيرة Ramon Aguirre، مازال ممارساً في المشرق، في مصر وإيران تحديداً، تصبح مراقبة هذه التقنية في مساحات التواصل الاجتماعي ممتعة وسوريالية. يعلّق معلم بناء مصري (ما شاء الله، جميل!) على صور لقبة نشرها عامل مكسيكي ليرد عليه الأخير بالعرفان، يترجمها الفيسبوك، فيدخل بينهما إنشائي من أيران ليكتب بالفارسية ما يكتب. في هذا المشهد يصبح الانتماء للعمل الحرفي أعمق من مجرد عمل يومي، فهو محاولة مستمرة لرفع إمكانيات هذه التقنية بشكل مجرد، دون التقيد بحدود مكانية أو ثقافية. فتصبح قبة العامل المكسيكي، ولو للحظة، هاجساً كونياً لأكوان معزولة، متحدية بذلك المفاهيم المباشرة عن المحلية والعالمية، تماما كما تفعل بمفاهيم الغرابة والقرابة، والماضي والمستقبل.

كل الشكر للدكتور مايكل راماج على اتاحة استخدام ارشيفه عن إلاديو ديسته, و لحازم رعد على تدقيق النص. 

هوامش

[i]  للمزيد عن بدايات عمارة الحداثة في أميركا اللاتينية Latin America in Construction: Architecture 1955–1980

[ii]  للمزيد عن هذا النوع من الإنشاء بالقبوات بنظام التشبيك Guastavino Vaulting: The Art of Structural Tile

[iii]  للاطلاع على أعمال الاديو ديسته Eladio Dieste: Innovation in Structural Art

[iv]  يمكن التعرف على أعمال المعماري. 

[v]  يمكن التعرف على مشروع المدارس الخمسة بكتاب Revolution of Forms: Cuba's Forgotten Art Schools

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • من تورا للوادي: عن جوبر والأحياء الشرقية في دمشق

      من تورا للوادي: عن جوبر والأحياء الشرقية في دمشق

      كان صديق لي يبتسم  كل مرة و نحن نعبر مدينة دمشق بالسرفيس الذاهب إلى بيتنا في جوبر. يلتفت لي ويقول: هذه آلة زمن. هذا اللقب للسرفيس الذي يشق دمشق من شرقها لغربها ليس اسماً عبثياً, فهو بعد أن يترك ملعب العباسيين باتجاه جوبر يمر باللاشيء وكل شيء معاً. بفضاء متقطّع لا هو أخضر كبستان ولا أزرق كبحر, تنتشر فيه بعض المكعبات المخصصة لرعاة الماشية. وربما تجد مزرعة صغيرة موسمية لفلاح يأبى تسليم أرضه للرمادي المنتظر للحداثة.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬