عرفتُك ذات سبت صباحا، يا صوفيا، فأثّرتْ في ضحكتُك التي تشبه ضحكة أسيرة حرة، ضحتُك المتناسقة والغريبة مثل تحليق الغربان التي رسمها فان غوخ قبل أن ينتحر وسط القمح والشمس، أثرتْ في كما تؤثر في نفسي حركة حنان لا يُردعُ، إذا ما شعرتُ بالوحدة، أو كما يؤثر في همس الموتى في بيتنا في لشبونة قرب المقبرة، يلفُّني نحيبُ المفقودين العذب والحزين.
كنتُ قد سئمتُ الحرب، يا صوفيا، شرّ للحرب العنيد؛ سئمتُ أن أسمع من سريري احتجاج رفاقي القتلى وهو يطاردونني في النوم، يطلبون مني ألاّ أتركهم يتعفنون في توابيتهم الرصاصية، المُقلقة والباردة مثل جوانب أشجار الزيتون؛ سئمتُ أن أكون يرقانة بين يرقانات أخرى في قاعة أكل الضباط الساخنة التي يضيئها المحرك الكهربائي باهتزاز متردد موشك على الإغماء؛ سئمتُ أن أشتغل ليلة بعد ليلة في غرفة التمريض، مبللا حتى المرفقين بدم الجرحى اللزج والدافئ. كنتُ قد سئمتُ، يا صوفيا، وكان كل جسدي يتوسل إليّ لأمنحه الهدوء الذي لا نجده إلا في أجساد النساء المُطْمئنة، في منحنيات أكتاف النساء حيث بوسعنا أن نستريح من يأسنا ومن خوفنا، في حنان النساء الخالي من السخرية، في سخائهن الناعم، المقوقع كمهد يحتضن قلقي الرجولي، قلقي المشحون بحقد رجل وحيد، يحمل ثقل موته الذي لا يطاق على كتفيه. أخذكِ الممرض المساعد، بمقلتيه الباهتتين الجاحظتين مثل حصان أعمى وفزع إفريقي عظيم في أحشائه، وحملك إلي يشدك من ذراعك، ذراع أسود مدور صلب وشاب، إلى ركن في وسط السياج، قرب الطريق البيضاء المؤدية إلى لوزو، حيث بقيت أنظر إليكِ، ومن ورائك إلى الامتداد الأخضر الرمادي للأدغال التي كانت آلات شركة الطرق تقطع بغباوة أشجارها فرعا فرعا، ثم سألني بصوت مؤلم، كأنه قرن استشعار حشرة ينكمش، بخجل، خائفا من ذاته، صوتُ رفاقي القتلى وهو ينادونني في الحلم، شعرهم ملفوف في غازات لا جدوى منها كأنها خرق تسبح في فوضى الخصلات المبللة، صوتُ كلبي الميت قبل سنوات وهو يشْتَمُّ شجرة التين في الحديقة في أصداء عواء يتبخر في ذاكرتي:
ـ هل تحتاج إلى غسّالة، يا دكتور؟
لم أكن بحاجة إلى غسّالة، يا صوفيا، لأن النقّالين كانوا يعتنون بأقمصتي وفوطي وملابسي الداخلية وجواربي، لكني كنتُ بحاجة إليكِ؛ بحاجة إلى عطر الفواكه في بطنك، إلى عانتك الموشومة، إلى القلادة الحجرية الزجاجية التي تطوق خصرك، إلى قدميك الصلبيْن والطويليْن مثل قدمي طائر نهري ينتقل من حصاة إلى أخرى بأبهة متوترة.
كنتُ قد سئمتُ الحرب، يا صوفيا؛ سئمتُ من رؤية الجرحى يصلون عبر الطريق في نقالات مرتجلة من الأغطية، جرحى يفتحون أفواههم ويغلقونها في نداءات غامضة ونائحة مثل النداءات البحرية، بحر برايا داش ماساش الذي يطلق في أغطيتي صياح ثور في حالة ودوق، ينبعث من منخاريه زبدُ أمواج تغلي. كنتُ أنا وإخوتي نستيقظ ونستمع، دون أن نفهم شيئا، إلى لغة البحر الجشّاء، نتلوى في الأغطية المبللة، فوق خزانة الأدوية، مثل أجنّة مذعورة، نستمع دون أن نفهم الثور البحري الذي ينطحُ وينطح باب الغرفة، يقفز فوق السور ويركض دون توقف عبر الشوارع، يمدد خطمه المتجمد على الوسادة قريبا جدا منا محاولا أن يُنيمَنا، لأن البحر، يا صوفيا، يعاني من الأرق العنيد للأموات الذين كانوا يجعلون أرضية البيت تطقطق في بينفيكا تحت وطأة خطواتهم الغازية التي لا تُطاق.
كنتُ قد سئمتُ الحرب؛ سئمتُ أن أنكب حتى الفجر على علاج رفاق يحتضرون تحت ضوء مصباح عمودي في قاعة العمليات المرتجلة؛ سئمتُ دَمِنا المُراق بقسوة، سئمتُ أن أخرج لأدخن سيجارة قبل الفجر، في الليل الكامل والحالك الذي يسبق النهار، في الليل الطويل، الكثيف، ليل لا محدود يسبق النهار، وأرى فجأة سماء هادئة ومنحنية تسكنها نجوم مجهولة، ليست سماء الخزامى والنفتالين في بينفيكا، ولا سماء قاسية من الصنوبر والغرانيت في بيرا، ولا حتى سماء عاصفة بالمياه في برايا داش ماساش حيث كنتُ أسبح مثل مركب هائم، بل سماء إفريقيا الهادئة، العالية والمنيعة بكوكبات نجومها اللامعة، الهندسية، مثل حدقات ساخرة. واقفا، عند باب قاعة العمليات، والكلاب تشتمُّ ملابسي، متعطشة إلى دم رفاقي، تلحس دم رفاقي الجرحى في البقع الداكنة من سروالي، من قميصي، من الشعر الواضح في ذراعيّ، كنتُ أكرهُ، يا صوفيا، من كانوا يكذبون علينا ويضطهدوننا، يحتقروننا ويقتلوننا في أنغولا، أولئك السادة الوقورون من أصحاب المقام العالي الذي كانوا يطعنوننا في أنغولا من لشبونة، السّاسة، القضاة، رجال الشرطة، المهرجون، الأساقفة، أولئك الذي كانوا يدفعوننا على نغمات الأناشيد وكلمات الخطب نحو سفن الحرب ويرسلوننا إلى إفريقيا، يرسلوننا لنموت في إفريقيا، وينسجون من حولنا ترانيم مصاصي دماء مشؤومة.
ليلة يوم عرفتكِ، وبعد العشاء، هربتُ من لعب الضامة مع القواد المسنين ومن لعبة البوكر مع الملازمين، طردتُ الكلاب التي كانت تحوم حول قاعة أكل الضباط في حركات إهْليجيّة من الجوع خنوعة وعنيدة، بعد أن أصبحت ساكنة السّانزالا اليوم تنافسهم على فئران الأدغال، على الحيوانات الشرهة والخجولة في الأدغال التي تشتمُّ أكتافنا البيضاء بوجل مقلق، ثم خرجت عبر المَزْلقان المفكك عند باب الثكنة نحو البقعة الغامضة التي تشكلُها القرية السوداء هناك في الأسفل، ومنها كانت تنبعث رائحة المنيهوت كأنها عفونة قبو، المنيهوت الذي يجف فوق أسطح الأكواخ شبيها بعظام السيد جواكين، الذي كان يبيع الهياكل العظمة لطلبة كلية الطب، يشتريها من حفار مقبرة آلطو دي ساو جْواو ويتركها لتجف في سقيفته في كامْبو دي سانْطانا، يسمم في هدوء الرائحة الحضرية لأشجار الحديقة.
[مقطع من رواية «إست يهوذا» للكاتب البرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيش التي تصدر قريباً عن منشورات الجمل. ترجمة سعيد بنعبد الواحد]