تونس: انتخابات رئاسية في الضباب

[تونس في الثاني من أيلول/سبتمبر 2019] [تونس في الثاني من أيلول/سبتمبر 2019]

تونس: انتخابات رئاسية في الضباب

By : Thierry Bresillon تيري بريزيون

 

لقد بدأت الحملة الانتخابية في تونس في أجواء مشدودة الأعصاب. ونادراً ما كانت مفتوحة الى هذا الحد على كافة الاحتمالات. باختيارهم الرئيس، سوف يحدد التونسيون في الوقت نفسه دورَه في المؤسسات.

من شبه المستحيل التنبؤ اليوم بمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية، بل وحتى التكهن بالشخصيتين اللتين ستبقيان في ال 15 من سبتمبر/ أيلول حتى الدورة الثانية، من أصل ال26 مرشحاً في الدورة الأولى. كان موعد الانتخابات في البداية قد حُدِّد بدايةً ب 17 من نوفمبر/تشرين الثاني ثم تم تقديمه بعد أن توفي الباجي قائد السبسي في 25 يوليو الماضي.

منذ أشهر خلت، وسط الفراغ الذي كانت قد خلّفته خيبة الأمل الكبرى من الطبقة السياسية التي تجلّت بشكل مريع خلال الانتخابات البلدية عام 2018، كان الوزير الأول يوسف الشاهد يبدو كمن يجمع بين ميزتَيْن، ألا وهما النأي بنفسه من ناحية عن حالة التفكك التي أصابت حزب نداء تونس الموغل في ممارسات الإتجار الانتهازِي، وهو الحزب الذي حمل الباجي قائد السبسي الى السلطة، ومن ناحية أخرى التمكن من زمام الأمور عبر وجوده على رأس الحكومة. وحتى لو كان قد تعمّد ترك الأمور مبهمة بالنسبة لنِيّته الترشح، حيث كان من الممكن تماماً أن يبقى في قصر القصبة ويضع حليفاً له في الرئاسة، إلا أن شبابه وخبرته في الحكم قد جعلا منه المرشح المحتمل الأكثر حظاً.

بروز “الشَعْبَوِيّين” المفاجئ

ولكن سرعان ما تراجعت شعبيته بسبب نتائج حكمه غير المرضية، والاعتياد عليه كوجه لم يعد جديداً تماماً على الساحة، وتعقدت الأمور مع بروز شخصيات جاءت تملأ الفراغ بين الدولة والشعب. ولا سيما منهم عبير موسي، الوريثة المعلنة للنظام القديم، التي تركب موجة الحنين الى دولة “قوية”، إلا أن ترشحها يشق الصفوف ويثير الخلاف بما لا يجعلها مرشحة خطيرة فعلاً.

لوحظ بشكل خاص من ضمن الشخصيات التي برزت نبيل القروي، عملاق الإعلام والوسائل السمعية البصرية، ومؤسس قناة “نسمة” التلفزيونية عام2007، وهو يجول منذ 2015 في المناطق المنسية من البلاد مع جمعيته الخيرية “خليل تونس”، ويستعرض عملياته الخيرية على قناة التلفزيون التابعة له.

وحتى لو كان سخاؤه يذكر بعمليات التوزيع في عهد التجمع الدستوري الديمقراطي، ونظام المحسوبيات والزبائن الذي كان في قبضة العهد البائد أكثر مما يوحي بالدولة الراعية، إلا أنه قد جعل لنفسه مع ذلك رصيداً سياسياً بتلبية تطلعات شعبٍ تضرر مباشرة من الشرخ الذي قسم البلاد الى شطرين.

ولقد أعلن ترشحه في 28 أيار/مايو، وبعدها بأسبوعين وضعه استطلاع للرأي العام في الطليعة. وكان هذا المؤشر من الخطر بحيث جعل الحكومة تضطلع بمحاولة يائسة لقطع الطريق عليه بإدخال تعديلات، في 18 يونيو /حزيران، على القانون الانتخابي.

ولكن الباجي قائد السبسي تأخّر بإصدار القانون المعدل فلم يدخل حيّز التنفيذ. ولقد تم اعتقال نبيل القروي في 23 آب/أغسطس، بناءً على أمر احتجاز صدر في صبيحة اليوم نفسه، في دلالة واضحة على الاستخدام السياسي للعدالة. ويمكن قراءة السرعة الفائقة في تنفيذ أمر الإيداع في السجن الصادر عن دائرة الاتهام في صباح اليوم نفسه في منتصف العطلة القضائية، كدليلٍ جلي إما على إرادة رفع الحصانة عن المتهم في حال انتخابه، أو ببساطة شديدة وبشكل مبتذل التخلص من منافس. أياً كانت الحال يبقى نبيل القروي حتى وهو في المعتقل مرشحاً للانتخابات بل بات محاطاً الآن بهالة الضحية، ضحية ما أسماه أنصاره “الممارسات الفاشية”.

الشخصية الغائبة: والد الأمة

لقد أضيف الى الساحة السياسية في تونس مع وفاة الباجي قائد السبسي مكان شاغر جديد: مكان والد الأمة، الحارس لاستقرار الدولة. وفي حين كان الباجي قائد السبسي حتى أيامه الأخيرة موضع الانتقاد الشديد إلا أن الرئيس الراحل الذي تتلمذ على أيدي الحبيب بورقيبة كان آخر العنقود من بين مؤسسي الدولة المستقلة.

ولقد كشف رحيله عن شغور مكان الشخصية التي تبعث على الاطمئنان في مشهد يحتله الغوغائيون (الديماغوجيون) والطامعون. وهو الأمر الذي أدركه تماماً المقربون من الرئيس، فدفعوا بِعبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع، ليقوم بهذا الدور. ولقد صرح الزبيدي، وهو الذي برز في صحبة الباجي قائد السبسي في آخر صورة علنية له، وكان ترتيبه لمراسم الجنازة موضع التقدير العام، وحظي بحملة على الفيسبوك نادت بدعم ترشحه فوراً، إنه وافق على الترشح في هذا الزمان المضطرب مدفوعاً بواجب “الجندي” في المعركة. وسيخوض الزبيدي الانتخابات كمرشح مستقل وبمساندة من آخرين، ولا سيما حافظ قائد السبسي، الذي ما زال على رأس حزب نداء تونس. ويأتي هذا الترشح ليثلج صدر ابن الرئيس الراحل، الذي كان يبدو وكأنه خرج نهائياً من الحلبة بعد التفكك الذي أصاب حزبه. فانتخاب عبد الكريم الزبيدي من شأنه أن يسمح لزمرة قائد السبسي أن تحقق الغاية التي كافحت من أجلها طوال السنوات الخمس الفائتة: البقاء في دوائر السلطة بعد رحيل الأب.

الزبيدي أصله من مدينة المهدية وعمره حوالي السبعين سنة، ويستند الى دعم النخبة الساحلية التي تعتبر نفسها صانعة الدولة الحقيقية منذ 1956، وترى في شخص الزبيدي وسيلة لاستعادة الدور الذي كانت قد خسرته منذ الثورة. إلا أن عبد الكريم الزبيدي، حتى لو أحاطته هالة من المهابة لكونه من الجيش الذي له منزلة كريمة في نفوس الشعب، فأقل ما يقال فيه أن ليس لديه البلاغة التي كان يتمتع بها الباجي، المتمرس بمهنة المحاماة. وهذا نقص لا يستهان به في الحملة الانتخابية الرئاسية، حيث يعتبر فن الخطابة في منصب الرئاسة بأهمية الصلاحيات الدستورية، ليس إلا.

نزعتان للهيمنة... معطّلتان

وليست ملكة التعبير المشكلة الوحيدة لدى المرشح الزبيدي. فعلاوة على يوسف الشاهد، ثمة ما يقارب الستة مرشحين آخرين يودون الاستحواذ على إرث العائلة الدستورية (المنبثقة من الحركة الوطنية) وعلى أشلاء نداء تونس. وذلك دون أن يكون لديهم اقتراح سياسي حقيقي، ودون أن يستطيعوا تجسيد شخصية رئاسية جليلة، إلا أنهم يتنازعون شرف تطبيق البرنامج الاقتصادي المستلهم من المُمَوّلين الدوليين. وهو ما يهدد بشكل جماعي فرصة عائلتهم السياسية بالبقاء حتى الدورة الثانية.

ولعل قَلْب ترتيب الجدول الزمني للانتخابات -أي الإبقاء على الانتخابات التشريعية بتاريخ 6 أكتوبر، فيما يلي الانتخابات الرئاسية، قد أجبر النهضة على كسر قاعدتها الذهبية: أي عدم التواجد وحدها في السلطة، في شبه عزلة لأن ذلك قد يجمع كل الخصوم ضدها. إلا أنه لا يمكن للحزب أن يبقى مكتوف الأيدي في هذه الحملة الانتخابية التي تتم عشية الانتخابات التشريعية. فلقد تقدم بمرشح للانتخابات الرئاسية، وخلافاً لتوصية رئيس الحزب، فالمرشح يأتي من صفوفها. وهو عبد الفتاح مورو. محام من العاصمة، يشغل حالياً منصب رئيس مجلس نواب الشعب بالنيابة، ويعتبر في الوقت نفسه شخصية غير نمطية شعبيّة الى حد بعيد في صفوف الحزب. فهو فصيح اللسان، بل وحاذق، وقد يستطيع استقطاب الناخبين خارج القاعدة المعتادة من أنصار الحركة.

إلا أنه سيضطر، من ناحية، لمواجهة غريم ينافسه على نفس الجمهور، هو الأمين العام السابق للنهضة ورئيس الوزراء الأسبق في فترة ما بين 2011 و 2013، حمادي جبالي، المنفصل عن الحزب منذ 2014. ومن ناحية أخرى فقد تميل قاعدة النهضة بشكل أكبر الى مرشحين يجسدون القطيعة مع النظام القديم مثل منصف المرزوقي، الرئيس الأسبق في فترة المجلس التأسيسي. أو قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري، والجديد على المشهد السياسي، والمشهود له بنزاهة الأخلاق، والقرب من مثل الثورة العليا، والذي صرح مؤخراً بمواقف محافظة حول القضايا المجتمعية.

وبغض النظر عن صعوبة لم الشمل حول مرشح بديهي، يبدو أن الدستوريين والإسلاميين على حد سواء يتقاسمون المشكلة نفسها: صعوبة تحويل تراثهم السياسي الى مشروع حقيقي، وذلك لعدم تواجدهم الراسخ داخل القوى الاجتماعية. فنحن أمام نزعتَيْن متنافِسَتَيْن للهيمنة، واحدة منهما أثبتت وجودها ولكنها غير مُوَحَدة، والثانية ما زالت تسعى للقبول بها في الساحة، إلا أن لكل منهما هوية تعجز عن تحديث نفسها.

يسار منقسم ومنعزل

هل من الممكن والحال هذه لشخصية تمثل قوى جديدة أن تفرض نفسها في الساحة؟ إن الجبهة الشعبية، التي تمثل وحدة الشقيقين اللدودين في أقصى اليسار، اليسار الماركسي والقوميين العرب، قد انشقت، وهي تقدم مرشّحَيْن: حمة همامي، المعارض التاريخي للدكتاتورية، على رأس حزب العمال (حزب العمال الشيوعي التونسي سابقاً) الذي لم يفلح في بناء قوة شعبية قادرة على تحويل الواقع، ومنجي رحوي، الذي يركز على قضايا الهوية أكثر من اهتمامه بالقضايا الاجتماعية.

ولقد توحدت القوى الاجتماعية-الديمقراطية من ناحيتها خلف ترشيح عبيد البريكي، إحدى الشخصيات الرئيسية في البيروقراطية النقابية من عهد بن علي. أما حركة التكتل، وهو الحزب القديم في المعارضة اليسارية السرية، والتي أختفت تقريباً من الساحة، فلقد تقدمت بترشيح إلياس الفخفاخ وزير المالية بين 2012 و 2014. ومن ناحيته يخوض محمد عبو، مرشح التيار الديمقراطي، بما ظفر به من نجاح نسبي في انتخابات البلدية، حملة انتخابية تحت راية مكافحة الفساد وضد استمرار ممارسات العهد البائد، إلا أن مواقفه من الاقتصاد تنحو نحو الليبرالية.

المفارقة المتمثلة بالرئاسة

ثمة شيء من الغرابة في الاهتمام الشديد بخوض حملة الانتخابات الرئاسية وما يصحبها من حدة المواجهات في حين أن النظام هو نظام برلماني مبدئياً، تم وضعه أساساً للحيلولة دون عودة الشخصانية في الحكم. ومن المفترض أن تكون الانتخابات الفضلى هي الانتخابات التشريعية وأن يكون المنصب الذي يثير أكبر قدر من الأطماع هو منصب رئيس الوزراء. إلا أن الانتخاب العام المباشر لرئيس الجمهورية من قبل الشعب بأسره ورواسب الشخصانية في الخيال الجماعي، والطابع المتناقض للدستور الذي يحتفظ بإمكانيات سلطة شخصية خاصة برئيس الدولة وبصمات الباجي قائد السبسي الذي سعى لنيل أكبر عدد ممكن من الصلاحيات الدستورية، وختاماً كون الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة تجري قبل الانتخابات التشريعية، كل ذلك يساهم في منح الأولوية لمنصب الرئاسة.

إلا أن ثمة أمر آخر ما زال مستمراً عبر مقاليد الرئاسة، بغض النظر عن الإبهام في نصوص الدستور، فلطالما كانت السلطة الفعلية للمؤسسة الرئاسية تنبع، حتى في زمن الملكية الحسينية (1705-1955)، من كونها المركز الذي تجري فيه الموازنة بين الزمر السياسية والإتجارية الانتهازية، لصالح ذوي الحظوة المقربين من السلطة، (وهو الأمر الذي لا يقتصر على تونس وحدها).

انتخابات مفتوحة على كل الاحتمالات

إن الرهان الذي بات يتضح بشكل متزايد في هذه الانتخابات (بعد تراجع السؤال عما إذا كان يتوجب إدماج النهضة في الحكم أو عزلها والذي كان هاجساً عام 2014، تراجعه في الحملة الى درجة ثانوية) هو دور الرئيس داخل نظام الحكم. هذه هي إحدى المسائل السياسية التي ستطرح في الأسابيع القادمة بل وما بعدها بفترة طويلة.

هل عليه أن يكون زعيماً، يقود مشروعاً سياسيا ويضعه موضع التنفيذ؟ أم سلطة تعلو فوق الأحزاب، تسمح للبرلمان والحكومة بأن يمارسا كامل سلطاتهما الدستورية؟ هل يوافق التونسيون على بقائه ممثلاً لطغمة من المصالح التي تتحكم بتوزيع موارد الدولة، أم أن موضوعية المؤسسات ومقتضيات المجتمع هي التي ستنجح في تحويل هذا الدور الى ما سواه؟

يجاهرغالبية المرشحين علناً بإرادتهم لعب دور الزعيم القوي، بما يتماشى والأجواء “القيصرية” السائدة بعد سنوات من تمدد سلطة الدولة والتقلبات البرلمانية بين التحالفات، والسيادة المهتزة من جراء الدخول الكثيف للأطراف الخارجية على الخط. وأياً كان المرشح الذي ينجح فسوف سيتأثر بالتوازنات التي ستسفر عنها الانتخابات التشريعية. وعندها ستعود مسألة الحكم مع النهضة أو دونها الى الواجهة كمسألة ذات أولوية.

تعيش تونس، بالرغم من الثغرات التي تشوب الديمقراطية فيها (القضاء الخاضع لنفوذ السلطة التنفيذية، وتشابك العاملان الاقتصادي والسياسي، والميل الى التسلط، وتغييب القضايا الاجتماعية) انتخابات رئاسية مشدودة الأعصاب لا شك، إلا أنها مفتوحة الاحتمالات وبشكل لا يتوفر حقيقةً في كثير من البلدان.

[ترجمت المقال من الفرنسية ندى يافي]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬