قبل ثلاثة آلاف عام من ظهور الأنثى بوصفها مرشدة في «كوميديا» دانتي في شخصيّة بياتريتشه، كانت هناك شخصيّة أخرى في «ملحمة گلگامش» لم تجد اهتمامًا يوازي أهميّتها لاعتبارات كثيرة، ليس أقلّها أنّ «الكوميديا» عمومًا نص أهم وأجمل من «گلگامش»، عدا عن حقيقة أنّ «گلگامش» ذاتها لم تجد اهتمامًا إلا في ما يرتبط بعلاقتها مع نصوص أخرى، أكانت نصوصًا دينيّة أم أدبيّة. وبما أنّ الملحمة لم تُقرَأ بذاتها وفي ذاتها، كان من «الطّبيعيّ» أن نغفل عن شخوصها. وحتّى حين تُقرأ شخوص الملحمة في حالات نادرة، تكون الأولويّة (كما هي أولويّة الواقع) للآلهة، ثم أشباه الآلهة من ملوك وشخوص فوق-بشريّة، وأخيرًا ما ومن تبقّى من الشّخوص البشريّة، بترتيب «واقعيّ» أيضًا تكون الأولويّة فيه للذّكور قبل الإناث. اللافت في «ملحمة گلگامش» على الأخص أنّ مُحرّك السّرد والأحداث ظاهريًا وباطنيًا هي الشّخوص البشريّة، وبترتيب يعاكس التّرتيب المنطقيّ. لا نعلم إن كان هذا التّركيز مقصودًا من كتّاب الملحمة أم لا؛ وهذا يستحق بحثًا مستقلًا يتّصل بتطوُّر الملحمة وعلاقتها بتطوُّر مجتمعها، وانتقالاتها بين الشّعوب الرافديّة. صحيحٌ أنّ الملحمة لا تخرج ظاهريًا عن مجموعة النّصوص الدينيّة-الأدبيّة، أو – ضمن مرآة أخرى – مجموعة «أدب الحكمة» بمعنى من المعاني، إلا أنّها تميل لأن تكون نصًا بشريًا في نسختها البابليّة القياسيّة على الأخص.
ضمن تلك الرؤية الأولى الظّاهريّة السائدة، قُرئت شخصيّة شمخة بوصفها إما «العاهرة المقدّسة» أو «العاهرة البشريّة»، من دون دلالات عميقة، مع أنّ النّص واضحٌ في إلماحاته إلى أنّ شمخة أكبر مما تبدو عليه، بل يكاد تأويل الملحمة كلّه ينقلب رأسًا على عقب لو لم نفهم شخصيّة شمخة ودورها في تطوُّر إنكيدو، وفي تطوُّر الملحمة عمومًا. أتحدّث عن إلماحات هنا، لا عن مفردات صريحة بتأويلات ومعانٍ راسخة بالضّرورة. فالنصّ مُشوَّه بسبب النقص من جهة، وغامضٌ في مواضع كثيرة من جهة أخرى. ولكنّه – عمومًا – واضح حيال أهميّة شمخة وعدم حصرها ضمن قالب «العاهرة»، أو قالب الكومبارس الذي يسند دور البطل. بل ربّما لم يكن البطل ليكون بطلًا لولا حضورها. لم يكن إنكيدو ليكون إنكيدو لولا شمخة. وهذه هي الرؤية الثانية المستترة، والتي أزعم أنّها هي الرؤية الأقرب للمنطق تبعًا لمفاتيح النص، من دون الإغراق في التأويل المفرط. لدينا رؤيتان مختلفتان، وتكادان تكونان متضادّتين، في شخصيّة شمخة؛ واللافت أنّ الرؤية الظاهريّة الأولى مرتبطةٌ أكثر بالآلهة والملوك ورعيّتهم الذين لا رأي لهم بمعزل عن رأي الملك، وأنّ الرؤية المستترة الثانية مرتبطة بشمخة نفسها، وبإنكيدو: أي بالشّخصيّتين المحوريّتين في هذه القصة ضمن قصص الملحمة. تتداخل الرؤيتان وتتصارعان، كما سنرى، بحيث تفرض كلٌّ منهما معناها، وبحيث يكون للمفردة ذاتها، وللمقطع ذاته، معنيان متوازيان.
تدخل شمخة إلى الملحمة في الثلث الأخير من اللوح الأول، وتخرج منها في الربع الأول من اللوح الثاني. ويُمهَّد لها بحوار بين صيّاد وأبيه بعد أن أجفل الصيّاد من إنكيدو الذي كان يُنقذ الحيوانات من شراك هذا الصيّاد بعد إتلافها. يرد اسم شمخة للمرة الأولى قبل دخولها في الأحداث فعليًا. ينطق به أبو الصيّاد بوصفها «الحل» لمشكلة إنكيدو، ومن ثمّ ينطق به گلگامش في سياق مماثل: شمخة هي الحل مع هذا الكائن الذي لا ينفع معه «الاتّكال على قدرة إنسان». الغواية هي الحل. ولكن بأيّ معنى؟ هل بمعنى غواية المرأة عمومًا، أم غواية شمخة حصرًا بوصفها إحدى العاهرات المقدّسات في معبد عشتار؟ هل الغواية بشريّة أم إلهيّة؟ لا نجد دلالات كثيرة في كلام الصيّاد الشّيخ أو في كلام گلگامش، بل نجد دلالة واحدة تقتصر على دور شمخة بوصفها «امرأة» تكون هدفًا لشهوات أيّ رجل بالضّرورة. وبالتّالي سينحصر دور شمخة على إغواء إنكيدو وإضعافه بفعل الجهد الذي سيبذله في العمليّة الجنسيّة. معنى الجنس هنا سلبيّ بالضّرورة، مثله مثل معنى الجنس كما تبدّى في قصّة عشتار وگلگامش: الجنس مهلكة وسقوط، ولا معنى آخر له ضمن مجال الآلهة والملوك (وسنرى الفكرة ذاتها بلا تغييرات جوهريّة في الدّيانات كلّها تقريبًا). وبذا فإنّ دور المرأة لدى الصيّاد (بوصفه ممثّلًا عن عموم النّاس) ولدى گلگامش (الملك-الإله) دور سلبيّ وإن تخفّى بمظهر إيجابيّ: دورها هو ترويض الفحولة وإغواء الكائن الهمجيّ لا أكثر، وإخراجه من المملكة «الغريبة»، مملكة الحيوان والوحوش، من دون أن يعني هذا بالضّرورة إدخاله في «العالم الجديد»، عالم البشر. المهم هنا هو إفقاده قوّته الشخصيّة، وقوّته الجماعاتيّة من خلال كسر الصّلة بينه وبين جماعته الأصليّة:
انضي ملابسكِ فيضطجعُ عليكِ،
أدِّي له، ذلك المتوحّش، وظيفةَ المرأةِ،
ستُنكِره حيواناته التي رُبِّي وسطها،
ستهفو شهوتُه إليكِ.
كيف ستكون ردة فعل إنكيدو؟ النص غير واضح في تفاصيله التّمهيديّة، ولكن يمكن لنا أن نفهم أنّه استأنس بشمخة واقترب منها، ولكن لا يتّضح هنا ما إذا كان الاستئناس لكونها بشرًا أم لكونها امرأة. ولكنّ المؤكّد هو أنّ شمخة قدّمت نفسها منذ البداية معتمدةً على هويّتها الجنسيّة لا هويّتها البشريّة: بوصفها أنثى. وبالطّبع تفاعل معها إنكيدو الذَّكر. تعامل معها إنكيدو بادئ الأمر بالغريزة، غريزة الجنس من أجل الجنس، ومن دون التّفكير في عواقب الفعل الجنسيّ، بصرف النّظر عمّا إذا كانت إيجابيّة أم سلبيّة. مضاجعة شمخة وإنكيدو هي أول فعلٍ جنسيّ لإنكيدو، والجنس يعني بالضّرورة التفتّح والانتقال من عالمٍ إلى آخر. ولكنّ هذه المضاجعة الأولى (التي ستتلوها مضاجعات كثيرة) قامت على الشّهوة وحدها، شهوة الذّكر للأنثى، أكان هذا الذّكر همجيًا أم بشريًا أم نصف بشريّ. وبذا كان من الطبيعيّ أن تبدو العواقب سلبيّة مع انتهاء الدافع الجوهريّ في المضاجعة الأولى. انطفأت الشهوة وبدأ التيقّظ، وربما النّدم حتّى:
تعوَّقَ إنكيدو، لم تعد سرعته كما من قبل
لكنّه نضج، صار واسع الإحساس
الشّهوة هنا تعني انكسار الجسد وضعفه في مقابل تفتّح الإحساس. لا يقتصر الإحساس على معنى التعقّل والوعي الذي سنراه لاحقًا لدى إنكيدو، بل أيضًا على المعنى المباشر: الإحساس بالوحدة والاغتراب. افترق إنكيدو عن جماعته الأصليّة بفعل الشّهوة لا بفعل الجنس، ولكنّ الجنس سيُعيده إلى جماعة أخرى تعرض عليه الانتماء. ولذا كان لا بدّ من العودة إلى شمخة. المثير هنا هو أنّ إدراك إنكيدو البريء الذي لم تلطّخه القوانين والأعراف الإلهيّة والمجتمعيّة بعد قد نظر إلى شمخة بوصفها أنيسًا. لم يرفضها حتّى بعد أن تسبّبت بنكران جماعته له. عاد إليها وحدها لتكون جماعته التي لا يعرف غيرها. لا يفكّر إنكيدو هنا بمنطق البشر، بل بمنطق حاجةٍ أخرى: الانتماء إلى الآخر. والآخر هنا ليس إلا شمخة وحدها. بدأ إنكيدو التلقّي من مرشدته الجديدة في عالمه الانتقاليّ، بدأ الإنصات، محاولة الفهم، والسّعي إلى ما ومَنْ يُكمّله. ولذا ظنَّ أنّها هي من ستكمّله حين باح لها بأنّ «قلبه يرغب بصديق»، أيّ صديق، فوضع ثقته التامة بها لتكون مرشدته في هذا المَطْهَر، كما كانت بياتريتشه مع دانتي. تبادره شمخة بعد عودته إليها مباشرةً بعبارة غريبة: «ستكون حكيمًا يا إنكيدو، مثل إله ... تعال لآخذك إلى قلب أوروك ... حيث يوجد گلگامش». تنبع الغرابة هنا من أنّ مسألة الرحيل إلى أوروك لم ترد على لسان أحد من قبل. كان الهدف الوحيد من إرسال شمخة هو إضعاف إنكيدو فقط، لا إدخاله إلى عالم أوروك. هل الفكرة فكرتها وحدها؟ لا يسعفنا النص هنا، ولذا لا بدّ من التخمين.
كلام شمخة مع إنكيدو يتراوح بين التّحريض والإغواء: تحريض من خلال التّقريع، وإغواء من خلال المديح. ولا نعلم سبب جرّ شمخة لإنكيدو إلى عالم أوروك وعالم گلگامش. هل هو بدافع جرّه إلى فخ گلگامش بحيث يتصارع العملاقان ويلقى إنكيدو الهزيمة على يد الملك-الإله؟ أم هو بدافع الثّقة بإنكيدو من أجل تخليص أوروك من الطاغية گلگامش؟ أم هو بدافع الحب إذ تقول له صراحةً إنّه هو وحده مَنْ تليق به الملوكيّة؟ لا أدلّة واضحة على السّياق الثّالث، ولكن هناك إلماحات كعادة الملحمة. إذ كان ينبغي منطقيًا أن ينتهي دور شمخة بعد أن يُرفَض إنكيدو من جماعته ويبقى وحيدًا ضعيفًا. ولكنّها بقيت معه، وعاودت معه علاقةً جنسيّة أجمل وأطول، لا بدافع الشّهوة وحدها هذه المرة، بل بدافع الانتماء. انتماء كلٍّ منهما إلى الآخر، انتماء اللامنتميَيْن: العاهرة ذات الدور الضيّق المحدود، والهمجيّ المنبوذ من جماعته. وهنا يبدأ اللوح الثاني، في الجزء الثاني من قصة شمخة وإنكيدو.
إنكيدو جالسٌ قبالة الغاوية،
يمارسان الحبّ معًا.
إنكيدو نسي أين ولد.
لستّة أيّام وسبع ليالٍ،
وإنكيدو منتصبٌ
يضاجع شمخة.
يبدأ اللوح الثاني بالجنس. ينطلق من مضاجعةٍ بدأت ليلًا وانتهت صباحًا. جملة «نسي أين ولد» محوريّة هنا لأنّها مثقلة بدلالات عديدة: إذ تدلّ على روعة الجنس الذي استمر أسبوعًا (ومن يُنكر؟!)، كما أنّها إشارة إلى بداية الوعي وانتهاء مرحلة قديمة، وكذلك هي إشارة إلى انتماء جديد إلى شمخة أولًا، وإلى البشر ثانيًا. نشهد هنا حياة إنكيدو الجديدة، نشهد ولادته الجديدة التي تمّت بإرادته. ولد لأنّه يريد أن يولد، في هذا المكان وفي هذا الزمان ومع هذه الأنثى بالذات. ولد لأنّه يسعى إلى الانتماء لها وحدها. وعلى يدها وحدها ستكون بداية إنكيدو الجديد. ويمكن للقارئ ملاحظة تغيّر نبرة شمخة عند حديثها مع إنكيدو من الأمر الجازم إلى التّحايل على الأمر من «تعال أقودك» إلى «قم أصطحبك» كي تحرّض ذكوريّة إنكيدو من جديد ليصير هو السيّد، بحيث لا تكون هي إلا رفيقة درب لا قائدة، مع أنّ واقع الحال يشير إلى أنّ زمام القيادة بيدها وحدها، وإن كانت تحرص دومًا على تقديمه على نفسها في الكلام، بل وبثّ شعور المشاركة لديه، أن يكون شريكًا لها في المصير، حين خلعت ثوبًا من ثوبيها وألبسته إياه:
خلعتْ ثوبًا،
أًلْبَسَتْه (ثوبًا) واحدًا
والثّوب الثّاني
لبسته هي.
ماسكةً يده
تقوده كالصّغير
إلى مفازة الرّاعي،
حيث الحظيرة.
الدلالات هنا أوضح من أن تُفسَّر: مرحلة إنكيدو الجديدة الانتقاليّة تنطلق من شمخة ماديًا ومعنويًا، جسدًا وثيابًا، وعيًا ولاوعيًا. والأهم هي أنّها المرشدة دومًا، حين تُنقّل إنكيدو معها عبر مراحل التطوّر البشريّ من «الهمجيّة» وصولًا إلى «التحضّر». تحثّه أولًا على النّهوض عن الأرض «سرير الراعي» والمضيّ إلى مقام الإله آنو «حيث ينهمك الرجال بالعمل»، وكأنّنا هنا أمام سيرورة تطوّر البشر من التبطّل (الصّيد والرعي) إلى العمل (الزراعة)، ومن ثمّ إلى تناول الطعام المطبوخ، أي بمثابة قَطْعٍ نهائيّ مع المرحلة الوحشيّة، حيث أزال شعر جسده ومسح نفسه بالزيت «وتحوّل سيّدًا»، وإنْ كان سياق النص غير واضح تمامًا في مسألة الطعام: هل هو تحضّر أم إيماءة سلام؟ بمعنى: آكل معك كي نتآلف ونصبح شركاء في الطعام، ونُنحّي العداوات.
تنتهي مرحلة إنكيدو الانتقاليّة على دفعتين: أولًا، حين أنهى طعامه وترك الرّجال الباقين، شركاء طعامه، يستغرقون في النوم، وبقي وحده مستيقظًا يحرسهم. تترافق نهاية المرحلة الانتقاليّة مع بداية اغتراب إنكيدو، ووعيه باغترابه. إذ إنّ دلالات الحارس لا تقتصر على القوّة والصّرامة والمراقبة والمسؤوليّة (التي سيُبرهن إنكيدو على جدارته فيها كلّها لاحقًا)، بل أيضًا على العزلة والوحدة؛ ليس من قبيل المصادفة أن تكون تأمّلات العزلة وقصائدها مرتبطةً دومًا بأن تكون وحيدًا في الليل، تحرس نفسك وربّما تحرس الآخرين معك. وهذه العزلة الماديّة ستمتزج لاحقًا مع عزلة روحانيّة تزيد وطأتها في نفس إنكيدو شيئًا فشيئًا حتّى بعد أن ظنّ أنّه وصل إلى مبتغاه بوصفه واحدًا من البشر. وتتمثّل الدفعة الثانية من نهاية المرحلة الانتقاليّة حين استقبل إنكيدو الفتى الذاهب إلى العرس في أوروك، فعرف عادة گلگامش في الدّخول على العروس قبل عريسها، وهي عادةٌ وهبتها الآلهة له لأنّه ملك وشبه إله، فقرّر مواجهته. مواجهة إنكيدو هنا أيضًا ذات معنيين، إذ لا تقتصر على مواجهة گلگامش بكونه فردًا واحدًا فقط بقدر ما هي مواجهة وتمرّد على الآلهة وعلى القانون الإلهيّ، وكأنّنا نشهد هنا الصّراع الأزليّ بين قانون الطّبيعة (ممثّلًا في إنكيدو الذي لم يتخلّ عن جذوره بالمطلق) وبين القانون الإلهيّ (ممثَّلًا في گلگامش ابن الآلهة وخليفتهم في الأرض)؛ الصّراع الذي لا سبيل إلى إيقافه أو التّحايل عليه حتّى لو توافق ممثّلاه. لا مفر من الصّدام، لأنّ طبيعة هذا الصّراع أكبر من الأفراد.
حين يشقّ إنكيدو طريقه إلى أوروك، يُنهي مرحلته الانتقاليّة ويبدأ مرحلته الجديدة بوصفه «بطلًا بشريًا». ونجده للمرة الأولى وقد صار متقدّمًا على شمخة، إذ يشير النص صراحةً: «يذهب إنكيدو في المقدّمة/ وشمخة من بعده»، وكأنّ منطق الأمور «الواقعيّ» قد عاد من جديد، وعادت المرأة إلى دور التّابع، إلى أن اختفت من الصّورة نهائيًا بعد دخولهما إلى أوروك وتدشين مرحلة الصّراع بين البطلين الذَّكرين. ومع دخول إنكيدو إلى الصراع ونهاية دور شمخة، سيحاول إنكيدو التّماهي مع دور الذَّكر البشريّ، وسيُطلق لعناته في ما بعد على شمخة وحدها لأنّها السبب الذي أدّى إلى نهايته. ولكن ندرك حين نقرأ أنّه لا يعني ما يقول لأنّه كان ساخطًا غاضبًا كأيّ ذكر لا يجد من يصبّ سخطه عليه غير الأنثى. ولكن في حقيقة الأمر، كانت شمخة بالنّسبة إلى إنكيدو سلوانه الوحيد في عزلته، ولم يكن له انتماء إلا إليها وإلى الطبيعة. كانت هي مرشدته والحضن الذي أدفأه حين تخلّت عنه جماعته، ولكنّه رفضها بدوره حين «انتمى» إلى جماعة أخرى. كانت شمخة مرشدته إلى عالم الوعي: أن تعي بشريّتك، ولو كان هذا الوعي يعني الدّمار بالضّرورة. ولكنّ النقطة التي غابت عن مؤوّلي الملحمة وعن إنكيدو نفسه هي أنّ هذا الدّمار ليس بسبب شمخة، ليس بسبب الأنثى، بل بسبب جوهر الوعي في ذاته؛ وأنّ الشّهوة لم تكن وبالًا هذه المرة كما تحاول النّصوص الدينيّة التّبيان على الدّوام، بل إنّها تعني الانتماء. وهنا بالذات محور اختلاف قصة شمخة وإنكيدو عن قصة گلگامش وعشتار، ومحور اختلاف ملحمة «گلگامش» عن غيرها من الملاحم: ملحمة بشريّة في المقام الأول، وإن حاولت الآلهة فرض قوانينها وسطوتها.