الحياة كأغنية قصيرة.....بلا نهاية
منذ قبولي بالماركسية كوحدة قياس مجحفة ، أدركتُ التناقض الذي سيظل يحكم حياتي ، في أعماقي لم أكن ماركسياً متعصباً ، أو لم أكن ماركسياً ألبته ، لكنني آثرتُ البقاء في اللعبة .
القمع البوليسي للنظام البعثي ، الذي لم أهضمه أبداً ولم أمد يدي إليه أبداً ، وصورة الشيوعي (المضحي) ، والتي بدأت تتبدّد ، جعلاني ، وربما بعضاً من جيلي ، أن نختار الاستمرار في اللعبة ، بل وتطرفنا أكثر فمضينا إلى أقصى الأقصى ، بعيداً عن نواة الكذبة المحصنة .
أول توليفة اعتمدتها ، غضاً ، كانت إخضاع كل ما أقرأ ، شعراً أو سياسة أو رواية ، ضمن بعدين لا غيرهما ، فكنتُ أنظر إلى كل ما أقرأ على أنه تجاوزٌ ، أما تجاوزٌ لفكرة الموت ، أو تجاوزٌ للموقع الطبقي الذي يكون فيه الإنسان ، وبكل ما تعنيه كلمة (الموقع الطبقي) ، فبدأتُ أسجل النصوص المتناثرة من شعر ورواية ونظريات للثورة وحتى نصوصاً مقدسة ، وكانت من أهم البدايات التي تركتها في منتصف الطريق ، كأي شيء آخر في حياتي .
وكم فرحتُ عندما وجدتُ صدى لمنهجي ، في كتاب مهم صدر في السبعينات ، عنوانه (ويكون التجاوز) ، من تأليف الناقد محمد الجزائري ، وكان الكتاب بغلافه الأزرق وصفحاته التي تتجاوز الستمائة صفحة كما أتذكر ، كان الكتاب الوحيد الذي حملته زاداً ، عند رحلتي الثورية إلى بيروت عام 1975 ، لكن اللون الرمادي لمحمد الجزائري وانتماءه لدوائر النظام ، جعلتني أفقد اهتمامي بالكتاب ، أما (نظريتي) ، وبسبب تحول اللعبة إلى جد ، وخسارة أصدقاء لي ورفاق وتصاعد (الأدرنالين) الثوري ، كنوع من غريزة البقاء ، جعلتني أكسر ثنائية (التجاوز) لأفتح الباب للحياة .
في الحقيقة ، كانت حياتنا بحد ذاتها ، تجاوزاً . وكالوديعة أوصي رياض كاظماً بي ، وقام كاظم بدوره بتعريفي إلى طه ، وكوديعة أيضاً أوصاه بي ، ربما لأنني كنتُ الأصغر أو لسبب آخر لا أدري .
وكما كتبت ُ نصاً بعد عقود (طه لا يهتم بأمري) ، أهملني طه ، لسبب سأعرفه لاحقاً ، لتأتي طاحونة الحرب ، ليختار كل واحد منا مصيره ويواجه (حربه) بطريقته الخاصة . في تلك الأيام رأيتُ طه مصاباً بذلك المرض الغريب والذي سيقتله لاحقاٌ ، سألته مستغرباً ، وكان عجولاً ويحاول التملص مني كعادته سابقاً ، أجابني بكلمة واحدة مع ابتسامة مغتصبة (لعنة) .
برأ طه من (لعنته) هذه المرة ، لتقودنا الأقدار قريبين من بعضنا ، فمنحني بعض الوقت مجبراً ، ومن ثم ليمنحني كل الوقت ، وببساطة وبسرعة فهمتُ ، سبب إهمال طه لي ، أو عدم النظر لي بشكل جدي ، عرفتُ كل شيء عندما عرفني على يوسف ، أخيه الأكبر ، فهما أكثر من أخوين ، بل (جمعية) مكتفية بنفسها ومستنفدة الأعضاء والعضوية .
في تلك الأعوام الملتهبة ، أيام الحرب والقمع والدفاع (الكاذب) عن هوية بلا معنى ،كان لابد لنا من طريقة لاجتياز الصحراء ، ومثلما فعل طه ، فعل يوسف ، لكنه سلق الوقت ، مثلما فعل مع حياته التي سلقها سلقاُ سريعاً وأكلها كوجبة سريعة ، بعدها تم قبولي في تلك الثنائية الأخوانية ، عضواً أصيلاً ، وكشفنا أوراقنا ، أحدنا للآخر .
كان يوسف انتقل من (كميت) في (العمارة) ، ابناً أكبر للشيخ طاهر ، رجل الدين في تلك البلدة ، انتقل إلى الوشاش ومن ثم إلى مدينة الثورة وأخيراً في حي أور ، وعندما عرفته ، كان خرج للتو من السجن ، رغم أنه لم يكن شيوعياً ملتزماً ، وكانت مهنته خياطاً و(مقصجي) بارع ، وقد أمتلك معملاً في منطقة (العمار) في الزقاق المتفرع من شارع الرشيد المؤدي لغرفة التجارة ، وهناك كنا نلتقي ، فعرفتُ أن تلك الأخوية المغلقة لها دهاليزها الملتفة مثل شجرة الحياة ، ومن ثم صارت مضاربنا في كل مكان ، وأهمها بيت يوسف نفسه ، الذي كما قلتُ أكثر من مرة ،أنه كان بلا جرس وبلا قفل لبابه ، فكنت وغيري ، نأتي في ساعات الليل ، حتى لو تأخرتْ ، حيث الباب الخارجي المفتوح ومن ثم لندفع الباب الخشبي ، وعلى يمينها ، تكون المائدة بخلودها العامر ، يوسف واقفاً أما يقرأ الشعر أو يشرح أفكاره أو يسخر من (الأخ الأكبر) أو يغني ، وفي زاوية ما ، يجلس طه متيّماً بأخيه ، مكتفياً و نشواناً وسعيداً به ، وكأنه يحتضنه لئلا ينزلق إلى الهاوية .
مرة قال لي طه ، لا أتحمل فكرة موت يوسف ، إذا مات يوسف سألحقه فوراُ . وقد أنهيا كتاب الحياة سريعاً ، وبالأخص يوسف ، فما كان يضيع لحظة ، ولأن العالم حولنا كان مكفهراً ، خرج يوسف بتوليفات وخلاصات بسيطة ، ليهزم هذا العالم ، كنت أختلف مع بعضها ، لكن طه كان يعترض عليها ، فهي تخل ب(النظام الداخلي) لأخويتهما السرية .
أما أنا ، فعثرتُ أخيراُ على تحقيق لنظريتي عن التجاوز ، حيث كان الأخوان يوسف وطه ، يجسدانها في حياتهما السريعة ، وبسرعة وبليلة واحدة ، أنهى يوسف مهمته في هذه الحياة ، فبعد أن ودّع أصدقائه ، نقُل إلى المستشفى ، وعندما وصلني الخبر أسرعتُ إلى هناك ، فوجدتُ يوسف أسلم روحه وأخرج آخر الأسئلة من جوفه الملتهب ، ووقفتُ قرب طه المنكوب وهو يهمس (يا نكّتك يا يوسف) أي يا خيانتك عندما تركتني وحيداً ، وبسرعة رفض طه الحياة ، فأخرج من جيبه ، لعنته أو مرضه القديم ، ولكن بوتيرة أشد ، بل مرعبة ليلحق بخله .
إلى ذكرى يوسف الطاهر وأخيه طه.