سلطة البلاك ليبل والكوهيبا وسيارات الشبح

سلطة البلاك ليبل والكوهيبا وسيارات الشبح

سلطة البلاك ليبل والكوهيبا وسيارات الشبح

By : Osama Esber أسامة إسبر

-١-

السيجار هو السيجار كما قال سيغموند فرويد، وبناء عليه بوسعنا القول إن السيارة هي السيارة، والفيلا هي الفيلا، ولتر الويسكي مجرد سائل مُسكر في زجاجة، قد يكون أصلياً معتقاً أو مغشوشاً، والحذاء الإيطالي هو حذاء، يُصنع بعد أن يُقتل حيوان ما في غابة ما، لكن هذه الأشياء تخرج من سياقها العادي، وتتحول من خلال استعادة شكلية مدروسة إلى رموز تشير إلى وضع طبقي، أو منصب سياسي، أو تموضع سلطوي شكلي الهدف منه الإيحاء بالهيبة والسلطة. وتنبغي الإشارة إلى أن كل هذه الأشياء حق للناس، فمن حقهم أن يدخنوا ويشربوا ويركبوا السيارات ويعيشوا في منازل مريحة، لكن حين تصبح هذه الأشياء حكراً على أشخاص معينين أو شرائح معينة فهذا يشير إلى عمق التفاوت المادي في المجتمع وإلى الفساد المستشري ونهب المال العام.

روى أمامي فنان استدعتْه زوجةُ مسؤولٍ عربي كي يرمّم لوحة منزلية أنه في جلسة خاصة حضرها كان المسؤول يدخن سيجاراً كوبياً من نوع كوهيبا، وحين كان يهم بنفضه كان بعض الجالسين يسرعون ويمدون أكفهم تحته محولين أيديهم إلى منافض، معبرين عن خضوعهم وجاهزيتهم للانبطاح، وكان المسؤول نفسه ينظر إليهم باحتقار. لا شك أن المسؤول هذا، إذا عرفنا الراتب الذي يتقاضاه بحكم عمله، لن يتمكن، لولا فساده، من اقتناء خزانة كاملة من أنواع مختلفة من سيجار الكوهيبا وتشرشل وروميو وجولييت ودفيدوف، ناهيك عن مجموعة الغلايين العاجية المصفوفة، والتي وصفها الفنان بدقة شديدة، وبعين المصور الفوتوغرافي، وأنواع زجاجات الويسكي المختلفة والتي كان البلاك ليبل والبلو ليبل بارزين فيها.

يلجأ الأثرياء ورجال السلطة الفاسدون بشكل عام إلى التعبير عن أنفسهم للعالم الخارجي بطرق متشابهة نوعاً ما، ويمكننا الحديث عن سلوكية سلطوية أو طقوس شكلية تجمع بين رجال السلطة في بلدان العالم الثالث كمثل ارتياد مطاعم معينة، واحتساء مشروبات من نوع معين، وتدخين سيجار من ماركة محددة وتنظيم حفلات أعياد ميلاد أو زفاف عالية التكلفة. سمعنا في خضم الحرب في سوريا عن أعراس كلفت الملايين بينما تحول السوري إلى متسول حقيقي بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية كما قال لي أحد الأصدقاء في الداخل معبراً عن غضبه واستيائه.

 إن ويسكي البلاك ليبل، مثلاً، مشهورة بين رجال السلطة في كثير من البلدان العربية كما هي مشهورة بين رجال السلطة في الهند كما أخبرني باحث هندي في جامعة شيكاغو، وصار البعض يفضلون فيما بعد السنكل مولت على البليندد بما أن سعره أعلى بكثير. ويفضّل رجال السلطة والمقربون المتشبّهون بهم سيجار الكوهيبا وروميو وجولييت وتشرشل، بما أن اسم تشرشل يمتلك إيحاءات سلطوية. ورُويَ أن صدام حسين كان يدخن سيجار الكوهيبا ويخزنه دوماً في علب من المناديل المبللة، كما أن القذافي دخن سيجاراً كوبياً في أحد اجتماعات القمة العربية، وتناقلت الصحف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو المتورط في قضايا فساد تلقى كميات من السيجار بقيمة مئات آلاف الشواقل. ويتباهى كثير من المسؤولين بأنواع السيجار في جلساتهم الخاصة،  ناهيك عن التنقل في سيارات فارهة باللون الأسود. وصارت السيارة أو النمرة تُمْنح لأشخاص معينين بحسب درجة الولاء بينما الشعب كله محروم من هذا الترف. ورُوي أن بعض المسؤولين العرب يتباهون بامتلاك العدد الأكبر من السيارات من مختلف الأنواع، كما يتبادلون الهدايا في أعراسهم كأن يُهْدى مثلاً طقم سيارات كامل يكون وقودها مجانياً من خلال القسائم، أويُهدم سور فندق فخم لإدخال سيارة أو جمل إلى صالة الأفراح. وسادت أنواع من السيارات كسيارات البيحو الفرنسية والرانج روفر في البداية ثم سيارات الشبح السوداء (أحدث موديلات المرسيدس) والبي إم دبلو يو وسيارات الدفع الرباعي والشيفروليت، وأتحفتنا الصحف بصور بعض أبناء المسؤولين وهم يقفون مستعرضين سياراتهم في الخلفية ومنها سيارات سباق باهظة الثمن مصممة بطرق فنية ملفتة للنظر. كما يتباهى المسؤولون العرب باقتناء الخيول العربية الأصيلة أوالمهجنة، ويفضلون الأحذية الإيطالية على غيرها وماركات طقوم شهيرة والسكن في فيلات أو قصور، وأحياناً يتبارى بعضهم في بناء القصور على التلال والجبال ويحيطونها بأسوار عالية، ولا يفوتهم الاستيلاء على الإطلالات الجبلية والبحرية الساحرة.

من ناحية أخرى، يحدث تماه بين خزينة الدولة وجيب القائد، فما يدخل إلى خزينة الدولة هو للجيب، وما يخرج منها هو مكرمة من الجيب. كما يذهب الأمر ببعض السلطويين إلى اعتبار أرصدة الدولة ملكاً عائلياً، فقد أشيع في تونس مثلاً أن زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي استولت على طن ونصف من الذهب من البنك المركزي قبل أن تستقل الطائرة هي وزوجها ويلوذا بالهرب. وفي الوقت الذي لا يستطيع فيه المواطن السوداني أن  يؤمن خبزه اليومي أو يدفع ثمن لتر ويسكي أو نبيذ فاخر عُثر في قصر الرئيس السوداني على كميات ضخمة من الأموال بالعملات الأجنبية والسودانية، وأخرج مقتحمو القصر أفخم أنواع زجاجات الكحول من بار الرئيس، وعُثر قبل ذلك في قصور صدام والقذافي على غرف تكدست فيها العملات الصعبة، والمجوهرات والذهب. كما تمتلئ خزائن وحسابات آخرين الخارجية ببلايين الدولارات المنهوبة من أموال الشعب ويتم احتكار المناقصات لأشخاص معينين فيما يُحْرم منها القطاع الواسع من الشعب، وتُوضع الأيدي على الشركات الربحية بعد غربلة المنافسين. وقد انتشرت روايات شفهية أفادت أن بعض رجال السلطة يكدسون الأموال في بيوتهم وينقلونها بالشاحنات إلى أقبيتهم. ويتم نهب أموال الشعب وثرواته الطبيعية، بينما تفتك الحروب الأهلية والسرطانات والفقر والجوع بالغالبية، وتصبح الهجرة حلم الشباب، الذين برهنوا أنهم يفضلون الموت غرقاً في أعالي البحار على أن يعيشوا أذلاء ومحرومين في أوطانهم التي تتمتع بالثروة والأراضي الزراعية والثروات الطبيعية وكل ما يمكن أن يرسي دعائم حياة كريمة لكن لا شيءمن خيراتها يصل إلى جيوبهم.

-٢-

لماذا لا يوجد حاكمٌ عربي واحد يحبّهُ شعبهُ بكافة أطيافه؟ ولماذا لم يقم حاكم واحد بفتح أبواب قصره للناس، أو التجول دون حراس في أسواق مدنه وبلداته وأماكنها العامة؟ ولماذا لم يقبل أي حاكم عربي حديث أن يعيش يوماً ما كإنسان عادي، نازعاً عن نفسه هالة الأسطرة التي يضفيها المقرّبون، وأن يتنقل دون مواكب ودون انتشار جيش كامل كي يؤمن له زيارة أو ذهاب للمطار أو عودة منه، أو إلى أي مكان آخر؟ السبب واضح، وهو أن الحاكم يخاف من شعبه، لأن شعبه لم يقم باختياره بحرية، بل فُرض عليه، دون أن يؤخذ رأيه أو يتمتع بالحقوق ومنها حق الانتخاب الديمقراطي، ولهذا لا يستطيع الحاكم أن يتنقل دون جيش من الحراس ودون سبر أمني لمحيط المنطقة التي يتنقل فيها لأنه واثق أن الشعب لا يحبه وأنه سيطيح به متى سنحت له الفرصة. وهناك من الحكام العرب من لم يكتف بذلك، بل تعاقد أيضاً مع جيوش أجنبية لحمايته دون اكتراث بمفهوم السيادة، أو بالتبعية السياسية، أو بتسليم مستقبل البلاد إلى المجهول. ولو افترضنا أن الديمقراطية سادت في الدول العربية، وأصبح هناك مجال للتعبير عن الرأي بحرية دون تدخل من الأجهزة الأمنية (تقف على الحياد، ويقتصر عملها على حماية الأمن القومي والحدود) وأجرينا مسحاً للآراء في الشوارع العربية وسألنا الناس بشكل مباشر: هل تحبون حكامكم؟ لجاء الجواب من جميع من يعرفون ظروف بلدانهم (باستثناء طبقة المستفيدين والمتملقين) بأنهم لا يحبونهم، لكن هذا الجواب لن يصل مسامعنا الآن إلا شرط عدم إظهار الصورة وبعد استخدام اسم مستعار للمشارك في المسح.

-٣-

إن طبيعة السلطة السائدة في العالم العربي انقلابية وراثية أمنية لا انتخاب فيها ولا تداول، وإذا ما تم تداولها فإن هذا يحدث توريثاً أو بالاتفاق، وإذا حصلت نجاحات جزئية، كما حدث في تونس في سياق الربيع العربي، فإنها لا شك مهمة ويجب البناء عليها وتطويرها نحو آفاق حقيقية.

لكن السلطة العربية لم تُبْن، تاريخياً،  على احترام الإنسان وحقوقه وأرست نوعاً من الانتخابات القائمة على استئصال المعارضين والمنافسين وتحويلهم إلى السجون أو المستشفيات أو القبور. وجاءت السلطة مفروضة من فوق بقوة البوط العسكري والقبضة الأمنية، ومن خلال تحالفات دفعت بالقطاع العريض من الجماهير إلى الدرك الأسفل للعناء اليومي، وانتفت علاقة الحب بين الحاكم والمحكوم، فكيف للمحكوم أن يحب حاكماً لا يحترم كرامته، ولا يعامله كإنسان حر ومستقل، ولا يمنحه راتباً كافياً، ولا يؤمن له الماء والكهرباء والغاز في بعض الدول، ولا يؤمن له السكن الكريم والعيش الكريم في أكثرها، ولا يمنحه جواز سفر محترماً دولياً، أو رعاية صحية أو ضماناً اجتماعياً حقيقياً، ولا يسمح له بالتعبير عن رأيه السياسي أو بالانتماء إلى حزب أو تجمع يرى فيه تعبيراً عن آرائه، ولا يسمح له بتأسيس صحيفة حرة، صحيفة تُمْنَح الحصانة وتُمارِس دورها في الرقابة والنقد حرصاً على الدولة وعلى مواطنيها وعلى تغليب المصلحة العامة.

 في سياق التسلط القائم في معظم الدول العربية، تتخذ العلاقة بين الحاكم والمحكوم الشكل القديم نفسه: عليك أن تكون محباً لحاكمك وخاضعاً له، وأن تربط مستقبلك به، وأن تمجد خصاله وتصدق أقواله، وأن تعترف بأن الحقيقة التي تشعر بها بينك وبين نفسك هي  مجرد وهم وأكاذيب وأن الحاكم الذي تعيش في ظله هو الفلك الذي يجب أن تدور فيه أنت وأولادك وأولاد أولادك وأن تلوذ بالصمت، وهو الذي يفكر عنك في القضايا المصيرية.

هذا ما حاولت شرارة الربيع العربي أن تثور ضده في بداياتها المدنية، فالشباب العرب الذين تحولوا إلى حناجر هادرة في مظاهرات الربيع العربي طالبوا ببناء علاقة حب بين الحاكم والشارع، بانتخاب ديمقراطي لحاكم يجلس على كرسيه بين مواطنيه ويصغي إليهم ويعالج همومهم ويخدمهم لأن هذه يجب أن تكون وظيفته، وهم يمنحونه الثقة بقبول تعيينه على رأس الدولة كي يقودها إلى مستقبل مشرق وليس إلى جحيم الحروب والدمار كي يبقى كرسيه متربعاً فوق أنقاض المدن والقرى المهجورة والتي لا شيء فيها يوحي بالحياة، ويبدو مشهد الدمار فيها سريالياً ومرعباً إلى درجة أن الإنسان يتساءل: ما هو المركّب الداخلي الذي يقود الإنسان إلى فعل هذا؟ لكن الإنسان يفعل هذا، فهو دون ثقافة وتنوير حقيقي، مجرد وحش أو أداة، والهمجية البشرية لم تتوقف على مدار التاريخ وقد تجلت في تدمير المدن وحرقها وتشريد سكانها، ولا تزال الذاكرة البشرية تنبض بالصور الحية لقصص الدمار الوحشية، التي ما تزال هناك أصوات تدعو إلى أخذ العبر منها، لكن البشر هم البشر، والإنسان بطبيعته يميل إلى التسلط والتنافس ويجب أن يخضع منذ طفولته لدورات مكثفة تعلّمه الحب والاحترام والقبول بالآخر وتغليب المصلحة العامة على المصالح الأنانية الضيقة، كما نادى مونتسكيو. 

-٤-

لعب الغرب وما يزال دوراً مباشراً ورئيسياً في مشهد التسلط العربي الفاسد، ذلك أن العواصم الغربية وعواصم الدول العظمى التي ولدت فيها أو انتصرت أفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحق الانتخاب وحقوق المرأة، وفصل الدين عن الدولة، وفصل السلطات، الأمكنة التي دفعت فيها البشرية أثماناً باهظة في حروب وحشية مدمرة، ما تزال تنطلق منها نزعات الاستعلاء والمركزية واحتقار الآخر وتحويله إلى معادلة اقتصادية استثمارية ووضع اليد على ثرواته من خلال  تحالفات مع نخب وعائلات مقابل تسهيل حكمها وتمتينه وحمايته. وما تزال الشعوب العربية تحت نير الاستبداد والتوزيع غير العادل للثروة، وما يحدث الآن هو أن دائرة البطالة تتسع، والاقتصادات يزداد اعتمادها على الحقن الخارجية التي تستلزم التبعية في القرار الاقتصادي والسياسي، والغليان الاجتماعي ينذر بزلازل وبراكين قادمة في ظل تحول كثير من القوى والحكومات إلى أدوات في الصراعات الإقليمية ناسية أن لها شعوباً تحتاج إلى الموارد التي تُبدَّد في حروب عبثية أو تُنْهَب وتُحوَّل إلى أرصدة خاصة في بنوك الغرب، أو تصرف على الويسكي والكوهيبا والكافيار والفياغرا والسيارات والقصور.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬