-١-
السيجار هو السيجار كما قال سيغموند فرويد، وبناء عليه بوسعنا القول إن السيارة هي السيارة، والفيلا هي الفيلا، ولتر الويسكي مجرد سائل مُسكر في زجاجة، قد يكون أصلياً معتقاً أو مغشوشاً، والحذاء الإيطالي هو حذاء، يُصنع بعد أن يُقتل حيوان ما في غابة ما، لكن هذه الأشياء تخرج من سياقها العادي، وتتحول من خلال استعادة شكلية مدروسة إلى رموز تشير إلى وضع طبقي، أو منصب سياسي، أو تموضع سلطوي شكلي الهدف منه الإيحاء بالهيبة والسلطة. وتنبغي الإشارة إلى أن كل هذه الأشياء حق للناس، فمن حقهم أن يدخنوا ويشربوا ويركبوا السيارات ويعيشوا في منازل مريحة، لكن حين تصبح هذه الأشياء حكراً على أشخاص معينين أو شرائح معينة فهذا يشير إلى عمق التفاوت المادي في المجتمع وإلى الفساد المستشري ونهب المال العام.
روى أمامي فنان استدعتْه زوجةُ مسؤولٍ عربي كي يرمّم لوحة منزلية أنه في جلسة خاصة حضرها كان المسؤول يدخن سيجاراً كوبياً من نوع كوهيبا، وحين كان يهم بنفضه كان بعض الجالسين يسرعون ويمدون أكفهم تحته محولين أيديهم إلى منافض، معبرين عن خضوعهم وجاهزيتهم للانبطاح، وكان المسؤول نفسه ينظر إليهم باحتقار. لا شك أن المسؤول هذا، إذا عرفنا الراتب الذي يتقاضاه بحكم عمله، لن يتمكن، لولا فساده، من اقتناء خزانة كاملة من أنواع مختلفة من سيجار الكوهيبا وتشرشل وروميو وجولييت ودفيدوف، ناهيك عن مجموعة الغلايين العاجية المصفوفة، والتي وصفها الفنان بدقة شديدة، وبعين المصور الفوتوغرافي، وأنواع زجاجات الويسكي المختلفة والتي كان البلاك ليبل والبلو ليبل بارزين فيها.
يلجأ الأثرياء ورجال السلطة الفاسدون بشكل عام إلى التعبير عن أنفسهم للعالم الخارجي بطرق متشابهة نوعاً ما، ويمكننا الحديث عن سلوكية سلطوية أو طقوس شكلية تجمع بين رجال السلطة في بلدان العالم الثالث كمثل ارتياد مطاعم معينة، واحتساء مشروبات من نوع معين، وتدخين سيجار من ماركة محددة وتنظيم حفلات أعياد ميلاد أو زفاف عالية التكلفة. سمعنا في خضم الحرب في سوريا عن أعراس كلفت الملايين بينما تحول السوري إلى متسول حقيقي بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية كما قال لي أحد الأصدقاء في الداخل معبراً عن غضبه واستيائه.
إن ويسكي البلاك ليبل، مثلاً، مشهورة بين رجال السلطة في كثير من البلدان العربية كما هي مشهورة بين رجال السلطة في الهند كما أخبرني باحث هندي في جامعة شيكاغو، وصار البعض يفضلون فيما بعد السنكل مولت على البليندد بما أن سعره أعلى بكثير. ويفضّل رجال السلطة والمقربون المتشبّهون بهم سيجار الكوهيبا وروميو وجولييت وتشرشل، بما أن اسم تشرشل يمتلك إيحاءات سلطوية. ورُويَ أن صدام حسين كان يدخن سيجار الكوهيبا ويخزنه دوماً في علب من المناديل المبللة، كما أن القذافي دخن سيجاراً كوبياً في أحد اجتماعات القمة العربية، وتناقلت الصحف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو المتورط في قضايا فساد تلقى كميات من السيجار بقيمة مئات آلاف الشواقل. ويتباهى كثير من المسؤولين بأنواع السيجار في جلساتهم الخاصة، ناهيك عن التنقل في سيارات فارهة باللون الأسود. وصارت السيارة أو النمرة تُمْنح لأشخاص معينين بحسب درجة الولاء بينما الشعب كله محروم من هذا الترف. ورُوي أن بعض المسؤولين العرب يتباهون بامتلاك العدد الأكبر من السيارات من مختلف الأنواع، كما يتبادلون الهدايا في أعراسهم كأن يُهْدى مثلاً طقم سيارات كامل يكون وقودها مجانياً من خلال القسائم، أويُهدم سور فندق فخم لإدخال سيارة أو جمل إلى صالة الأفراح. وسادت أنواع من السيارات كسيارات البيحو الفرنسية والرانج روفر في البداية ثم سيارات الشبح السوداء (أحدث موديلات المرسيدس) والبي إم دبلو يو وسيارات الدفع الرباعي والشيفروليت، وأتحفتنا الصحف بصور بعض أبناء المسؤولين وهم يقفون مستعرضين سياراتهم في الخلفية ومنها سيارات سباق باهظة الثمن مصممة بطرق فنية ملفتة للنظر. كما يتباهى المسؤولون العرب باقتناء الخيول العربية الأصيلة أوالمهجنة، ويفضلون الأحذية الإيطالية على غيرها وماركات طقوم شهيرة والسكن في فيلات أو قصور، وأحياناً يتبارى بعضهم في بناء القصور على التلال والجبال ويحيطونها بأسوار عالية، ولا يفوتهم الاستيلاء على الإطلالات الجبلية والبحرية الساحرة.
من ناحية أخرى، يحدث تماه بين خزينة الدولة وجيب القائد، فما يدخل إلى خزينة الدولة هو للجيب، وما يخرج منها هو مكرمة من الجيب. كما يذهب الأمر ببعض السلطويين إلى اعتبار أرصدة الدولة ملكاً عائلياً، فقد أشيع في تونس مثلاً أن زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي استولت على طن ونصف من الذهب من البنك المركزي قبل أن تستقل الطائرة هي وزوجها ويلوذا بالهرب. وفي الوقت الذي لا يستطيع فيه المواطن السوداني أن يؤمن خبزه اليومي أو يدفع ثمن لتر ويسكي أو نبيذ فاخر عُثر في قصر الرئيس السوداني على كميات ضخمة من الأموال بالعملات الأجنبية والسودانية، وأخرج مقتحمو القصر أفخم أنواع زجاجات الكحول من بار الرئيس، وعُثر قبل ذلك في قصور صدام والقذافي على غرف تكدست فيها العملات الصعبة، والمجوهرات والذهب. كما تمتلئ خزائن وحسابات آخرين الخارجية ببلايين الدولارات المنهوبة من أموال الشعب ويتم احتكار المناقصات لأشخاص معينين فيما يُحْرم منها القطاع الواسع من الشعب، وتُوضع الأيدي على الشركات الربحية بعد غربلة المنافسين. وقد انتشرت روايات شفهية أفادت أن بعض رجال السلطة يكدسون الأموال في بيوتهم وينقلونها بالشاحنات إلى أقبيتهم. ويتم نهب أموال الشعب وثرواته الطبيعية، بينما تفتك الحروب الأهلية والسرطانات والفقر والجوع بالغالبية، وتصبح الهجرة حلم الشباب، الذين برهنوا أنهم يفضلون الموت غرقاً في أعالي البحار على أن يعيشوا أذلاء ومحرومين في أوطانهم التي تتمتع بالثروة والأراضي الزراعية والثروات الطبيعية وكل ما يمكن أن يرسي دعائم حياة كريمة لكن لا شيءمن خيراتها يصل إلى جيوبهم.
-٢-
لماذا لا يوجد حاكمٌ عربي واحد يحبّهُ شعبهُ بكافة أطيافه؟ ولماذا لم يقم حاكم واحد بفتح أبواب قصره للناس، أو التجول دون حراس في أسواق مدنه وبلداته وأماكنها العامة؟ ولماذا لم يقبل أي حاكم عربي حديث أن يعيش يوماً ما كإنسان عادي، نازعاً عن نفسه هالة الأسطرة التي يضفيها المقرّبون، وأن يتنقل دون مواكب ودون انتشار جيش كامل كي يؤمن له زيارة أو ذهاب للمطار أو عودة منه، أو إلى أي مكان آخر؟ السبب واضح، وهو أن الحاكم يخاف من شعبه، لأن شعبه لم يقم باختياره بحرية، بل فُرض عليه، دون أن يؤخذ رأيه أو يتمتع بالحقوق ومنها حق الانتخاب الديمقراطي، ولهذا لا يستطيع الحاكم أن يتنقل دون جيش من الحراس ودون سبر أمني لمحيط المنطقة التي يتنقل فيها لأنه واثق أن الشعب لا يحبه وأنه سيطيح به متى سنحت له الفرصة. وهناك من الحكام العرب من لم يكتف بذلك، بل تعاقد أيضاً مع جيوش أجنبية لحمايته دون اكتراث بمفهوم السيادة، أو بالتبعية السياسية، أو بتسليم مستقبل البلاد إلى المجهول. ولو افترضنا أن الديمقراطية سادت في الدول العربية، وأصبح هناك مجال للتعبير عن الرأي بحرية دون تدخل من الأجهزة الأمنية (تقف على الحياد، ويقتصر عملها على حماية الأمن القومي والحدود) وأجرينا مسحاً للآراء في الشوارع العربية وسألنا الناس بشكل مباشر: هل تحبون حكامكم؟ لجاء الجواب من جميع من يعرفون ظروف بلدانهم (باستثناء طبقة المستفيدين والمتملقين) بأنهم لا يحبونهم، لكن هذا الجواب لن يصل مسامعنا الآن إلا شرط عدم إظهار الصورة وبعد استخدام اسم مستعار للمشارك في المسح.
-٣-
إن طبيعة السلطة السائدة في العالم العربي انقلابية وراثية أمنية لا انتخاب فيها ولا تداول، وإذا ما تم تداولها فإن هذا يحدث توريثاً أو بالاتفاق، وإذا حصلت نجاحات جزئية، كما حدث في تونس في سياق الربيع العربي، فإنها لا شك مهمة ويجب البناء عليها وتطويرها نحو آفاق حقيقية.
لكن السلطة العربية لم تُبْن، تاريخياً، على احترام الإنسان وحقوقه وأرست نوعاً من الانتخابات القائمة على استئصال المعارضين والمنافسين وتحويلهم إلى السجون أو المستشفيات أو القبور. وجاءت السلطة مفروضة من فوق بقوة البوط العسكري والقبضة الأمنية، ومن خلال تحالفات دفعت بالقطاع العريض من الجماهير إلى الدرك الأسفل للعناء اليومي، وانتفت علاقة الحب بين الحاكم والمحكوم، فكيف للمحكوم أن يحب حاكماً لا يحترم كرامته، ولا يعامله كإنسان حر ومستقل، ولا يمنحه راتباً كافياً، ولا يؤمن له الماء والكهرباء والغاز في بعض الدول، ولا يؤمن له السكن الكريم والعيش الكريم في أكثرها، ولا يمنحه جواز سفر محترماً دولياً، أو رعاية صحية أو ضماناً اجتماعياً حقيقياً، ولا يسمح له بالتعبير عن رأيه السياسي أو بالانتماء إلى حزب أو تجمع يرى فيه تعبيراً عن آرائه، ولا يسمح له بتأسيس صحيفة حرة، صحيفة تُمْنَح الحصانة وتُمارِس دورها في الرقابة والنقد حرصاً على الدولة وعلى مواطنيها وعلى تغليب المصلحة العامة.
في سياق التسلط القائم في معظم الدول العربية، تتخذ العلاقة بين الحاكم والمحكوم الشكل القديم نفسه: عليك أن تكون محباً لحاكمك وخاضعاً له، وأن تربط مستقبلك به، وأن تمجد خصاله وتصدق أقواله، وأن تعترف بأن الحقيقة التي تشعر بها بينك وبين نفسك هي مجرد وهم وأكاذيب وأن الحاكم الذي تعيش في ظله هو الفلك الذي يجب أن تدور فيه أنت وأولادك وأولاد أولادك وأن تلوذ بالصمت، وهو الذي يفكر عنك في القضايا المصيرية.
هذا ما حاولت شرارة الربيع العربي أن تثور ضده في بداياتها المدنية، فالشباب العرب الذين تحولوا إلى حناجر هادرة في مظاهرات الربيع العربي طالبوا ببناء علاقة حب بين الحاكم والشارع، بانتخاب ديمقراطي لحاكم يجلس على كرسيه بين مواطنيه ويصغي إليهم ويعالج همومهم ويخدمهم لأن هذه يجب أن تكون وظيفته، وهم يمنحونه الثقة بقبول تعيينه على رأس الدولة كي يقودها إلى مستقبل مشرق وليس إلى جحيم الحروب والدمار كي يبقى كرسيه متربعاً فوق أنقاض المدن والقرى المهجورة والتي لا شيء فيها يوحي بالحياة، ويبدو مشهد الدمار فيها سريالياً ومرعباً إلى درجة أن الإنسان يتساءل: ما هو المركّب الداخلي الذي يقود الإنسان إلى فعل هذا؟ لكن الإنسان يفعل هذا، فهو دون ثقافة وتنوير حقيقي، مجرد وحش أو أداة، والهمجية البشرية لم تتوقف على مدار التاريخ وقد تجلت في تدمير المدن وحرقها وتشريد سكانها، ولا تزال الذاكرة البشرية تنبض بالصور الحية لقصص الدمار الوحشية، التي ما تزال هناك أصوات تدعو إلى أخذ العبر منها، لكن البشر هم البشر، والإنسان بطبيعته يميل إلى التسلط والتنافس ويجب أن يخضع منذ طفولته لدورات مكثفة تعلّمه الحب والاحترام والقبول بالآخر وتغليب المصلحة العامة على المصالح الأنانية الضيقة، كما نادى مونتسكيو.
-٤-
لعب الغرب وما يزال دوراً مباشراً ورئيسياً في مشهد التسلط العربي الفاسد، ذلك أن العواصم الغربية وعواصم الدول العظمى التي ولدت فيها أو انتصرت أفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحق الانتخاب وحقوق المرأة، وفصل الدين عن الدولة، وفصل السلطات، الأمكنة التي دفعت فيها البشرية أثماناً باهظة في حروب وحشية مدمرة، ما تزال تنطلق منها نزعات الاستعلاء والمركزية واحتقار الآخر وتحويله إلى معادلة اقتصادية استثمارية ووضع اليد على ثرواته من خلال تحالفات مع نخب وعائلات مقابل تسهيل حكمها وتمتينه وحمايته. وما تزال الشعوب العربية تحت نير الاستبداد والتوزيع غير العادل للثروة، وما يحدث الآن هو أن دائرة البطالة تتسع، والاقتصادات يزداد اعتمادها على الحقن الخارجية التي تستلزم التبعية في القرار الاقتصادي والسياسي، والغليان الاجتماعي ينذر بزلازل وبراكين قادمة في ظل تحول كثير من القوى والحكومات إلى أدوات في الصراعات الإقليمية ناسية أن لها شعوباً تحتاج إلى الموارد التي تُبدَّد في حروب عبثية أو تُنْهَب وتُحوَّل إلى أرصدة خاصة في بنوك الغرب، أو تصرف على الويسكي والكوهيبا والكافيار والفياغرا والسيارات والقصور.