لم تكن جوهانسبرغ بالمدينة العادية، كل شيء هنا له قصته الخاصة، تُدهشك الأشياء بطرقٍ لم تكن لتتوقعها في كل مرة، تُولِّد المدينة بداخلك شعورًا لم تعتد عليه من قبل، هذا الهدوء الذي يُخيّم على كل مكان فيها لم يكن بنفس الحال قبل عشرين عامًا فقط. كانت المدينة بل البلاد كلها عبارة عن انتفاضاتٍ مستمرة ضد الاستعمار، وسعيُ لا ينقطع من الناس نحو حريتهم المنشودة. فالشعور بالظلم لم يكن وحده فقط الذي يحتل مشاعر أصحاب البلاد ويدمر أحلامهم، بل كان الشعور بالعبودية هو الآخر يلاحقهم في تفاصيل يومهم وحركتهم القائمين على الفصل العنصري وتفضيل الرجل الأبيض عن الأسود حتى في ظروف السجن.
عنصرية في السجون
زرنا ضمن رحلتنا إلى جوهانسبرغ السجون التي استخدمها البيض لسجن السود فترة الفصل العنصري، تحولت هذه السجون لاحقًا إلى متاحف يقصدها الزوار للتعرف على التاريخ السيء للاستعمار في جنوب أفريقيا، وقصدنا أولًا مقر المحكمة الدستورية في ضاحية هيلبرو في الطرف الغربي من المدينة، كان هذا المقر حصنًا عسكريًا لإيواء المساجين البيض بشكل خاص، حتى البيض الذين كانوا يدعمون نضال السود كانوا يسجنون لكن في ظروف سجن أخرى تميزهم عن السود.
عند مدخل السجن توجد عدة زنازين قائمة بوحدها، إحداها تلك التي سُجن فيها الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا يخرج منها تسجيلات صوتية لكلماته ضد نظام الفصل العنصري، وفي مقابل تلك الزنازين توجد بوابة المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا التي أنشئت عام 1995 لتعلن بداية حقبة جديدة من "التعايش" وتنهي دور المحكمة الدستورية القديمة التي كانت تمثل البيض فقط، وكانت أول قضية نوقشت بها في فبراير 1995 هي دستورية حكم الإعدام في جنوب إفريقيا، وخلصت المحكمة إلى أنها عقوبة غير دستورية بالفعل وتم إلغاء العمل بها.
داخل المحكمة يوجد نوافذ صغيرة منخفضة تُظهر أقدام من يمرون بجانبها، لتدل على أن جميع الناس سواسية أمام القانون دون تمييز بين جنسهم وعرقهم ولونهم، وبداخلها علم جنوب أفريقيا الكبير ذو الألوان الستة التي ترمز إلى معانٍ مختلفة في البلاد، حيث يرمز الأحمر إلى الدم الأفريقي، والأسود للوحدة والأخضر للأرض والأزرق للمحيطات التي تحيط البلاد، والذهبي للمعادن المدفونة في باطن أرضهم، أمّا اللون الأبيض فيرمز للنقاء الذي يجب أن يكون لدى الشعب الجنوب أفريقي.
تاريخ في متحف
خلف منتزه وحدائق "غولد ريف سيتي" المطلة على أحياء جوهانسبرغ الفقيرة وعلى بعد دقائق من مركز الأعمال في المدينة، يبرز مبنى خرساني ضخم يختصر تاريخ الفصل العنصري في البلاد، ويؤرخ المراحل المختلفة التي مرت بها من النضال ضد الاستعمار إلى الحصول على الحرية ولو بشكلها النسبي، ويخلّد تضحيات سنوات الكفاح الطويلة.
هناك ممران عند باب متحف التمييز العنصري "Apartheid Museum"، واحدٌ للبيض وآخر للسود، ليذكر الزائر بزمن الفصل العنصري، يمر الزائر من خلالها بسلسلة من 22 منطقة عرض فردية تصحبه في رحلة عاطفية مثيرة تحكي قصة نظام الدولة المعتمد على التمييز العنصري ونضال الأغلبية للإطاحة بهذا الطغيان، ويعد المتحف منارة أمل تُظهر للعالم كيف تتعامل جنوب إفريقيا مع ماضيها القمعي وتحاول العمل من أجل مستقبلٍ يمكن لجميع الجنوب إفريقيين أن يكونوا جزءًا منه.
يقرأ زوار المتحف يوميات السجناء خلال تجولهم بداخله، ويلاحظون طرقهم المختلفة في التعبير عن مُضي الساعات المُرة داخل السجون من خلال أشغالهم اليدوية ورسوماتهم ومقتنياتهم الشخصية، كذلك يمكنهم الاطلاع على محاضر التحقيق الخاصة بهم والعقوبات التي تعرضوا لها لاسيما عقوبة الإعدام، بالإضافة إلى صور تاريخية من التظاهرات ضد الاستعمار وأفلام وثائقية تستعرض ذلك الزمن، كذلك يتضمن المتحف نماذج لغرف السجن الانفرادي الذي سُجن به الآلاف من الشعب الجنوب إفريقي وقادة نضالهم.
أليكساندرا المُهمشة
بعيدًا عن المتاحف والسجون، زرنا بلدة أليكساندرا التي تبعد 13 كيلومتر من شمال شرق جوهانسبرغ، وكان إضرابًا ضد رئيس البلدية قد بدأ قبل يومين من زيارتنا لها، يطالب عبر سكان البلدة بتوفير فرص عمل لهم في ظل أوضاع سيئة يعيشونها، كانوا قد أشعلوا إطارات السيارات في المطاطية في منتصف الشوارع متأهبين للمطالبة بحياة كريمة كالتي يعشها السكان في مركز الأعمال على مشارف المدينة.
توجهنا إلى حيٍ صغير يطل على نهرٍ من مياه الصرف الصحي، يسكن آلاف الناس على ضفتيه في بيوت من الصفيح مبنية على الرمل مباشرة ومتراصة بجانب بعضها البعض، لا يوجد بها دورات للمياه ويتجمع السكان كلهم أمام خمس دورات مياه عمومية على حافة الحي لقضاء حاجتهم، لكن، على بعد خمسين مترًا منهم بالضبط يسكن آخرون في مجمعات سكنية منظمة ومؤهلة للعيش الكريم بمرافقها من منتزهات وأماكن للعب الأطفال يغطيها الخضار، ظننا للمرة الأولى أنها تجمعات للسكان البيض كما العادة، لكن تعرفنا أن سكانها من السود الذين خدموا ضمن نظام الفصل العنصري وكانوا أدوات في أيدي الاستعمار، كان هذا المشهد كافيًا للتأمل في نتائج نظام الفصل العنصري وانعكاسه على تفاصيل الحياة في البلاد، فجماعتين من السود تعيشان تحت نفس السماء لكن أحدهم الأرض من تحته جنة والآخر من تحته نار، وعلى بعد كيلو مترات قليلة يعيش "إفريقي" آخر أبيض اللون لا يخطر الطرفين على باله حتى.
محاولة فهم
عرّفتنا الزيارة على الكثير من حقيقة تاريخ جنوب إفريقيا وحاضرها، وظلّت بعض الأسئلة تحتاج إلى إجابة خاصة تلك التي تتعلق بعلاقة البيض الجنوب إفريقيين حاليًا بالأرض ونظرة السود إليهم بعد نهاية نظام الفصل العنصري في البلاد عام 1994، وكيف يمكن للغالبية السوداء القبول بظروف معيشية صعبة في دولتهم الغنية بالخيرات المسيطر عليها من الأقلية البيضاء البيض، فهناك يعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وانعدام المساواة في مجالات كثيرة منها مقدار الكسب، حيث يمثل متوسط الأجر الشهري عند الأقلية البيضاء 10000 راند (نحو 627 يورو)، مقابل 2800 راند (175 يورو) لأغلبية السكان السود في البلاد، وغيرها من التفاصيل.
لذلك، لم تتوقف الحراكات والمبادرات الشبابية الجنوب إفريقية تعمل لأجل تغيير هذا الحال وإكمال مسيرتهم نحو الحرية والعيش بحياة جيدة في بلادهم الكبيرة.
[للإطلاع على الجزء الأول، اضغظ/ي هنا]