العنوان مُضلِّل بلا أدنى شك. ربّما كان غريبًا، أو غامضًا، ولعلّه مُستَهجن للوهلة الأولى، ولكنْ فلنبقَ على صفة «مُضَلِّل». القسم الأول من العنوان سطرٌ شهيرٌ من قصيدة سعيد عقل «دقَّيْت طلّ الورد ع الشّبّاك» التي غنّتها فيروز؛ هو السطر الأخير فيها. واستخدمه كثيرون بعد رحيل سعيد عقل، بحيث بات السّطر (وسيبقى؟) مرتبطًا على الدّوام بالنّهايات، معنى النّهايات، غاية النّهايات: إن كنتَ سترحل فاترك ذكرى في هذا الكون ومن أجله. قد يختلف كثيرون ما إذا كان سعيد عقل قد ترك «عطرًا» أم لا، ولكن هذا بحث آخر. ولكن حتّى مع «تفسير» القسم الأول من العنوان، لم يتبدّد التّضليل ولا الغموض. ما علاقة النّهايات بالڨالس؟ بل ما علاقة النّهايات بڨالس أم كلثوم؟ المفارقة المرادة هنا هي ارتباط نهاية أم كلثوم (إحدى نهاياتها فعليًا) بالڨالس، وبترك عطر في هذا الكون. خطر لي بادئ الأمر أن أضع سطرًا من كلمات أحمد شفيق كامل التي لحّنها محمد عبد الوهاب و«تجرّأ» على إدخال الڨالس للمرة الثّانية في أغنية لأم كلثوم. ولكنّ الكلمات ليست مهمّة هنا، ولا حتّى الألحان، بل الأداء: «السّلطنة» لو شئنا الدقّة. في أغنية «ليلة حب» قدّمت أم كلثوم ڨالس النّهاية، ڨالس العطر لهذا الكون في حفلتها الأخيرة. ثمّة إغراء للتّحدّث عن الارتباط التصادفيّ القدَريّ ربّما بين ليلة الحب والوداع والنّهايات. ولكنّ هذا الإغراء سيتحطّم مباشرة على صخرة صرامة أم كلثوم التي لم تسمح بتسلُّل العاطفة يومًا، إلى أن باغتها هذا الڨالس في حفلتها الأخيرة، وبقي مرتبطًا بها؛ وكما أظن هو مرتبط بحالة السّلطنة عند أم كلثوم أكثر حتّى من الڨالس الأشهر في مقطع «وصفولي الصّبر» من أغنية «دارت الأيام». ربّما هي ذائقتي الشّخصيّة في نهاية المطاف، ولكن السَّمَع سيبرهن أكثر من ذائقتي أو ذائقة غيري.
في ڨالس «وصفولي الصّبر» كانت أم كلثوم طاغيةً مهيمنةً كعادتها. الصوت والحضور هما الجوهر، لا اللحن ولا الكلمات. وهذا يسري على عالم أم كلثوم عمومًا التي لا تسمح للحن أو الكلمات أن يسرقا شيئًا من طغيان صوتها، على الأخص مع عبد الوهاب أو بليغ حمدي، ومعظم أغانيها الأقدم، ربما باستثناء رياض السّنباطي الذي كان يفرض ألحانه بقدرٍ مماثلٍ من السّطوة كما هي سطوة صوت أم كلثوم، بل وبدرجة أكبر أحيانًا. ولكنّ هذا – مرة أخرى – بحث مستقل ربّما يُكتَب يومًا. حين ننصت إلى «وصفولي الصّبر» نلاحظ أنّ الڨالس شديد الوضوح، بل يكاد يكون شديد البروز منذ بداية المقطع حتّى نهايته. هذا دأب عبد الوهاب دومًا في تقديم ما هو «ناتئ» بحيث يُميّز لحنه عن لحن غيره، حتّى ولو «انحدر» (هو وبليغ حمدي) إلى مستوى موسيقا لا تُحرِّض إلا إيقاع رقص، يكون - على جماله – غريبًا عن عالم الست عمومًا، وأقرب إلى عالم وردة الجزائريّة مثلًا. يحاول عبد الوهاب اختراق مناعة صوت الست عن طريق لحن جديد، ولكنّ أم كلثوم تتدخّل في اللحظة المناسبة كي تكبح الموسيقا، وتُروِّض اللحن «الغريب» عن مملكتها. لا تتدخّل مباشرةً في مسار اللحن، بل تقاطعه وتراوغه ببراعة. نسمع همهمات وآهات نادرة لا تجود بها الست كثيرًا، استرعت انتباه الجمهور وتصفيقهم مباشرةً، وبدت الفرقة بعدها متخبّطةً هي وڨالسها الوهابيّ، إلى أن أنقذهم الصوت مرة أخرى حين أعاد جذبهم إلى المسار الجديد، مسار الست لا مسار الأستاذ كما كانت البداية. باتت أم كلثوم هي المايسترو الذي يضبط تدفُّق الموسيقا، ويعيد توزيع الأدوار من جديد. عاود المغناطيس جاذبيّته السّاحقة، وواصلت الست لعبتها الأثيرة في تحطيم سُلطة اللحن حين ترنّمت: «عيني يا عيني» (النادرة أيضًا) التي نسفت آثار الڨالس كلّها. نسي المستمع اللحن، ولم يعد مكترثًا إن كان ڨالسًا أم لا، إن كان تجديدًا أم لا، بل بات منجذبًا للصوت فقط، لأم كلثوم وحدها بصرف النّظر عن مُلحّنها أو شاعرها أو عازفها. كيف لا، وقد بدأت أم كلثوم تستمتع بهوايتها المغوية في التّنويع. الرّتابة غير موجودة في قاموس ثومة، مثلها في هذا مثل صباح فخري. لا يمكن لنا أن نجد تطابقًا بين مقطعين غنّتهما يومًا، ولو حتّى في الأغنية ذاتها. وبذا ما من تكرار لديها. التّكرار ظاهريّ لمن لا يملك وقتًا أو رغبةً بالاكتشاف. ولكن في العمق، لا تمرّ العلامة الموسيقيّة مرتين في نهر أم كلثوم دائم الطّوفان. هذا ما يغفل عنه المستمع العابر، من إدورد سعيد وصولًا إلى جمهور «الفاست فود» في الغناء.
أمّا في ڨالس «يا حبيبي ونبض قلبي» في أغنية «ليلة حب»، تخلّت أم كلثوم عن سطوتها طوعًا للّحن، وصارت – للمرة الأولى – تُوائِم صوتها مع موسيقا عبد الوهاب، على عكس ما يحدث عادةً، بحيث تركت المستمع يلتقط تفاصيل الڨالس الدّقيقة مع أنّه لم يكن بوضوح ڨالس «وصفولي الصّبر». نسمع المقطع للمرة الأولى فنلتقط الكلمات التي تؤدّيها أم كلثوم ببطء كمن يتهجّى اللحن، بل إنّها تتهجّاه فعلًا وكأنّها تتلقّنه وتُلقِّنه. وحين نعيد الإنصات إلى المقطع نتأكّد من أنّ الست ما تزال هي الست، وأنّ الست قد تغيّرت عمّا اعتدناه منها في آن. بقيت كما اعتادت واعتدنا من ناحية تطويع اللحن، وإبقاء زمام المبادرة في يدها. فما من نغمة تشذّ عن سطوة صوتها الصّارمة، وكأنّما الموسيقا – هذه المرة – تخرج من صوت أم كلثوم بحد ذاته، وكأنّما الفرقة كلّها بعازفيها وآلاتها ذبذبات للصوت الذي لم (ولا، ولن) تقهره طاحونة الزّمن التي لا ترحم. بل نكاد نحس أحيانًا أنّها تُرقّص الكلمات والموسيقا على السّواء بصوتها. موسيقا عبد الوهاب بارزة ناتئة تحاول نحت مسارٍ لها في مملكة الستّ كالعادة، ولكنّ الست تصدّ هذه المحاولة بذكاء وبراعة كالعادة أيضًا. أين تغيّرت أم كلثوم إذن؟ أم كلثوم لا تتغيّر أبدًا. ولكنّها تُظْهِرُ هذا التغيُّر، وتُبطِن صرامتها الأثيرة. هذه المرة، سمحت الست للّحن بالظّهور لأنّها أرادت له الظهور. تماهى الصّوت مع اللّحن من دون أن يفقد الصوت سُلطته الطاغية. ولعلّ هذه هي الرؤية «الرومانسيّة» (رؤيتي الخاصة بكلمات أخرى) التي لا تودّ أن تشهد هزيمة الصوت العصيّ على الهزيمة. وفي المقابل، سنجد الرؤية «الواقعيّة» التي سيتبنّاها كثيرون بحيث يُبرّرون هذا «الانكفاء» بضعف صوت أم كلثوم في حفلتها الأخيرة عام 1973 حين كانت في أقصى حالات المرض عدا عن وطأة السنوات الخمس والسّبعين (إذا قبلنا تاريخ ولادتها عام 1898). ويتعزّز هذا التّبرير حين نُمعِن في الإنصات لنلتقط الشّروخ التي بدأت تكسر بعض مخارج الحروف لديها. أي، بمعنى آخر، لا معجزة هنا. فالست صارت عجوزًا، وبذا فإنّ تراجعها أمر طبيعيّ أمام هجوم لحنٍ مُزَلْزلٍ مثل لحن الڨالس. فليهنأ الواقعيّون بواقعيّتهم! ولكنّ الرؤية الرومانسيّة لا تعني الشَّطط بالضّرورة، بل لعلّها هي الرؤية الأكثر واقعيّة. بمَ نُبرّر إذن قبولها للّحن في الأساس؟ كان بوسعها أن ترفضه، على الأخص بسبب «فخ» الڨالس الذي نصبه عبد الوهاب لها مرةً أخرى. وبمَ نبرّر تداول الأغنية أيضًا؟ لا تبرير سينقذ الواقعيّين. لا تبرير إلا أنّ أم كلثوم كانت راضيةً عن الأداء تمامًا. إذ إنّها سمحت بتداول الأغنية على عكس أغنية «القلب يعشق كلّ جميل» التي غنّتها في الحفلة ذاتها، واختفت من التّداول العام تقريبًا، لأنّ الصوت قد «تعثّر» أخيرًا. وفي حقيقة الأمر، ومع تتابع الاستماعات، سيكتشف المستمع المُدقِّق بأنّ الست كانت في واحدة من أعظم لحظات سلطنتها وبهائها في هذا الڨالس. ما السر إذن؟ لمَ فتحت الملكة بوّابات مملكتها وسمحت للّحن الغريب بالعبور الآن؟
التّمييز بين رؤيتين («رومانسيّة» و«واقعيّة») ضروريّ هنا، لا من أجل فهم تفاعل أم كلثوم مع الڨالس فقط، بل أيضًا من أجل فهم عالم أم كلثوم كلّه. فلنبدأ بالرؤية الواقعيّة (سأتخلّى عن المزدوجين لأسباب جماليّة، ولأنّ الرومانسيّة والواقعيّة متداخلتان في شخصيّة أم كلثوم بحسب فهمي الشخصيّ لها). إذا افترضنا صحّة هذه الرؤية، فهذا سيعني بالضّرورة أنّ أم كلثوم أخطأت في قبول اللحن، أو كانت موافقتها اعتباطيّة عشوائيّة لاواعية. وهذا – بدوره – سيعني بالضّرورة أنّ علاقة أم كلثوم مع أغانيها غير مرتبطة بمنهجيّة صارمة، بل تختار ما يحلو لها من دون شروط مسبقة. (في واقع الأمر، تبدو هذه الرؤية الواقعيّة رومانسيّة مقلوبة لو جاز التّعبير، بمعنى أنّ المنهجيّة غير موجودة في عالم أم كلثوم، بل إنّ اختياراتها للكلمات والألحان مرتبطة برغبة وقتيّة عابرة «عاطفيّة»). بالمقابل، تشير الرؤية الرومانسيّة إلى أنّ أم كلثوم شديدة الصّرامة في اختياراتها، وبأنّها لا تختار الأغنية وتقرّر أدائها إلا بعد تفكير طويل، وقرارٍ واعٍ. ومن هنا نفهم سبب تنقّلاتها الحادّة بين الملحّنين. كانت الست – من ناحية – تحاول التّنويع في مملكتها ولكن ضمن حدود مرسومة مسبقًا، وتحاول – من ناحية أخرى – مدّ هيمنتها على أبرز الملحّنين، بحيث ترتبط أسماؤهم باسمها. انتهت حقبة أبو العلا محمّد وزكريّا أحمد نظريًا، لتواصل مسيرتها مع رياض السّنباطي ضمن المسار ذاته وإنْ بروح متمايز عن المزاج «الكلاسيكيّ» القديم. وحين بدأ «التّجديد»، سارعت أم كلثوم لاقتفاء خطواته من دون التخلّي عن الوعي، فتعاونت مع عبد الوهاب وبليغ حمدي، وواصلت هذا التّعاون برغم رفض قسمٍ جيّد من جمهورها لهذا النَّفَس الجديد في الأغاني، من حيث التّغريب وسرعة الإيقاع. أين أم كلثوم الحقيقيّة هنا؛ هل هي كما يرسمها الواقعيّون أم كما يرسمها الرومانسيّون؟ هل اختياراتها صارمة أم متقلّبة؟ بالطبع، أميل إلى الرؤية الثانية الرومانسيّة: كانت أم كلثوم منفتحةً على الخيارات كلّها، ولكن بوجود شرطٍ لازمٍ دائمٍ، وهو أن تكون السيطرة بيدها هي وحدها. قد تختار لحنًا «جديدًا» ولكنّها ستفرض شروطها «الكلاسيكيّة» عليه من ناحية الارتجالات والتمرّد حتّى على أعتى الألحان المتمرّدة.
ماذا عن الڨالس؟ السؤال شديد الأهميّة لا من ناحية أغنية «ليلة حب» وأم كلثوم فقط، بل أيضًا من ناحية التّوقيت. ساد الڨالس بوصفه محاولةً لتجديد الموسيقا الشرقيّة وإدخال اللحن الغربيّ في الأغاني العربيّة في أربعينيّات وخمسينيّات القرن العشرين على الأخص، مع فريد الأطرش وأسمهان، ومع محمّد القصبجي وليلى مراد، وعلى نحو أقل مع الرّحابنة وفيروز. ثم اختفى تقريبًا (ربما باستثناء لحن محمد الموجي في أغنية «جبّار» لعبد الحليم حافظ) ليعود مرةً أخرى في السّبعينيّات هذه المرة مع عبد الوهاب. لا نعلم سبب استعادة عبد الوهاب للڨالس من جديد، ولا نعلم سبب استعادته مع أم كلثوم تحديدًا؛ وكذلك لا نعلم سبب قبول أم كلثوم أخيرًا بالڨالس، مع أنّ عبقريّ الڨالس (محمد القصبجي) كان طوع أوامر الست حرفيًا طوال عقود. لا نملك إلا التخمين. هل كانت أم كلثوم خائفة من الڨالس تحديدًا؟ لا أقصد الخوف بمعنى قصور إمكانيّات صوتها، فأم كلثوم قادرة على أداء الڨالس ببساطة، وتفوّقت حتّى على ليلى مراد (أسمهان حالة خاصة عصيّة على المقارنة). هل كان خوفًا بمعنى الرّهبة من تداعيات الڨالس الحميميّة في رحاب المملكة المحافظة التي صانت الست صرامتها القاسية أكثر من نصف قرن؟ مرةً أخرى، لا سبيل إلى معرفة سبب إحجامها، ولكن ماذا عن سبب قبولها أخيرًا وفي عمر متأخّر، بل وفي الوقت الذي كان فيه الڨالس يختفي من عالم التّجديد الموسيقيّ؟
لن يفيدنا أنصار الرؤية الواقعيّة هنا. فلنفكّر رومانسيًا إذن، ولنستعد العنوان: «إنْ فلّيتْ اتركْ عطر بهالكون». حينما أدركت أم كلثوم أنّ الرحيل قد اقترب، بعد مسيرة مديدة في الكلاسيكيّة والتّجديد، اكتشفت أنّ الڨالس وحده بقي غريبًا عن عالمها. وبذا كان لا بدّ من إدخاله على دفعتين وبالتّدريج. كان التردّد يسم المحاولة الأولى، فيما كانت المرحلة الثّانية جريئة واضحة صارخة وكأنّما الست هنا تُسدّد دَيْنها القديم مع المنافسات القديمات، ومع هذا اللحن «اللعين». في ڨالس «يا حبيبي ونبض قلبي» وصلت حدود مملكة الست إلى أقصاها. لم يعد هناك عنصر ناقص في هذا العالم المرعب من فرط جماله. عند ملكة التّناقضات (ذات الصّوت مفرط الحساسيّة برغم صرامته، ذات الشّفافية برغم قسوة سلوكها المخيف، ذات السّماحة برغم أسوار مملكتها العالية)، صار للڨالس نكهةٌ أخرى، نكهة كلثوميّة تركت عطرها في كونها، وفي كوننا، وفي كون كلّ مَنْ سيُنصت إلى هذا المقطع المذهل، سواء كان من الواقعيّين أم الرومانسيّين.