العراق ظمآن، وجنون الإنسان هو السبب

[مستنقع جاف قرب مدينة الناصرية جنوب العراق] [مستنقع جاف قرب مدينة الناصرية جنوب العراق]

العراق ظمآن، وجنون الإنسان هو السبب

By : Peter Harling بيتر هارلينغ

[ترجمت المقال ندى يافي] 

من وفرة المياه ولد العراق قديماً. يشهد على ذلك اسم “بلاد ما بين النهرين”. وأيّ نهرين! نهر الفرات بكل جبروته، المنبثق من أعالي شرق الأناضول، الجاري عبر البادية السورية الى حين لقائه مع نهر دجلة المتألق، الجاري على سفوح جبال زاغروس، بمحاذاة الحدود الغربية لإيران.

من اتحاد كلا النهرين نشأت سهول منبسطة وخصبة حوّلت مصير البشرية. في تلك الحقبة من التاريخ، وبعد أن مضت آلاف السنين على تمكن البشرية من النار، تعلمت بعد ذلك كيف تطوع المياه لخدمتها.

اليوم باتت الوفرة الفائضة مجرد ذكرى بعيدة. فلقد أصبح التزود بالمياه في العراق عرضة للتقلبات أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك فما زالت البلاد تستهلك المياه وتلوثها كما لو لم يكن ثمة مستقبل على الأبواب. هذا التبذير في أثمن ما لدى العراق من موارد قد شمل كل المستويات في الدولة والمجتمع، بل بات يهدد وجود الشعب نفسه، من حيث الأمن الغذائي والصحة العامة بل والقضايا الجيوسياسة والشؤون النفطية.

انتفاضة الطبيعة

ويبدو أن البيئة تقوم اليوم في العراق بهجوم مضاد. فالأمطار تهطل بعنف غير مسبوق والفيضانات تجتاح المدن وتفسد المناطق الريفية. تتكاثر العواصف الرملية فتهب سحب من الأتربة الصفراء، تغطي الأبنية. باتت مواسم القحط تمتد أحياناً لفترة من الزمن، سنتين أو ثلاث على التوالي: وكان آخرها قد جعل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية متيبسة، ترعى فيها قطعان الماشية الهزيلة الواهنة.

أحد شبان بغداد، من الذين شبوا وسط أشكال الدمار التي يلحقها الإنسان بالطبيعة، لخص حساسية البلد للتقلبات المناخية بهذه العبارة:“لقد جاء الآن دور انتفاضة الطبيعة”.

وفي الوقت الذي يبتلع فيه العراق مياهه، يلجأ العراقيون الى تفسيرات واهمة ومُطَمْئِنة عن أسباب شح الموارد. يتهمون جيرانهم بمصادرة الذهب الأزرق، الذي يعتبرونه من حقوقهم بالولادة. “أحرى بنا ألا نستورد منتجات غذائية من تركيا، سوريا أو إيران”. هذا ما يذكره بتململ أحد كبار الموظفين من وزارة الخارجية العراقية، والذي عمل طويلاً في ملف المياه. “هذه الفاكهة والخضراوات قد زرعت بالمياه التي انتزعت منا، وينتهي بنا الأمر لشرائها”.

قد تقطع أنقرة إمدادات المياه

دجلة والفرات يعتمدان بالفعل الى حد كبير على الإمدادات من الدول الأخرى، ولا سيما منها تركيا وإيران، اللتان تسحبان كميات كبرى من المنبع. في السبعينات، قامت أنقرة، شأنها في ذلك شأن بغداد، بالاستثمار بشكل مكثف في تشييد السدود. ستة سدود من أصل ال22 التي خططت لها تركيا لم تنجز بعد. ولكن الخطر يلوح في أفق العراق: فعند اكتمال مسبحة السدود هذه سينخفض منسوب مياه الفرات بنسبة 25% من المنسوب الأصلي. لقد تجاوزت منذ الآن قدرة تركيا الإجمالية على تخزين المياه المنسوب السنوي للنهرين مُجْتَمِعين. أنقرة قادرة، لو أرادت، ومنذ نهاية التسعينات، على إقفال صنابير المياه وقطع المياه عن العراق لسنة كاملة. كان افتتاح السدود الكبرى في تركيا قد جعل من دجلة شبه جدول صغير يستطيع سكان بغداد اجتيازه مشياً على الأقدام.

مؤخراً، سعت إيران التي تأثرت بقحط شديد، الى السيطرة على مواردها وإعادة توزيعها على الصعيد الوطني. ولقد حولت بالتالي مياه روافد هامة كانت تصب في دجلة، مثل سيروان وكارون.

وما يزيد الطين بلة أن إيران قد استخدمت مجرى هذين النهرين مصباً لمياهها الوسخة المستهلكة في البيوت والزراعة والصناعة، فراحت ترسلها الى ما وراء الحدود، بدل معالجتها على أراضيها. “كل ما يصلنا من إيران هو الميليشيات والمخدرات والمجارير”، هذا ما يقوله بأسف أحد سكان البصرة، المدينة الثانية من حيث الأهمية بعد العاصمة وموقعها الأكثر جنوباً في البلاد. ما ينبعث من روائح كريهة تتصاعد من سطح المياه اللزجة في مصب شط العرب، الطريق الملاحي الذي يشكله ملتقى نهري دجلة والفرات، يؤكد صحة هذا القول.

 

أما سوريا التي أنهكها النزاع في السنوات الأخيرة، فليست في موقع يمكنها من زيادة المعاناة في العراق. إلا أن إعادة الإعمار فيها سوف تتوقف بلا شك على إحياء القطاع الزراعي الذي سيضطر لضخ المياه الوفيرة من الفرات.

العراق محاط بالبلدان المتعطشة للمياه في منبعها، ولا حول ولا قوة له في الدفاع عن مصالحه فيما يتعلق بالنهرين الكبيرين. تتوالى الاتفاقات حول تقاسم المياه منذ 1920، ولكن يجري تجاهلها في الواقع في غالبية الأحيان. فكيف لطبقة سياسية عراقية متشرذمة أنانية يشكل هاجسها العمل قصير الأجل أن تحصل على شروط أفضل اليوم؟ ولئن كانت الأبعاد الخارجية للقضية مقلقة إلا أنها في الوقت نفسه مبالغ بها. فأصل مشكلة المياه يكمن في العراق نفسه، والحلول المتاحة متوفرة داخل حدوده. ومع أن حوالي 97 بالمئة من أراضيه يمكن تصنيفها من بين الأراضي القاحلة أو شبه القاحلة، إلا أن العراق يبقى غنياً بالمياه حسب المعايير الإقليمية: عام 2004 كان العراق يحظى ب 2500 متر مكعب لحصة الفرد من المياه العذبة. أي ما يفوق معدلات المملكة المتحدة وألمانيا. أما الدول العربية فما من دولة بينها تحظى بأكثر من 1000 متر مكعب للفرد، في حين أن الدول الفقيرة بالمياه من بينها كالكويت واليمن والسعودية وليبيا تحظى بمعدل دون ال100 متر مكعب للفرد.

تغيّر المناخ

إلا أن هذه الثروة العراقية تبدو وكأنها تتبدد بالسرعة التي تتجدد فيها. فالعراق ينتج سنوياً حوالي 22 مليار من الأمتار المكعبة من المياه العذبة، ويتبخر منها 19 مليار متر مكعب في أجواء من الحرارة القصوى. عملية التبخر هذه هي التي تجعل البلاد بحاجة ماسة للمساهمات الخارجية. وتحصل هذه العملية على وجه الخصوص في البحيرات الاصطناعية الممتدة على مساحات شاسعة والتي تستخدم كخزانات للمياه، وهو استخدام لا يتناسب مع بيئة البلاد، ومع ذلك فقد وُضِع في قلب سياسات إدارة المياه. كما تطال الخسارة أيضاً المناطق الجنوبية الرطبة الغنية بالخضرة والأشجار، مما يهدد بدوره بفقدان كمية هائلة من الفصائل النباتية والحيوانية التي تنتمي إليها كجزء من النظم الإيكولوجية.

المناخ العراقي يتغير. الحرارة ترتفع ببطء ولكن باستمرار. عام 2016، سجلت مدينة البصرة حرارة 53,9 على سلم سلسيوس، أي ما يكاد يكون الرقم القياسي. وفي المقابل فلقد انخفض مستوى الأمطار : واعتبر أحد النشطاء في بغداد أن سقوط الثلوج في الشمال الشرقي قد انخفض بنسبة الثلث بالمقاييس التاريخية. ويشعر المزارعون في سهول الشمال الغربي المسماة ب“ممر الأمطار” بالقلق إزاء عواقب انخفاض الأمطار على محاصيل الحبوب والمراعي. توقعات البنك الدولي تشير الى ارتفاع كارثي للحرارة، بنسبة درجتين من الآن وحتى عام 2050، وانخفاض بنسبة عشرة بالمئة فيما يتعلق بالأمطار السنوية. من شأن هذا التغيير المناخي أن يفاقم من ظاهرة التبخر ويدفع بالعراق من مجرد أوضاع هشة الى أزمة حقيقية.

وكثيراً ما يزيد سلوك الانسان من خطورة المشكلة. ففي أشهر الصيف، يميل العراقيون الى استخدام برودة التكييف القصوى، وهذا التكييف يقذف من الحمم الحارّة الى الخارج مقدار ما يفرزه من الهواء البارد في الداخل، كما يحاول العراقيون ترطيب الأجواء بتقنيات مرتفعة التكاليف ترتكز الى التبخر مثل آلة “المُبَرِّدَة” التي تسحب الهواء عبر القش المبلل بالمياه، والى رش الماء على الأرصفة ورذاذه في الهواء.

توغل مياه البحر

ومن سخرية الأقدار أن يفيض العراق اليوم بنوع آخر من الوفرة في المياه ...غير المرحب بها. فانخفاض منسوب المياه في النهرين يقابلها صعود مستوى البحر على شكل أمواج زاحفة الى عمق شط العرب. بما معناه أن ارتفاع مستوى البحار المترتب على الاحتباس الحراري قد ينعكس وابلاً على السهول الجنوبية: فارتفاع متر واحد سيجبر المليوني نسمة من سكان البصرة الى الرحيل، أما ارتفاع ثلاثة أمتار فقد يجتاح داخل الأراضي الى مسافة 150 كيلومتر ويغرق الملايين الآخرين من السكان في مستنقع شاسع.

 

والتغيير المناخي يعني أيضاً أن الأمطار حين تهطل، تهطل بغزارة. وأن أزمة ناجمة عن العواصف تكاد تتكرر سنوياً. يفوت العراق على نفسه فرصة تجميع وتخزين المياه، التي تُغرِق المجاري وتجعلها تفيض.

زراعة نَهِمَة

وفي الوقت الذي يُعَرِّض فيه التغيّر المناخي الموارد المائية في العراق الى وضع من الهشاشة البالغة، فإن قطاع الزراعة المتسم بانعدام الفعالية يوصلها الى حافة المعقول والمقبول. تعتبر منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، الفاو، أن الزراعة تلتهم 80% من إجمالي الموارد المائية في البلاد. جزء كبير منها مخصص لمحاصيل موصوفة بال“استراتيجية” مثل القمح والشعير، نتيجة الجهود المبذولة منذ عقود لتأمين الاكتفاء الغذائي. ومع ذلك فالعراق يبقى خاضعاً للتبعية بشكل بائس، حيث تستمر البلاد في استيراد ما يفوق إنتاجها من القمح، فتشتري سنوياً ثلاثة الى أربعة ملايين طن من القمح من الخارج. هذا سلوك باهظ التكاليف، إن بالمياه أو وبالمال: ففي حين أن الإنتاج الزراعي لا يمثل سوى 3% من إجمالي الناتج المحلي، فإن الدولة العراقية تنفق كل سنة حوالي 5 مليار دولار - أي ما يمثل 2% من إجمالي الناتج المحلي - في استيراد السلع الغذائية الأساسية للتعويض عن القصور الداخلي. ويشير معدل النمو السكاني أن هذا النهم للاستيراد سوف يستمر على الأرجح فلقد تضاعف عدد السكان في العراق بين 1970 و1995، ثم تضاعف مجدداً ليبلغ 40 مليون اليوم وهو مرشح للزيادة بشكل متسارع.

وسوف تستمر عائدات الاستثمار ، الضعيفة أساساً، في التراجع، مع ما يترتب على الممارسات الزراعية من تسميم للأراضي، بزيادة ملوحتها، وهو الأمر المرتبط باستخدام الطمي الغريني كسماد، والإفراط في السقي، والصرف غير السليم والتبخر. “معاناة المزارعين لدينا مرتبطة الى حد ما بالتقنيات التي يستخدمونها. حيث ما زالوا اليوم يلجؤون الى نفس الأساليب التي كانت تستعمل منذ آلاف السنين”. ولكن ثمة فارق كبير بين الأمس واليوم.

خسارة ثلث الأراضي الزراعية

تاريخياً كان فيضان الأنهار يساهم في غسل الأراضي من الملوحة، إلا أن الشبكة المركبة من السدود على الضفاف وعبر مجرى الأنهار ومن الخزانات المختلفة قضت على الدورات الموسمية تلك في منتصف القرن العشرين. منذ ذلك الحين خسر العراق بسبب الملوحة ما يقدر بثلث المساحات الزراعية.

وقد تشهد ثلاثة أرباع الأراضي المروية المصير نفسه. حتى في الأماكن التي تبقى فيها الأراضي خصبة فإن المستوى المتدني من عائدات المحاصيل يثير القلق. ينتج العراق القمح بمعدل طِنَّيْن لكل عشرة آلاف متر مربع (هكتار) أي نصف المعدل السنوي العالمي حسب أرقام البنك الدولي. ليس هذا فحسب، بل أن قيمة محصول القمح المالية متدنية للغاية. كل المحاصيل الأخرى تدر أرباحاً أفضل، وفي نفس الوقت فهي تستخدم مساحة أقل من الأراضي. هذه الأمور الغريبة لا يرضى عنها الجميع. بل على العكس، ثمة عدد كبير من الخبراء العراقيين والدوليين يصرحون بوضوح بضرورة إجراء إصلاحات بسيطة وبديهية ومنها على وجه الخصوص وضع عدادات للمياه، والانتقال من الري بالفيضانات الى شبكة الأنابيب الجوفية، أو الري بالتقطير بهدف الحد من التبخر، وإحلال شبكة تصريف مناسبة ل75% من الأراضي المروية المهددة بالملوحة.

إلا أن هذه التدابير البسيطة لم تطبق حتى الآن لأسباب عديدة. فالعراقيون لديهم ثقة راسخة بالخصوبة اللامتناهية لبلادهم. ومن الأعراض المدمرة بشكل خاص لهذه القناعة، هو ما نشهده من عمليات الضمّ التدريجية للأراضي القابلة للزرع: في كل نواحي بغداد ثمة أفراد وشركات يقومون بتدمير البساتين والمشاتل لتشييد المساكن، ومراكز الترفيه بل وجامعة طبية خصوصية تشهد نمواً سريعاً. على أطراف المدينة حُرقت بساتين من النخيل بكاملها على أيدي مجهولين، تركوا وراءهم غابة من الجذوع المتفحمة التي تُنذر بعمليات التدمير.

الموظفون أنفسهم الذين يلقون المواعظ بضرورة الاكتفاء الذاتي من الأغذية يستفيدون من عمليات التدمير الرامية للمضاربة، إما بسماحهم بتمرير هذه المشاريع وإما بالاستثمار فيها.

إفلاس الدولة والطبقات الحاكمة

عامل آخر يكمن في طريقة عمل المؤسسات. فما زالت لدى العراق المعاصر بقايا غريبة من عصر المدينة-الدولة في بلاد ما بين النهرين والتي راحت الدولة البعثية المهيمنة تقلّدها، عبر امتلاك السلطة المركزية للأراضي وسيطرتها على الانتاج، وشِرائِها المحاصيل وتوزيعها الأغذية على الشعب. وهو الأمر الذي يفسر لماذا يزرع الفلاحون القطع الصغيرة للغاية ويعتمدون اعتماداً كبيراً على الدولة للتّزود بالبذور والمبيدات والمدخلات الأخرى الرديئة النوعية. وهم يستخدمون المياه شبه المجانية، المدعومة من الحكومة والتي تصلهم بأبْخَس الأسعار في العالم، أي 0,0002 $ للمتر المكعب. وفِي المقابل، تحتفظ بغداد بحقها في شراء كل المحاصيل الاستراتيجية بأسعار متدنية وثابتة.

وفِي هذه الأثناء فإن إرادة الطبقة الحاكمة بجني الأرباح السريعة تحول دون أي تفكير طويل المدى حول هذه الأمور. ولقد ظل حبيس الأدراج تقريرٌ وضع نهاية 2015 وكلف 36 مليون يورو، حول استراتيجية شاملة تتناول الموارد والأراضي. يقول لنا أحد النشطاء:“خلال السنوات الأربع التي انقضت منذ ذلك الحين، لم نستطع الحصول ولو على نسخة أولى لهذا التقرير”المطلي بالذهب“.. ثم قامت شركة أخرى بتحديثه وظلت النسخة الحديثة مستترة عن الأنظار كما سابقتها”.

إلا أن الفساد وبلادة النخب لا يفسران وحدهما العامل الثالث وهو عامل حاسم، والذي يتواطأ بشأنه غالبية العراقيين. فالمجتمع العراقي مترابط بواسطة عقد اجتماعي يحمل أوهاماً مفادها أن المواطنين من حقهم الحصول على قسطهم من ثروات البلاد. هذا الحق المشروع يُسَوِّغ فيما يُسَوِّغ الفساد والوظائف غير المنتِجة في الدولة والخدمات العامة المجانية. وبالتالي فيحق لأي عراقي، وأياً كان إيراده أن يستفيد من نظام الإعانة الغذائية الذي تم وضعه عام 1991 للحد من أثر الحظر التجاري الدولي المُدمر الذي أنتهى عام 2003 بالاحتلال الأمريكي. هذا الترتيب المخالف لروح العصر والذي لا يميز بين المحتاجين من العراقيين والأغنياء، يكلف الدولة ما يقارب ال 5 مليارات دولار سنوياً من المستوردات. وتمثل الممارسات الزراعية التي أكل عليها الدهر وشرب عنصرا هاماً من نظام الحماية الاجتماعية: فهي تشكل إعانة على عيش الكفاف لما يقارب من عشرة ملايين من سكان الأرياف الذين يعانون بشكل متزايد من الفقر والبطالة ويهددون بالزحف على مدن ترزح أساساً تحت الزيادة السكانية الناتجة عن النزوح الحالي. هؤلاء المزارعون لا يحصلون إلا على جزء ضئيل من الكنز النفطي العراقي. وبالمقابل فهم ينعمون بحصة الأسد من المياه القابلة للتبديد. ولكن ثمة قطاعات اقتصادية وفئات أخرى من المجتمع تقع عليها اللائمة كذلك.

تجاوزات الصناعة النفطية

الإسراف في المياه يكاد يشمل كل العراقيين. فكل يوم يستهلك المواطن العادي 392 ليتر من المياه لأغراضه المنزلية فقط، أي ضعف المعدل الدولي الذي يمثل 200 ليتر حسب أحد موظفي منظمة اليونيسف المقيمين في بغداد. هذه الكمية الهائلة تكلف السكان سعراً زهيداً الى حد غير معقول، أي 1,4$ سنوياً، (هذا على افتراض أن السكان يدفعون فواتير المياه، وهو نادراً ما يحدث). وهذا السعر البخس يشجع العديد من الملاك على ترك صنابير المياه مفتوحة وإغراق حدائقهم، حتى في الساعات التي ترتفع فيها الحرارة الى الدرجات القصوى خلال النهار.

وتتحمل صناعة البترول مسؤولية أكبر بأشواط في عملية التبذير هذه. فالذهب الأزرق يخضع لمقايضة مع الذهب الأسود. حيث يستبدل كل برميل من النفط المستخرج ببرميل ونصف من الماء الذي يضخ قي حقل النفط للحفاظ على مستوى الضغط وبالتالي مستوى الانتاج. ولقد كانت الآثار المترتبة عاى هذه الممارسات موضع النقاش. فاعتبر فريق أبحاث عراقي متخصص في شؤون الطاقة أن صناعة النفط تحتاج حالياً حوالي 400 مليون متر مكعب من المياه سنوياً وهو رقم متواضع نسبةً الى الموارد الإجمالية في البلاد. يرفض أحد كبار الموظفين الإقرار بهذه المسألة بشيء من الغرور قائلاً:“تستخدم الشركات النفطية كمية زهيدة من المياه ولا تسحب المياه من الأنهار. وهي تستخدم بشكل أساسي مخلفات الزراعة من المياه المستخدمة. وبالتالي الفائدة من هذه العملية تفوق بأشواط أي خسارة محتملة.”

ولكن إن نظرنا الى الموضوع على نطاق البلاد بأسرها فسوف نرى أن الأمور أكثر تعقيداً. ففي عام 2010 شهدت أقاليم الجنوب في العراق الغنية بالنفط شحاً في المياه يقدر ب 400 مليون متر مكعب، أي ما يساوي المياه التي جرى ضخها في جوف الأرض. ثمة بعض الحوادث التي تدحض هذا الادعاء بأن شركات النفط تعتمد على مياه الصرف في الزراعة فقط، فلقد أعرب أحد مسؤولي القطاع الصحي المقيمين في بغداد عن تذمره من كون مقاولي شركات النفط يملؤون يملؤون صهاريجهم من أقرب مصدر ممكن من المياه سعياً منهم للحد من التكاليف وزيادة الهامش الربحي. إلا إن التكتم الشديد ما زال يلف هذا الموضوع. “هذا موضوع من الخطر التحدث فيه” يقول أحد النشطاء محذراً. فالشركات النفطية الكبرى تشتري المياه من شركات يترأسها مدراء منتمون الى الميليشيات".

ثمة بعض الحلول البديهية المتاحة، مثل جلب المياه من البحر إلا أنها تقتضي استثمارات، ولقد تم تأجيلها المرة تلو الأخرى. ومن الأمور المعبرة فعلاً عن هذا الخلل ما نراه من ميزانية حصل عليه وزير النفط عام 2018، تفوق بخمسين ضعفاً ميزانية وزارة الموارد المائية المتروكة لأمرها. ولقد ورثت هذه الوزارة التي كانت تعرف حتى عام 2003 بوزارة الري، بنيةً تحتيةً جسيمة مخصصة للري ومكافحة الفيضانات، في بلاد تجاهلت كل الجوانب الأخرى في إدارة المياه.

ولدى هذه الوزارة قدرة ضعيفة على جمع البيانات ووضع التوقعات، ما يلحق الضرر بطريقة إدارة السدود والخزانات والقنوات. والفوضى نفسها تعمّ الهيكل الإداري: فلقد أعرب أحد الخبراء من جنوب العراق عن شديد أسفه لكون أي مبادرة خاصة بالمياه تبقى معرضة للتدخل من قبل أطراف عديدة منها على وجه الخصوص وزارات النقل والطرق والجسور والمالية.

تسمم ذاتي جماعي

وقد ساهمت هذه التناقضات في جعل شبكة مياه الشرب في العراق إحدى أسوأ الشبكات في العالم. ويقدر تَسرّب المياه من الإمدادات، حتى قبل بلوغها المستهلكين بثلثي إجمالي المياه التي تُضخ في الشبكة. ولقد كان للعقوبات المفروضة في عهد صدام قسط من المسؤولية عن هذا الوضع: ففي التسعينات جاهد العراق لاستيراد الأنابيب وكان مجلس العقوبات التابع للأمم المتحدة الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية والذي تُسَيِّس قراراته، يعتبره تهديداً عسكرياً. إلا أن هذه العزلة التي عاشها العراق وقتها لم تكن سوى تفاقماً لوضع سابق متسم بقصور في الاستثمارات، وذلك قبل العقوبات وبعدها: 14 موقعاً فقط من أصل 252 تجمع مدني عراقي يعالج مياه الصرف الصحة لإعادة تدويرها، حسب البنك الدولي.

وبالتالي فالعراق يمثل حالة قصوى من التسمم الذاتي على نطاق جماعي. ثمة صهاريج من القطاع الخاص في بغداد تسحب المياه الوسخة من فتحات المجاري لتبيعها بصفتها أسمدة. وفِي كل مكان تقريباً، تُرمى مياه الصرف الصحي دون معالجتها في الجداول والأنهار، مما يزيد من ملوحتها ومن المُلوِّثات الاخرى. ولقد وصلت مستويات الملوحة في أقصى الجنوب الى الحد الذي جعل المياه غير صالحة إطلاقاً للشرب لا بل غير صالحة لأي شكل من أشكال الزراعة. فالمياه المالحة تتسبب بتآكل التجهيزات، ومنها المِضخات ومحطات معالجة المياه وأنابيب التوزيع.

 

 “كل أنهار العراق مريضة. والجميع مسؤولون عن هذا الوضع بدءاً من أعلى موظف وحتى أبسط مواطن.” هذا ما يقوله لنا أحد خبراء تلوث المياه. “في مدينة البصرة، لم تعد الأنهار أنهاراً، بل خزانات صرف صحي متحركة. ونتيجة ذلك انتشرت في كل أرجاء البلاد عدوى التيفوئيد والدوسنطاريا (مرض الأمعاء) والتهابات الكبد وسائر الأوبئة التي تتسبب بها المياه غير النظيفة. في منتصف عام 2018، استقبلت المستشفيات في البصرة 100.000 حالة من التسمم بالمياه. يقول أحد أخصائيي الأوبئة العراقيين وأصله من البصرة:”نحن نسبح حقاً في داء الكوليرا“ويضيف:” اتصلت بي وزارة الصحة لاستشارتي بالموضوع، ولكن ما كانت تريده مني بالفعل هو التصديق على نظريات المؤامرة حول التسميم الخبيث المقصود".

“لا تسرفوا في الماء ولو كنتم على نهر جار”

ولقد تفاقم التوتر الاجتماعي في موازاة ذلك، وأدى الى قيام المظاهرات. يتهم الموظفون حكومة إقليم كردستان بتخزين المياه لمواجهة حالات الشح لديهم. أما في وسط العراق فيتهم المزارعون في منطقة المصب أولئك الذين في منطقة المنبع بأنهم يستهلكون أكثر من حصتهم المشروعة. في هذه الحال، من شأن أي احتكاك بسيط في أوساط كهذه، تتسم بحدة النزعات القبلية الى أعلى درجة، أن ينقلب بسهولة الى نزاعات أكثر خطورة. وبمعنى آخر، فإن الإجهاد المائي يمزق نسيج مجتمع يحاول جاهداً أن ينهض مجدداً على رجليه.

ولقد بدأ الوعي مع ذلك يبزغ تدريجياً، في صفوف المجموعة الصغيرة من النشطاء الذين يزداد عددهم مع الوقت، وكذلك في أوساط أخرى قد لا تخطر فوراً على البال. قالت لنا إحدى المُتَدَيّنات عن هذا التطور في التفكير:“كان النبي محمد يقول شيئاً قد يبدو عبثياً للوهلة الأولى:”لا تسرفوا في الماء ولو كنتم على نهر جار“، ولقد أدركتُ بعد حين أن التغيير لا بد أن يبدأ بنا نحن”. ومن ضمن التدابير البسيطة التي انتَهَجَتها هذه السيدة، أنها جعلت في حديقتها عدد من الحفر التي تستخدمها لتكويم السماد العضوي طبقاً لبعض التقنيات التي طالعتها على الانترنت. الماء فعلاً كالأوكسيجين، لا بديل عنه.

أياً كان التعامل مع الماء ، سواءً كسلعة أو خدمة عمومية أو حق للجميع، فهو شرط من شروط البقاء على قيد الحياة. تُبنى المجتمعات بالمياه أكثر مما تُبنى بالآجر والمِلاط، ويدرك العراق ذلك تماماً، أكثر من أي بلد آخر. بلاد ما بين النهرين القديمة ولدت من هذه النعمة: ولن يكون للعراق بقاء إلا إذا كان جديراً بهذا الحق المكتسب بالولادة.

[نشر المقال للمرة الأولى باللغة الإنكليزية تحت عنوان “انتفاضة الطبيعة. شحّ المياه في أرض الخيرات” “Nature’s insurgency. Water wanted in the land of plenty”,]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬