لبنان: حملة مسعورة على اللاجئين السوريين والفلسطينيين

[معسكر للاجئين السوريين في عرسال] [معسكر للاجئين السوريين في عرسال]

لبنان: حملة مسعورة على اللاجئين السوريين والفلسطينيين

By : Anton Mukhmedov أنطون مخمدوف

[ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي]

يأتي تهجم وزير الخارجية جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، على اللاجئين السوريين في سياق المزايدة العنصرية في لبنان. فالطبقة السياسية تبحث عن كبش فداء للأزمة الاقتصادية والسياسية التي ترهق البلاد والتي تتحمل هي المسؤولية الكاملة عنها.

تغمر حرارة الصباح “الياسمين”، أحد أكبر مخيمات اللاجئين السوريين بالبقاع الغربي بلبنان. لا يعكر هدوء هذا المكان إلا عبور بعض السيارات، التي لا تتمهل في الغالب وترمي سحابات من الغبار على أطفال يحملون أوعيةً فارغة من البلاستيك لجلب الماء أو يتسكعون فقط على قارعة الطريق.

ينتظم مخيم الياسمين في صفوف متماثلة من الخيم والبيوت الجاهزة يديرها الاتحاد اللبناني للجمعيات الإغاثية والتنموية. وكان هذا المخيم قد أنشئ سنة 2016 بالتنسيق مع وزارة الداخلية ومنظمة الأمم المتحدة. وقد أقيم كحل مؤقت لمواجهة أي نزوح جماعي طارئ لللاجئين بعد عملية الجيش اللبناني ضد تنظيم داعش في شمال لبنان آنذاك. أما اليوم فيستقبل المخيم لاجئين كانوا يقيمون بعرسال وأيضا عائلات معوزة أتت من كل أرجاء منطقة البقاع ، بما في ذلك تلك التي تضررت مخيماتها بشدة بسبب الفيضانات التي أحدثت دمارا بالسهل في يناير/ جانفي من هذه السنة.

شعرت العائلات التي أقامت هنا بالياسمين في البداية بنوع من الاستقرار، فهو أحد المخيمات النادرة في لبنان الذي تتوفر فيها منشأة صحية تعمل بشكل مقبول، بما في ذلك مركز صحي موجود على بعد مائة متر يسيره الاتحاد اللبناني للجمعيات الاغاثية والتنموية. كما ينعم فيه اللاجئون أيضا بحد أدنى من الأمن ومن خزَّانات المياه ومن الكهرباء. ولكن خلال هذا الربيع تعرض المقيمون بالمخيم مرة أخرى للخطر حيث قام الجيش اللبناني بإنزال غير متوقع بالجرافات مهدما أكثر من مائة خيمة ادعى أنها غير مأهولة؛ في حين أن هذه الخِيَم، حسب الاتحاد اللبناني للجمعيات الإغاثية والتنموية، كانت مخصصة للحالات الطارئة. واعتقل العسكر أغلب الرجال الذين كانوا، حسبهم، يفتقدون لتصاريح الإقامة الضرورية. كما هددوا سكان المخيم بالمزيد من عمليات الطرد مستقبلا.

"كل شيء تمام

كما هو الحال بالنسبة لأغلب اللاجئين السوريين بلبنان، تم تهجير سكان مخيم الياسمين عدة مرات منذ بداية الحرب في 2011، ويبقى مستقبلهم غامضا لأنه من المفترض ألا يكون لهم استقرار في بلد ترغب طبقته السياسية في رحيلهم بشكل متزايد. ويتردد اللاجئون في التعليق أمام الصحفيين على المعاملة التي يلقونها من الحكومة اللبنانية. بل وينصح الاتحاد اللبناني للجمعيات الإغاثية والتنموية الصحافيين بعدم طرح أسئلة قد تعرض اللاجئ الذي يجيب عنها إلى خطر أكبر. ويكتفي أغلبهم بالرد على عجل “كل شيء تمام”.

على بعد بضع كيلومترات من هنا، يتحدث سكان مخيم الحمدانية، بالقرب من بلدة المرج، بحرية أكبر عن تجربتهم مع عدائية السلطات. تذكر سيدة طلبت عدم ذكر اسمها غارة حديثة تم خلالها تدمير خِيَم المخيم من طرف “المخابرات”. وهي عبارة تشير على الأرجح في هذا السياق إلى أجهزة المخابرات التابعة للجيش اللبناني. وعبارة “المخابرات” شائعة في سوريا حيث تشير إلى أجهزة أمنية سيئة الصيت بسبب ممارستها للاعتقالات التعسفية وحالات الاختفاء القسري والتعذيب واسع النطاق ضد المعارضين، وهي تثير إحساسا بخوف شديد يلاحق اللاجئين السوريين حتى في لبنان.

ضغط متزايد للحثّ على الرحيل

من إجمالي عدد السكان الذي يفوق 6 ملايين نسمة، تقدر الحكومة اللبنانية أن هناك حوالي 1,5 مليون لاجئ سوري في البلاد، على الرغم من أن المفوضية السامية للاجئين توقفت عن تسجيلهم في 2015 بناء على طلب الحكومة اللبنانية نفسها. يحصل السوريون في لبنان على تراخيص بالعمل أساسا في قطاعي البناء والزراعة، وهم يتلقون أجورا تتضاءل بشكل مستمر لشغل غير قار، موسمي أحياناً، لا يعوض انخفاض المساعدات الدولية. وقد وصل الوضع إلى درجة أن كل أسرة أصبحت مدينة بمبلغ ما معدله الألف دولار أمريكي لتلبية احتياجاتها الأساسية. وذلك وفقا لتقدير 2018 للمفوضية السامية للاجئين حول هشاشة أوضاع السوريين في لبنان.

تقوم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين كل سنة بتحديث هذا التقييم قصد تقديم مساعدة شهرية نقدية ب 175 دولارا أمريكيا إلى “الأسر الأكثر فقرا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي”. وهي عبارة تعني بها المفوضية أولئك الذين يتعذر عليهم “تغطية حاجياتهم الأساسية مثل الغذاء والدواء والإيجار” والذي يعاني بعض أعضائها من مشاكل صحية كبيرة أو إعاقات، كما تشرح ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان. “للأسف، وبسبب محدودية الموارد المتاحة كفّت آلاف الأسر التي كانت تستفيد من المساعدة نقدا عن تلقيها [بعدما قامت الوكالة بآخر تحديث سنة 2018 لقائمة المستفيدين”المعتبرين أكثر احتياجا"] كما أضافت المتحدثة.

وحسب المتحدثة لم يتغير العدد الإجمالي للمستفيدين من المساعدة. ولكن كثيراً من اللاجئين يقولون إنهم لا يفهمون على أي أساس تقوم المؤسسة بانتقاء المستفيدين ويرون في منهجها تعسفاً. فجميلة شولي، التي ترعى طفلها لوحدها بمخيم الياسمين، حيث تقيم منذ أكثر من سنتين، تشتكي من تدهور حالتها الصحية وتؤكد أنه تم إقصاؤها من برنامج المساعدة المالية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وهي تعاني الأمرّين للتوصل لتغطية نفقاتها.

ويقول زهير دحمان: “الأمم المتحدة غير عادلة. إنهم يفرزون من يستحق المساعدة ممن لا يسحقها. إما أن يتلقى الجميع المساعدة المالية أو لا يتلقاها أحد”. هرب السيد دحمان من سوريا في يناير/ جانفي 2013 وهو يدير الآن متجرا بمخيم الحمدانية. “الوضع رهيب. تتشابه السنوات إلى حد ما، ولكن هذه السنة كانت الأسوأ”.

يقول رجل آخر دخل المتجر خلال الحديث وفضل أن لا يذكر اسمه: “لا عمل ولا أمن (في لبنان)” ويقول إنه يعيش فقط على دخل غير منتظم من عمل غير رسمي لأنه لم يتمكن من تسجيل نفسه كلاجئ لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. (وتؤكد الوكالة بأن قرار الحكومة اللبنانية تعليق عملية تسجيل السوريين في 2015 يعقد بصفة كبيرة تقديم المساعدة). يقول الرجل: “أنا آكل فقط إن وجدت عملاً”.

عمليات طرد غير شرعية، وحظر تجول و غارات مستمرة

تتفاوت الأجور وإمكانية العمل كثيرا من منطقة إلى أخرى. ويكسب العامل السوري ما يزيد قليلا عن 200 دولار شهريا في المعدل، وفقا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (تكسب النساء السوريات معدل 92 دولار أمريكي) في حين أن الحد الأدنى لأجور اللبنانيين هو 450 دولارا أمريكيا.

تراكمت على مر السنين الضغوطات الاقتصادية فضلا عن عمليات الطرد من المخيمات والاعتقالات الجماعية، التي لم تعد حالات فردية بل صارت جزءا من قاعدة عمل جديدة. يقول زهير دحمان: “للجيش اللبناني مشكلة مع اللاجئين، فهو يريدهم أن يعودوا الى بلدهم. لكن بلدي غير آمن”.

تجعل الإجراءات المتخذة من طرف الحكومة اللبنانية ضد السوريين، مثل “عمليات الطرد غير القانونية وحظر التجول والغارات المستمرة على مخيماتهم والاعتقالات الجماعية، الحياة لا تطاق بالنسبة لكثير من اللاجئين كما تجبر الكثير على العودة إلى سوريا”، هذا ما تؤكده أيضا ديانا سمعان، الباحثة لدى منظمة العفو الدولية في سوريا. في أبريل/ نيسان 2019 أبلغت الحكومة اللاجئين في بلدية عرسال بضرورة امتثالهم لقانون سابق يحظر بناء الملاجئ الدائمة بالحجر أو الخرسانة قبل تاريخ 9 يونيو/حزيران وانه سيتم بعد ذلك تدميرها من طرف الجيش. وكانت آنذاك المنظمة غير الحكومية لإنقاذ الطفولة (سايف ذ تشيلدرن) قد حذرت من أن هذا القرار قد يجعل آلاف الأطفال بلا مأوى. وقد قام العديد من اللاجئين على مضض بتولي الأمر بأنفسهم، فهدموا الجدران التي كانوا قد شيدوها، في غياب حل آخر. بعد أن أجل تاريخ التنفيذ، عاد الجيش في بداية جوان إلى المخيمات ليقوم بتدمير ما لا يقل عن 20 منزلا

وحدة اللبنانية “الجينية

يتم في الغالب تبرير هذه الإجراءات بخطاب يؤكد بأن لبنان ليس بلد لجوء، وأنه ليس للسوريين ما يخشونه بالعودة إلى وطنهم وأن وجودهم بلبنان مضر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وحتى الديمغرافي. هذه العناصر الخطابية كثيرا ما يتم تضخيمها من قبل بعض للأطراف في الطبقة السياسية اللبنانية ومنهم وزير شؤون اللاجئين صلاح الغريب، الذي يرى أن النظام السوري قد انتصر في الحرب وأن الظروف مؤاتية لعودة سريعة لكل اللاجئين إلى سوريا. ولكن أول مؤيدي هذا الرأي هو دون شك وزير الشؤون الخارجية، جبران باسيل. وكثيرا ما دافع باسيل، الذي يرأس التيار الوطني الحر، التابع لرئيس الجمهورية ميشال عون، عن قانون يسمح للنساء اللبنانيات المتزوجات من أجانب أن يمنحن جنسيتهن لأبنائهن... إلا إذا كان الزوج سوريا أو فلسطينيا.

خلال مداخلة له في “مؤتمر الطاقة الاغترابية اللبنانية” في 7 يونيو / جوان الماضي وبحضور الرئيس عون أعلن السيد باسيل: “من الطبيعي أن ندافع عن اليد العاملة اللبنانية بوجه أي يد عاملة أخرى، أكانت سورية فلسطينية فرنسية سعودية إيرانية أو أمريكية، فاللبناني قبل الكل”، مضيفا أن السوريين في لبنان لا يدفعون أية ضريبة.

وفي نفس اليوم أطلق تغريدة على التويتر يقول فيها “‏لقد كرّسنا مفهوماً لانتمائنا اللبناني هو فوق اي انتماء آخر، وقلنا انه جينيّ وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معاً، لتحملنا وتأقلمنا معاً، لمرونتنا وصلابتنا معاً، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معاً من جهة وعلى رفض النزوح واللجوء معاً من جهة أخرى”. وفي اليوم التالي قام ببث شريط فيديو لأنصاره يطالبون السوريين العاملين في لبنان بالعودة إلى سوريا. على الرغم من إعراب سياسيين آخرين عن وجهات نظر مشابهة منذ مدة طويلة وتفاقم الأفكار المسبقة عن السوريين على مر السنين، فإن نشطاء المجتمع المدني وجيل من الشباب اللبناني قد سئموا من روايات كره الأجانب التي تجعل من اللاجئين كبش فداء لتبرير المشاكل الاقتصادية والسياسية للبلاد. وقد كانوا وراء موجة من الاستنكار وحملة ضد خطب الكراهية، كما أنشأوا هاشتاغ وعريضة تلقت ما يقارب 20 ألف توقيع منادية باستقالة جبران باسيل (على الرغم من أن البعض أطلق في المقابل هاشتاغ “أنا مع باسيل”).

الأثر الإيجابي على الاقتصاد

كما أدينت أيضا تصريحات باسيل من طرف زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي، وليد جنبلاط والنائبة المستقلة بولا يعقوبيان وكذلك العديد من الفنانين والصحافيين والمثقفين اللبنانيين. في إشارة مباشرة إلى هذا الجدال أكد وزير العمل كميل أبو سليمان، المنتسب إلى حزب القوات اللبنانية، بأن العنصرية ليست من أساليب القوات اللبنانية لحل مشكلة البطالة؛ ومع ذلك دعا إلى زيادة المراقبة على الشركات التي توظف عمالا أجانب بشكل غير قانوني، فيما يشجع دون شك فرض قيود إضافية على سبل عيشهم.

في مواجهة هذه الخطابات تم تأسيس مبادرة /اللاجئون شركاء/ في 2018 من قبل المركز السوري لبحوث السياسات والجمعية الاقتصادية اللبنانية للدفاع عن “مساحة كرامة” للاجئين السوريين في لبنان، كما طرحوا أيضا مقاربة للجانب الاقتصادي ل “أزمة” اللاجئين ترتكز على تجميع البيانات.

تقول فاطمة إبراهيم، مديرة مشروع /اللاجئون شركاء/ بأنه “تم تحميل اللاجئين مسؤولية تدهور الاقتصاد في حين أنهم في الواقع كانوا دعما للاقتصاد اللبناني خلال فترة صعبة، كانت فيها السياحة في أدنى مستوياتها وكانت الصادرات في تراجع”. أصحاب مبادرة /اللاجئون شركاء/ وإيمانا منهم بأن اللاجئين السوريين كان لهم الأثر الإيجابي على النشاط الاقتصادي في لبنان وأن ذلك في معظمه لم يؤخذ بعين الاعتبار، يعملون عبر وسائل الاتصال الاجتماعي على جذب انتباه الجمهور للجوانب الايجابية غير المعروفة لوجود اللاجئين في البلاد.

فعلى سبيل المثال سمح التدفق الكبير للاجئين السوريين في خلق 10 آلاف فرصة عمل على الأقل في السنة، كما ساهم بشكل كبير في زيادة معدل الاشتراك في الهاتف في لبنان الذي تضاعف تقريبا بين 2010 و2017.

وترى فاطمة إبراهيم أنه بدلا من معاقبة العمال السوريين، على الحكومة اللبنانية أن تعمل على تنظيم أوضاعهم حسب القانون من حيث الإقامة العمل، فالسوريين يوظفون في معظمهم بشكل غير رسمي، وهم مهددون باستمرار بانتهاك حقوقهم. كما أن تسعيرة تصاريح الإقامة مرتفعة للغاية وبات من الصعب تجديدها بالنسبة للاجئين.

ومع ذلك تبقى هذه الرسالة الايجابية بخصوص اللاجئين صعبة التمرير في بلد يرفض اعتبار نفسه وجهة أخيرة للاجئي المنطقة، وهو السبب الذي جعل من لبنان يرفض التوقيع على اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين.

البقاء أم الرحيل؟

من غير المستغرب إذا أن يميل عدد متزايد من اللاجئين إلى اختيار العودة إلى سوريا. ففي آذار/ مارس 2019، أعلنت الحكومة اللبنانية أن أكثر من 170 ألف لاجئ عادوا إلى سوريا في إطار برنامج العودة “الطوعية” الذي نظمه الأمن العام. ويمكن أن ينضم إليه كثيرون آخرون لأن العقبات التي تحول دون إقامتهم من غير المرجح أن تختفي.

تقول ديانا سمعان الباحثة في منظمة العفو الدولية: “لقد فشل المجتمع الدولي في توفير تمويل كاف للخطة الإقليمية للاجئين ودعم قدرتهم على التكيف مما أحدث فجوة في توفير المساعدة والخدمات الضرورية للسكان اللاجئين”.

يعيش أكثر من نصف عدد الأسر السورية في لبنان في فقر مدقع، حيث تنفق أقل من 2,90 دولار أمريكي يوميا وتستدين معظمها من أجل الغذاء فقط ؛ ويرى بعض هذه العائلات أن تجربة الحظ والعودة إلى الديار تستحق المغامرة. وتبقى العودة محفوفة بالمخاطر لأسباب أخرى كثيرة. منظمة العفو الدولية التي أقلقها العداء السياسي المتزايد ضد السوريين في لبنان، نشرت في منتصف شهر يوليو/ جويلية مقالا على شكل “س ـ ج” منبهة إلى أن مسألة عودة اللاجئين إلى سوريا “سابقة لأوانها”. وأكدت أن اللاجئين في لبنان ليس بمقدورهم بعد “اتخاذ قراراتهم بحرية”. تقول ديانا سمعان بأن اللاجئين الذين يختارون العودة إلى سوريا “يعودون إلى المجهول”. وهي ترى أن الخطر الأكبر بالنسبة لهم يأتي من قوات الأمن السورية، المسؤولة عن عمليات الاختفاء والتعذيب والإعدامات خارج نطاق القضاء لمعارضين مزعومين لحكومة بشار الأسد؛ تقوم هذه القوات ب “فحص أمني” لكل الذين يحاولون العودة إلى ديارهم. وتشير الباحثة في منظمة العفو الدولية أيضا إلى غياب الترتيبات الإنسانية، لأن المعونات التي تقدمها المنظمات الدولية كثيرا ما تتم عرقلتها أو تأخيرها من طرف الحكومة السورية.

في الواقع فإن بعض السوريين الذين عادوا بالفعل إلى بلادهم ـ وبالتالي اتخذ الأمن العام اللبناني بشأنهم قرار حظر مؤقت أو دائم للعودة بالعودةـ وجدوا أنفسهم مجبرين مرة أخرى على الفرار من بلادهم، كما يشير إلى ذلك تقرير المنظمة غير الحكومية /سوا/ للتنمية والإغاثة الذي نشر سابقا خلال هذه السنة. يقول عمر عبد الله، منسق برنامج المعيشة ل/سوا/ : “يرغب الكثير (من اللاجئين) في العودة إلى ديارهم، ويرغب الكثير في البقاء”. توسعت على مر السنين أنشطة /سوا/، ويوفر قسمها لسبل العيش الآن للسوريين المعوزين تكوينا مهنيا وفرصاً لتوفير الدخل. ويشارك حاليا أكثر من 90 لاجئا في مشاريع مختلفة تدر عليهم دخلا شهريا. وأقام مؤخرا أحد هذه المشاريع /ماستر بيس/ شراكة مع مصمم أزياء لبناني لإتاحة الفرصة أمام النساء السوريات لبيع إبداعاتهن من المشغولات الخشبية وأزيائهن الخاصة.

وعبد الله هو نفسه سوري، وعندما وصل إلى لبنان قادما من مدينة الزبداني عمل أولا مع منظمة إنقاذ الطفولة حتى التحاقه بمنظمة /سوا/ منذ عامين. وبقي في هذه المنظمة التي يعتبرها “مثل العائلة”. يشرح عبد الله: “يوفر برنامج المعيشة لدينا للسوريين الحافز والثقة في النفس، عبر عملهم واتكالهم على أنفسهم. فهم في حاجة إلى الاحساس بأنهم منتجون حتى ولو كانوا في المهجر، كي يسترجعوا استقلاليتهم”.

من غير الممكن أن تتمكن منظمات غير حكومية صغيرة مثل /سوا/ من الوقوف في وجه المد المتزايد من السياسات المعادية للاجئين في لبنان. ولكن مبادرات المجتمع المدني هذه لها دور في تلطيف صورة بلاد تبدو من دونها غير مضيافة على الإطلاق. من الناحية المثالية يقول عبد الله: “نريد البقاء مع الشعب اللبناني” مضيفا أنه حتى وإن عاد اللاجئون (الذين استفادوا من برامج المعيشة هذه) إلى سوريا فلن يكونوا أكثر ضعفا مما كانوا عليه عند ذهابهم الأول. سيحتفظون بكونهم كبروا في بيئة لبنانية".

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬