منذ أن اجتاحت أزمة الديون العديد من بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأنجلوساكسونية -وهي الدول التي بدأ فيها الإنهيار المالي في عام 2008 ونمت فيها النيوليبرالية، بالإضافة إلى العديد من بلدان الوطن العربي التي تراكمت عليها الديون (مثل مصر حيث أعلن رئيس الوزراء المصري الحالي مصطفى مدبولي إن إجمالي الدين الخارجي للبلاد ارتفع إلى 92.64 مليار دولار في نهاية يونيو الماضي، بزيادة 17.2% على أساس سنوي، وأعلنت الأردن أن الدين العام الأردني أرتفع إلى 96 % من الناتج في 2018، وهكذا مرورًا بدول عربية أخرى وصولًا حتى دول الخليج الغنية بالنفط) صارت تطرح سندات في أسواق الدين العالمية. وهذا كله في سبيل الإلتحاق بركب السوق العالمي والعمل على تنفيذ السياسات النيوليبرالية بخطى مُتسرعة دون النظر فيما ينتج عن هذه السياسات الإقتصادية الطابع من إنعاكسات على الوضع الإجتماعي.
فالأوهام الإقتصادية الرأسمالية التي تنامت خلال العقود الثلاثة المزدهرة والتي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات تتساقط الواحدة تلو الأخرى. وتترك خلفها نيوليبرالية أكثر وحشية ضد المجتمع. والإنجازات الذاتية التي وعدت بها النيوليبرالية وداعبت بها عقل الإنسان تحت ثقافة "المانجمينت" وشعار "الكل مساهم والكل مالك والكل مقاول، أي الكل رب عمله"[1] أوصلتنا إلى حالة وجودية تآكلت فيها دولة الرعاية المجتعمية، وانخفضت الأجور، وتم خصخصة كل شئ لصالح مجتمع المقاولات/الأعمال. بالإضافة لتتابع الأزمات المالية والتي أنبثقت عنها صورة ذاتية –كانت موجودة سابقًا- ولكنها صارت تتصدر الفضاء العام للمجتمع الآن وهي صورة "الإنسان المديون"[2] المُثقل بالذنب لما جرى له، وعليه أن يتحمل عبء هذا الدَّيْن، والإلتزام بتحمل كل التكاليف الكارثية الناتجة عن الإقتصاد النيوليبرالي.
إن السياسات النيوليبرالية الإقتصادية تنتج، بشكل مباشر، علاقة إجتماعية يمكن أن نعبر عنها في ثنائية "الدائن – المديون". والتي بدأت تتنامى في دولنا العربية مُرسخة اللامساواة عبر آليات الإستغلال والهيمنة بطريقة شاملة. فهي لا تفرق بين عمال وبين عاطلين، وبين مستهلكين وبين منتجين وبين نشطين وغير نشطين.. .إلخ. فالكل "مديون" ومسؤول أمام رأس المال، الذي يقدم نفسه بوصفه "الدائن الكلي".
وحتى الشكل الجديد من النيوليبرالية المُتمثل في إقتصاد مُعولم ومدفوع بثورة إلكترونية صار خاضعًا لإقتصاد "الدَّيْن". ففي الديمقراطيات التي هزمت الأنظمة الشيوعية صار هناك "قلة" مُمثَلة في "موظفي صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي، وبعض السياسيين والنخب الإقتصادية" يتخذون القرارات نيابة عن الجميع لخدمة مصالحهم[3]. وفي ظل إقتصاد الدَّيْن تآكلت حقوق الطبقات الشعبية الأوسع في الدول الأوروبية وأمريكا وحُرمت من حصص متزايدة في الثروة، ولم تعد سلطة الشعب السياسية التي تمنحها الديمقراطية التمثيلية "المتوهم في قوتها" قادرة على تغيير الوضع الإقتصادي[4].
وهذا في دول يتم وصفها بـ «العالم الأول» حيث إقتصادات قوية وديمقراطية راسخة وتعليم أساسي متوفر ونسب فساد معقولة وهناك آليات لمحاربتها. فتخيل هكذا ما الذي يمكن أن تنتجه النيوليبرالية في دولنا ديكتاتورية الطابع وهشة الإقتصاد وفي ظل نسب أُمية وفساد قياسية.
صناعة الإنسان المديون
وما سبق يحاول أن ينبهنا إليه موريزيو لازارتو في كتابه الصغير ذي الثلاثة فصول "صناعة الإنسان المدين – دراسة حول الوضعية النيوليبرالية". حيث يشير لازارتو إلى ضرورة الإقرار بحالة "الدائن الكلي" وأن الكل (أفراد ومؤسسات ودول..) مديون. ومع تنامي اللامساواة والفوارق وتفاقمها - وبالرغم من الهيمنة النيوليبرالية واستقرار ثقافتها والتعايش معها- لقد بات حتميًا إعادة تعريفهما في ضوء مفهوم "الطبقية" في المجتمع، وقد آن الآوان لتفعيل النظرية "الماركسية في النقد".
وأعتمد موريزيو في كتابه على نص مغمور لكارل ماركس بعنوان "القرض والبنك" وأعاد تقديم قراءة لنصوص نيتشه خصوصًا "جينالوجيا الأخلاق" وكتاب الثنائي جيل دولوز وفيلكس غوتاري "أوديب مضادًا" الصادر 1972، والإستعانة ببعض كتابات فوكو. وكل هذا لبناء تحليل "للبُعد الإجتماعي للديون" عبر تقديم فرضيتين[5] هما:
1- لا يمكن تفسير البراديغم الإجتماعي عبر التبادل الإقتصادي ولكن عبر "الدين". فالعلاقة الإجتماعية ليست قائمة على التساوي بل قائمة على الـلا تماثل بين "الإقتراض/الدين" والذي يتقدم تاريخيًا ونظريًا على ثنائية الإنتاج/العمل المأجور.
2- "الدين" علاقة اقتصادية غير قابلة للفصل عن إنتاج الذات البشرية وأخلاقيتها. فالديون تُضاعف العمل بشكل كلاسيكي مباشر عبر ما يسمى "الإشتغال على الذات" لدرجة يعمل فيها الإقتصاد والأخلاقيات بشكل مترابط.
في البداية يعمل موريزيو على إعادة تعريف الإقتصاد التمويلي/الرأسمالية المالية بصيغة جديدة ألا وهي إقتصاد الدين. حيث بلغت نسب الديون على الأسر في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا 120% و140% على التوالي، مؤكدًا على أن الإنسان الحديث صار في علاقة يومية مع الدين دون أن يعي هذا، فبطاقة الإئتمان في جيبه تخفي عمليتين جديرتين بالملاحظة وهما :
1- الأتوماتيكية المؤسسة لدين دائم (أتمتة القرض عبر رقاقة الفيزا كارد).
2- تحول حامل بطاقة الإئتمان إلى مدين مستدام.
وبناء على هذا يصير الإنسان مديوناً دائماً لدى مؤسسة تجارية أو مصرفية ما. وهذا يجعل فك الإرتباط بين الإقتصاد التمويلي والديون شبه مستحيل ، ويجعل خصخصة آليات التأمين الإجتماعي، وفردنة السياسات المجتمعية، والرغبة في جعل الحماية الإجتماعية مدفوعة الثمن مسبقًا أبرز ما يميز حقبتنا التاريخية الحالية في ظل تنامي قوة قبضة الدائنين.
ليس هذا فحسب "فإقتصاد الدين" يفرز أخلاقًا خاصة مُخالفة لأخلاق العمل ومكملة له في الوقت نفسه. فقد أُضيف إلى "الجهد/الأجر" الذين يمثلان أيدولوجية العمل، أخلاق ضرورة الوفاء بالدين والشعور بالذنب إذا لم يتم السداد. حيث يستند موريزيو على نيتشه في الإشارة إلى أن الشعور بالذنب هو المفهوم الأساسي للأخلاق وقد صار الآن الأمر أكثر مادية ليتحول إلى أن يكون سداد الدين هو المفهوم الأساسي للأخلاق. وضرب موريزو مثلاً بالحملة الألمانية السياسية ضد الطفيليين اليونانيين الجالسين على البحر بينما الألمان يعملون بكد في صحراء قاحلة. وهو ما عرفه موريزيو بعنف الإشعار بالذنب الذي يعمل على خلقه إقتصاد الدين. وقد شهدنا في محيطنا العربي هذا العنف الذي يخلق الذنب في الخطاب السياسي تجاه الشعوب. ففي مصر نجد إتهامات دائمة من الحكومة للشعب بالكسل. وهكذا في الأردن نجد حملات تدين الشعب الأردني لعدم عمله في محطات البنزين رغم أن أجر العمل لن يوفر لهم أي حياة !
ومما سبق ننطلق إلى مفهوم "التذويت"[6] الذي ينتج عن سياسات الدين. والتذويت كما يعرفه نيتشه هو: الإشتغال على الذات أو بمعنى أدق "تعذيب" الذات، كي ينتج لنا ذات فردية مسؤولة وتشعر بالإمتنان لدائنها. فالإنسان في المجتمع الحديث حر بقدر ما يتبنى نمط الحياة (الإستهلاك، الشغل، النفقات الإجتماعية، الضرائب.. إلخ) المتناغم مع سداد الديون. وعبر التذويت النيتشوي صاغ كل من فوكو ودولوز وغوتاري مفهوماً غير إقتصادي للإقتصاد ألا وهو: الإنتاج الإقتصادي ينطوي على مراقبة الذات والأفعال الحياتية المرتبطة بها ويدخل الإنسان في عملية واسعة وعنيفة لخلق العادات.
ماركس أكثر نيتشوية
لو نظرنا بعدسة موريزيو المُركبة فسنجد أن شعور الإنسان (في ظل سياسات التمويل والفيزا كارد) بالقوة وإمكانية الوصول لأي سلعة أو إشباع أي رغبة ما هو إلا إيهام بإلغاء حالة الإستلاب، فمع الإقتراض، كما يوضح ماركس، تبدأ لعبة ثقة الإنسان بالإنسان "الدائن/المدين" حيث توجد الريبة الفائقة والإستلاب التام، ويتغير مفهوم القرض الذي يتمحور حول "المال" إلى مفهوم أخلاقي يتمحور حول "ثقة" الدائن بقدرة المدين على السداد[7]. ففي نص "القرض والبنك" يشير ماركس إلى أن الدائن يصدر حكماً أخلاقياً وليس إقتصادياً على المدين، ومن خلال هذا تتحول حياة المدين ونشاطه ومواهبه في نظر الدائن كضمانة للسداد، وبتعبير آخر: كل الفضائل الإجتماعية للمدين ومجموع نشاطه الإجتماعي ووجوده نفسه (لحماً ودماً) لا يمثل للدائن إلا فاتورة تسديد قرض وفوائده.
وفي الجزء الثالث من "رأس المال" يعرض ماركس فكره حول إقتصاد التمويل والقوة التي يملكها أصحابه على خلاف الإقتصاد الصناعي الذي يتعرض من حين لآخر لعمليات تسييل وإحلال. فالقرض يتيح لصاحبه الرأسمالي الدائن التصرف المطلق في رأسمال الآخر وملكيته وبالتالي في عمله. وبالتالي يحكم قبضته على التصرفات الإجتماعية. وعمل لينين على توسيع هذا المفهوم حيث يشير إلى أن تركيز رؤوس الأموال وتصاعد العمليات البنكية يغير الدور الذي يلعبه الدائنون. حيث يتحولوم مع الزمن وبفضل البنوك إلى دائن جمعي لا عقلاني في منطقه حيث يسعون دائمًا لتوليد المال من المال. وقد شدد دولوز[8] على هذه النقطة في دروسه فالفعل الرأسمالي الجمعي لم ينتج عبر إقتصاد الدين مجرد إتفاقية إقتصادية أو وظيفة جديدة لإقتصاد حقيقي بل أنتج عملة- دين (مثال: إمتلاك سندات الديون بوصفها عملة أي رأسمال يمكن الإستثمار فيه لجني الأرباح) قادرة دائمًا على التدمير وخلق نظام جديد لها وقتما تطلب الأمر.
وهذا المنطق اللاعقلاني يتجسد دائمًا في كل مراحل الليبرالية التي تنتج عنها مشاكل عنيفة شبه إتوماتيكية تظهر تجلياتها في انتهاج الحكومات سياسات عنيفة داخليًا أو انطلاق حروب بين الأمم. وهذا ما شهده العالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية والعديد من الحروب الأخرى والمناوشات الحاصلة حاليًا في منطقة الخليج نتيجة لسياسات تبدو غير مفهومة من قبل القوى الرأسمالية الكبرى في العالم والتي تبحث عن تعزيز أرباحها لسد عجز الموازنة لديها. فتسديد الدين وجني الأرباح يعتمد، كما يشير موريزيو، على أكثر من زمن العمل، يعتمد على زمن آخر يحمل القدرة على التدمير والإستغلال والإخضاع[9].
الخاتمة
إقتصاد الدين يستخف بالحدود والقوميات ويغزو الدول عبر توليد أخلاق الشعور بالذنب والخوف من الفشل وشل مخيلة البشر لكي لا يفكرون إلا في عملية سداد الديون حتى لا يتم سحقنا من قِبل الدائن الجمعي العظيم لتحالف الرأسماليين ذوي القدرة على التمويل. والجدير بالملاحظة أيَضًا أن إقتصاد الدين يضيف للحقبة النيوليبرالية وللأنظمة الديمقراطية الغربية قدرة جديدة وهي "الإبتزاز"[10] على العديد من الأصعدة سواء أخلاقية أو إقتصادية أو عسكرية. ولو نظرت عإلى وضعنا العربي لوجدت العديد من الأمثلة أبرزها ما يحدث في منطقة الخليج من "حَلْب" بلغة ترامب، والحرب الإقتصادية الإمريكية ضد الصين.
ولهذا يقترح موريزيو إعادة تفعيل مفهوم "الصراع الطبقي" مرة أخرى لكي نقاوم أوجه الإستغلال والهيمنة. فالأوليغارشيات والطبقة الثرية والأرستقراطية المتربعة على السلطة ليس لديها أي برنامج بديل سوى التربح من الديون. فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك المركزي الأوروبي وما يقومون به من "إبتزاز" للدول والأسواق سيبقى دائمًا حلولاً نيوليبرالية لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع.
فطالما بقيت رأسمالية الديون تعمل بهذه الطريقة عبر الترحال الهذياني للأموال وتأميم خسائر الأغنياء وتوسيع فكر الإبتزاز، فإنها ستؤدي إلى إرتفاع المد القومي العنصري وكراهية الآخر وصعود الأفكار السلطوية مرة أخرى. وي لعل خير مثال على هذا هو عودة حزب فرانكو التاريخية في الإنتخابات الأخيرة في إسبانيا.
أخيرًا وبإختصار لقد إنهزمنا، وأضعنا الكثير من الوقت في التبرير. علينا الآن تفعيل أفكار أكثر جذرية وراديكالية لوقف إقتصاد الديون، فهو ليس مشكلة إقتصادية أو أماً حتمياً، بل آلية سلطة لا تعمل إلا لإفقارنا وحسب.[11]
هوامش
[1] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 9
[2] المصدر السابق، ص 9
[3] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 8
[4] المصدر السابق ص 8
[5] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 11
[6] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 41
[7] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 54
[8] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 70
[9] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 81
[10] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 150
[11] صناعة الإنسان المدين، موريزيو لازاراتو ص 154