الانتخابات في العراق : إعادة تشغيل بطريقة مختلفة

[المصدر: موقع إرم نيوز] [المصدر: موقع إرم نيوز]

الانتخابات في العراق : إعادة تشغيل بطريقة مختلفة

By : Muntasir al-Aydani د.منتصر العيداني

شهد العراق منذ العام 2003 وحتى اليوم (ثمانية) انتخابات تشريعية على الصعيدين المحلي والوطني، باستثناء إقليم كردستان. وهي انتخابات لم تفض إلى مسارات تخرج النظام من أزماته المتوالية كما هو مفترض من المخرجات الانتخابية. ودائماً مايجري البحث عن معالجات تنحصر في النظام الانتخابي ( قانون الانتخابات إدارة الانتخابات، طرق التصويت، نظام توزيع المقاعد، الإئتلافات والقوائم الانتخابية ..الخ) ولا يتم التطرق كثيراً إلى الهيئة الانتخابية، والسلوك التصويتي للناخبين. فبالرغم من اختلاف القوانين الانتخابية المتبعة، و نظم الانتخاب المتعددة، ونسب المشاركة المتباينة في الانتخابات العراقية، إلا أننا نشهد في كل مرة مايعرف بأزمة مابعد الانتخابات. وهي أزمة ناتجة عن عوامل متعددة. إلا أن من بين العوامل الهامة التي لم تحظ بالاهتمام الكافي هو أنها انتخابات بلا مضمون انتخابي. بمعنى أن خيارات الناخب لا ترتبط غالباً بأي صلة بالبرامج الانتخابية للمرشحين، ولا حتى التوجه السياسي - الفكري للمرشحين كمعايير للتصويت كما يجري في دول العالم. رغم أن العراق بلد ذا تجربة حزبية مبكرة في المنطقة. وهذا الواقع شخصته القوى السياسية التي لم تول اهتماماً حقيقياً ببرامجها الانتخابية. إذ أصبحت تلك البرامج متشابهة إذا لم تكن متطابقة في الأعم الأغلب. فضلاً عن ذلك، وارتباطاً معه، عدم تمتع الكيانات السياسية والمرشحين بالمعايير السياسية والتوجهات الفكرية الخاصة لأنها لاتشكل حاجة وظيفية في التمثيل الشعبي أو الانتخابي، قدر ما تتطلبه من مقولات و سلوكيات أخرى .

لذا ينبغي السؤال هنا كيف يبني الناخب العراقي تفضيلاته الانتخابية؟ ودون الخوض في نظريات السلوك التصويتي، أو علم السلوك الانتخابي، يمكننا أن نعتمد منهج الملاحظة بالمشاركة، لاسيما أننا ندرس تجربة معاصرة للكاتب والقارئ معاً. وفي البدء ينبغي الإشارة إلى أن تحليل سلوك الناخبين العراقيين اعتمد لمرحلة معينة على تأثير العامل الإثني (الطائفي-العرقي) نتيجة تصاعد التوترات والصراعات آنذاك. إلا أن ذلك العامل لم يعد بمفرده كافياً لتفسير السلوك الانتخابي الذي بقي محتفظا بسماته الاساسية – كما سنلاحظ – بعد تراجع تلك التأثيرات وتغير الظروف والأوضاع السياسية بنسبة ما لاحقاً. وكذلك لايفسر هذا العامل الخيارات الانتخابية على صعيد انتخاب مرشحين لا يتمتعون بأي مؤهلات أو سمات ذي شأن في الغالب وإن كانت تلك الخيارات ضمن نفس الإطار الطائفي– العرقي، مع وجود استثناءات محدودة لا يعول عليها . و لغرض استقراء عوامل السلوك التصويتي للناخبين ينبغي ملاحظة  الحملات الانتخابية للمرشحين والقوى السياسية. والتي يمكن أن تكشف لنا عن طبيعة سلوك الناخبين. لذا، وبعيداً عن الخطابات السياسية والمهرجانات الانتخابية التي لايستمع فيها الحاضرون لما يقال، أو لا يولون الأهمية لذلك، قدر ما يصفقون، ويلوحون بالتأييد، ويحاولون جاهدين مصافحة القادة والمرشحين، و التقاط الصور معهم  لإبراز حضورهم، والتعبير عمّا يحطون به من تقدير من قبل المرشحين، وإثباتا لصلتهم بهذه الشخصيات السياسية التي تظهر اهتمامها الزائف في الغالب. الأمر الذي يعرفه الناخبون بشكل مؤكد نتيجة تجارب عديدة سابقة. لذا وفي هذا سياق تبرز لنا عدة آليات تعتمدها الحملات في التعبئة الانتخابية أولها اعتماد أسلوب الإيهام المتبادل من خلال الوعود الانتخابية، والأدق، الإغراءات الشخصية للناخبين. تلك الوعود/ الإغراءات التي تفتقر إلى المصداقية منطقاً وحكماً. ذلك أن أغلب المطالب التي يقدمها الناخبين -كما هو معروف سلفاً- هي مطالب شخصية وليست عامة، مثل الحصول على فرصة عمل، أو خدمات ومنافع خاصة، لا تتعلق بوظيفة المشرعين أساسا على الصعيدين المحلي والوطني، و لا صلة لها بالبرامج الانتخابية التي لايهتم بها ولا يعول عليها أي طرف كما ذكرنا. لذا فهي وعود معروف سلفاً من الطرفين (المرشح/الناخب) بأنها غير موثوقة بالمرة. وإذا ماتحقق بعضها لاحقاً بفعل التأثير السياسي أو الصلات الحزبية للمرشحين/النواب فهو سيشمل المقربين والحلقة الخاصة من الأتباع حصراً، أو بنسبة شبه حصرية في أفضل الأحوال، الأمر الذي يدركه الناخبون. لذا فأنه تحايل مقبول سلفاً من الطرفين، إلا أنه مبرر من زوايا أخرى. فالناخب يدرك أن لاسبيل آخر متاحاً لإيصال أو الحصول على مطالبه، بسبب احتكار الدولة من قبل القوى والأطراف السياسية. فضلاً عن أن أغلب تلك المطالب تعتمد الوساطة. بمعنى أنها و إن كانت مشروعة فأنها غير نظامية. وبالتالي لاسبيل لتحقيقها إلا عبر هذا الأسلوب بصرف النظر عن أي فرصة بالنجاح. وهو أسلوب ينطبق عليه المثل الشعبي العراقي المعروف "إلقاء حجر في الظلام." أما المرشحين، ومع إدراكهم لما تقدم، و إدراكهم بمعرفة الناخبين بذلك غالباً، حتى وإن كانوا من البسطاء الذين لم يبقوا حجرا ًلم يلقوه في الظلام دون نتيجة، إلا أنهم يوظفون هذا التخادم الواهن والوهمي في تحشيد الجمهور للمهرجانات الانتخابية كضرورة لابد منها، وكأسلوب لا بديل عنه. أي كمن يرمي شباكه في النهر لعلها  تلتقط  أي سمكة حائرة. وما أكثر تلك الاسماك في مياه السياسة الآسنة والراكدة في العراق. ومع ذلك فأن صيدهم لا يكون وفيراً في الغالب. ذلك أن الحصص الكبرى محجوزة سلفاً في نظام المحاصصة وفي التوجهات الأساسية للجمهور. وإن كان هناك تغير بنسبة ما كما سبق ذكره. وأحد أمثلة تلك العلاقة الملتبسة بين الناخبين والمرشحين هي أن الإعلانات الانتخابية لم تحقق أي تأثير ذي أهمية في التعبئة الانتخابية غالباً. حيث أنفق بعض المرشحين مبالغ طائلة على تلك الإعلانات دون أي تأثير واضح على النتائج التي بقيت مرتبطة بعوامل أخرى كان فيها الدور الحاسم للاتصالات شخصية كما في مثالنا هذا. ويتمثل بصورة شائعة في استلام ملفات الطلبات الشخصية من الناخبين  التي وجد أغلبها مرمياً في مكب النفايات بعد الانتخابات كما كشفته وسائل الاعلام .

أما الآلية الثانية المتبعة في الحملات الانتخابية فهي توظيف الحاجة لتقدير الذات، أو الوجاهة الاجتماعية. فمن المعلوم أن القوى السياسية العراقية الحالية ذات طابع شعبوي في الغالب. لذا فأن قواعدها ومجال تحركها يقع غالبا في أوساط الطبقات الفقيرة والبسطاء وغير المتعلمين، وأكثرهم من سكان الريف والمناطق المتريفة في المدن. و يضم لهم الطاعنون في السن من الشيوخ والعجائز. وهؤلاء هم أغلبية المقترعين كما أظهرت التجارب الانتخابية السابقة. بكلمة أخرى الأشخاص الأدنى أو الأضعف مكانة في المجتمع، والمتشبعين بالثقافة الرعوية، وهي الثقافة السائدة في المجتمعات التقليدية، كالعراق. ومن سمات هذه المجتمعات أنها تقوم على مايسميه ماكس فيبر بجماعات المنزلة، تلك الجماعات التي تعتمد في وجودها على القيمة الاجتماعية (الوجاهة)، و هي صفة وراثية، أو هبة ومنحة من كبار المجتمع والدولة، تضفي على صاحبها مكانة متميزة. ويكون ذا كلمة مسموعة تتيح له إقامة علاقات رفيعة وواسعة، و تعود عليه بمنافع مادية أو معنوية.  لذا تعد السبيل المتاح للتدرج أو الصعود الاجتماعي في هذه المجتمعات، الأمر الذي تم توظيفه سياسياً من قبل الأنظمة السابقة بطريقة أو أخرى. ودرجت عليه الطبقة السياسية الحالية كآلية للتعبئة السياسية والانتخابية، اذ تتضمن الحملات الانتخابية الإيحاء بتزكية أشخاص لا يتمتعون بأي مكانة عبر إظهارهم كوكلاء للمرشحين – ثانويين أو أساسيين-، أو يلعبون هذا الدور باصطناع التقارب معهم، أو تكليفهم بمهام انتخابية لضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جانب سيكون هؤلاء الوجهاء المصطنعين أكثر طاعة وخضوعاً وتنفيذا لكل مايطلب منهم، حتى إذا كان خداعاً وتلاعباً بمشاعر الجمهور، وهو الغالب. إذ أنهم على استعداد لتقديم كل شيئ للظفر بتلك المكانة، دون اعتبار لأدنى صدقية أو سمعة أو تاريخ لا يتمتعون به أساساً. بمعنى أنهم إذا لم يربحوا الكثير، فأنهم بالمقابل لن يخسروا الكثير. ومن جانب آخر فإن ذلك سيكون تحدياً للوجهاء الحقيقين الذين يسعون للاحتفاظ بمراكزهم وتعزيزها  أمام هذه الأساليب. لذا فأنهم إما سيسعون للالتحاق بركب المرشحين والمسؤولين، أو الانزواء وخسارة مكانتهم بقدر أو بآخر، مؤقتاً أو بشكل دائم. ومن شواهد هذا الواقع أن اغلب حواشي المسؤولين أو المرشحين هم من النماذج الأدنى مكانة في الأساس، الذين لا يتمتع أغلبهم بأي صفات مكتسبة أو موروثة ذات شأن. ولا يمتلكون سابقاً أي تحصيل دراسي ذي قيمة، أو من الفئات الشعبية المسحوقة، حتى أن بعضهم من المشبوهين وأرباب السوابق، الأسلوب الذي  يعود بمنافع على المرشحين. حيث يظهرون أنفسهم كطوق نجاة للبسطاء والبؤساء، والأقرب لمعاناتهم، و الأقدر على انتشالهم من الواقع المرير. وهو واقع الشرائح الأوسع من المجتمع العراقي في ظل الأوضاع المتردية للبلاد على كل المستويات. أخيراً، فأن التحليل السابق لا ينطبق فقط على الأشخاص المغمورين تماماً كما يوحي الوصف، بل يشمل الأدنى مرتبة بشكل عام كالوجهاء و الشيوخ و رجال الدين الأقل نفوذاً و مكانة .

إن هذا المقال لايتسع حتما لتناول كل الآليات والأساليب المتبعة في الحملات الانتخابية في محاولة لتفسير السلوك الانتخابي، بقدر ما يلقي الضوء على جانب منها. إلا أن السؤال هنا، إلى أي حد ينطبق هذا التصور على جمهور الناخبين أو غالبيتهم؟ ثم ماهي الحلول للخروج من هذا المسار الأعوج، والذي يخرج الانتخابات عن مضمونها ووظيفتها؟ وللإجابة على السؤال الاول، يمكن القول بدءا أن التعميم على وجه الإطلاق لا يتوافق والمنطق العلمي، فلكل انتخابات ظروفها وأوضاعها، ناهيك عن توجيه العديد من الطعون لنتائج الانتخابات من قبل القادة والقوى السياسية والمراقبين. كان آخرها وأبرزها اتهام رئيس الوزراء السابق د.حيدر العبادي بحدوث "خروقات جسيمة" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت أثناء ولايته في 12 أيار/2018، وما أعقب ذلك من إحالة أعضاء من مفوضية الانتخابات للقضاء بعد توصيات لجنة وزارية أثبتت وقوع مخالفات وفساد مالي في الانتخابات البرلمانية. ثم احتراق أكبر مخازن لصناديق الاقتراع وسط بغداد. لذا فأن نتائج الانتخابات لايمكن التعويل عليها بالكامل. لكنها ليست خاطئة بالكامل كذلك، فمع الإقرار بأن أغلبية العراقيين غير متحزبين بالمعنى العضوي، إلا أن قطاعات شعبية عديدة و كبيرة لديها ولاءات أو ميول سياسية/حزبية ثابتة، أو شبه ثابتة. كجمهور التيار الصدري وبعض الأحزاب الكردية مثلا. ويتداخل مع تلك الميول  تأثير العوامل الدينية/ المذهبية، والقبلية، والمناطقية على السلوك الانتخابي للجمهور. وهي تأثيرات واضحة ومؤكدة كذلك، إذ تتطابق مع نسبة غير قليلة من النتائج. إلا أن العوامل البنيوية ليست كافية في تفسير السلوك الانتخابي. فهي أولا ليست محصنة من التأثيرات غير المباشرة. ثانياً هي ليست مرتبطة بالضرورة وفي كل الاحوال بأشخاص محددين أو كيانات سياسية محددة –بروز قوى وشخصيات جديدة. ثالثاً، إن تلك العوامل تمثل في بعض الأحيان ترميزاً اجتماعياً، وليس هوية سياسية  بالضرورة. رابعاً، هناك بيئات غير متجانسة في عدد من مناطق العراق، ناهيك عن الاهتمام أو الدافع للمشاركة أساساً، والذي شهد تراجعاً كبيراً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، على سبيل المثال، بالاضافة إلى تأثير العوامل الظرفية والأوضاع الاقتصادية التي تلعب دوراً مهما كذلك. ويأتي في قلب كل ما تقدم سوسيولوجيا الشخصية العراقية، وكيفية تعامل الأحزاب وقادتها مع الجمهور، أي كيفية إدامة وتفعيل العوامل البنيوية , أو العكس في تقليص و تراجع تأثيرها بنسبة ما .

استطرادا مع ماتقدم ، قد يتسأل البعض، ما مدى ارتباط القراءة السابقة بلغة الأرقام أو التحليل الإحصائي/الكمي كأحد المنهجيات التحليلية المتبعة في قياس توجهات الرأي العام والسلوك الانتخابي. وهنا من الضروري أن نبين أن المؤشرات الكمية ترتبط في دلالاتها بالنسق القيمي للمجتمعات، لذا تكون ذات قدرة تفسيرية أكبر في المجتمعات التي ترتبط تصورات جمهورها غالبا بالتقييمات المنطقية/السببية، بينما تتراجع تلك القدرة التحليلية في المجتمعات ذات الثقافة الجمعية، والأحكام القبلية، والأفكار النمطية. إلا أن إهمال التحليل الإحصائي/ الكمي بالكامل ليس صحيحا كذلك. والأسلوب الأنسب من وجهة نظرنا هو الربط بين المؤشرات الكمية والطريقة الاستقرائية في التحليل .

ودون الخوض في تضارب التقديرات الإحصائية/الكمية وصدقيتها، يمكننا وضع معادلة تربط بين نسبة المشاركة ومستوى الاستقطاب اعتمادا على فرضية أن الاستقطاب الطائفي/العرقي يمثل العامل الأكثر تأثيراً و استمراراً حتى الآن. لذا فهناك ترابط مهم بين نسبة المشاركة ومستوى الاستقطاب. فإذا كان متوسط أعلى نسب المشاركة في الانتخابات العراقية يقع بين 60- 70%، و متوسط أدنى نسب للمشاركة يقع بين 30- 40%،  لذا فأن تأثير العوامل البنيوية على السلوك التصويتي للناخبين قد تراجع بنسبة 30%، وهي نسبة لا يفسرها بروز ثقافة سياسية جديدة أو إدراك مختلف بنفس القدر. وقد تكون تحولاً مضمراً لامجال لبروزه حالياً. إنما تفسر من وجهة نظرنا، وفي جانب منها، من خلال التراجع في التعويل على تلك العوامل البنيوية المجردة بقدر ما، مقابل تقدم في نسبة الاعتماد على الدوافع التخادمية - الشخصية بالقدر ذاته. فكلما كانت الأنظمة والمجتمعات أقل حرية، وكلما كانت ذات موروث اجتماعي تاريخي سلطوي، كلما تزداد حاجة الافراد والجماعات للتكيف الوظيفي من خلال وسائل دفاعية أبرزها أساليب التملق والتزلف والرياء. و دليل ذلك أن الخيارات الانتخابية للجمهور، و حتى المغايرة منها، لازالت غير عقلانية غالباً كما تظهر نتائج الانتخابات التي لاترتبط بالبرامج، ولا بتقييم المرشحين، ولا بوظائف الانتخابات. حيث أن البلاد تدخل في أزمات متوالية ومتشابهة بعد كل انتخابات كما سبق ذكره. هذا إذا ما اعتبرنا أن المقاطعة للانتخابات لاتمثل حلاً من الناحية المنطقية، لكنها يمكن أن تكون أحد مداخل التغيير عملياً.

و للإجابة على السؤال الثاني، فليس علينا أن نتوقع أي قدر من السلوك الانتخابي الرشيد، بدون أن تكون هناك مساواة بين المواطنين. بمعنى أن الدولة إذا ماكانت عبارة عن شبكات تخادم بين مجموعات محددة من الأشخاص والجماعات، يصبح الأمن الشخصي للمواطن رهينة هذه الشبكات. لذا لايمكن أن نتوقع من الناخب في الأغلب إلا الإذعان لخيارات تلك القوى المهيمنة، أو الانزواء والمقاطعة. وفي أفضل الأحوال التصويت العقابي غير المسؤول. وهذا الأمر لاينطبق على الأشخاص المعوزين أو اصحاب الحوائج فقط، إنما يصبح نظاماً وسلوكاً معمماً، ينطبق على مجمل النظام الاجتماعي .

لذا فأن المشكلة ليست في الحلول بحد ذاتها، إذ يمكن للخبراء والمتخصصين والمنظمات ومراكز الأبحاث أن يضعوا دراسات وأبحاث مفصلة في أفضل البدائل المتعلقة بالقانون الانتخابي، والإدارة الانتخابية، والنظام الانتخابي، والتثقيف الانتخابي ..الخ. إلا أن المشكلة تتمثل في كيفية تمكين تلك البدائل، أي كيف يمكن أن تكون تلك البدائل أو الحلول واقعية؟ أو ماهي المعطيات التي تجعل من الحلول مقبولة ومطلوبة على صعيد السلوك الانتخابي، الأمر الذي نعتقد أنه يتمثل أولاً في الإصلاح الحكومي–الإداري. بكلمة أخرى إصلاح البيروقراطية الحكومية، ففي دولة ريعية تكون أغلب الفرص والموارد مرتبطة بالدولة والنظام السياسي. وإذا ما أصبحت تلك الدولة دولة المواطن، لا دولة محتكرة من قبل الأحزاب والقوى السياسية، ستصبح الانتخابات و خيارات الناخب أكثر تحرراً من تلك الهيمنة، وبالتالي أكثر رشداً. وهنا يأتي سؤال السؤال: أي ماهي الظروف والمعطيات التي يمكن أن تدفع نحو ذلك الإصلاح؟ وبتعبير أدق، قدراً معقولاً من الإصلاح.  وهو سؤال قد يخرج عن نطاق هذا المقال، إلا أنه يقع في جوهر الإشكالية. ونعتقد أنه من بين عوامل عديدة، مباشرة أو غير مباشرة، داخلية أو خارجية، فأن استنفاذ العملية السياسية لمبررات استمرارها على هذا المسار وبهذه الطريقة داخلياً وخارجياً، سيجعل القوى السياسية أكثر تقبلاً لمساحة من التغيير في المعادلة يحافظ على بعض مواقعها، ولا يجعلها أمام طريق مسدود، ومصير مفزع كسابقها من الأنظمة. وهو تحول بدء في النشوء وإن كان مضمراً في الغالب، مع بروز عدد من ملامحه على الصعيدين الداخلي والخارجي .

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬