- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
عقب انتهائي من كتابي فتحية أحمد مطربة القطرين (2017) والصدى الذي لاقاه الكتاب، كان لابد من التفكير فيما اسم آخر لا يقل قيمة أو مكانة عنها. فكان اسم صالح عبد الحي يتردد في ذهني طوال الوقت. كان صوته بالنسبة لي يمثل جسرًا متينًا يربط بين قرنين من الزمان. وكنت أتعجب من الصورة النمطية التي رُسمت له خلال أفلامنا السينمائية الكلاسيكية على سبيل الدعابة أحيانًا والسخرية أحيانًا أخرى. وعندما بدأت رحلتي لجمع كل ما يتعلّق بسيرته الفنية والشخصية، أصبح جليًا لي أننا أمام مطرب كبير ونموذج متفرد في الأغنية العربية لن يتكرر ثانية، خصوصًا فيما يتعلّق بالأداء وقدرته على الدفاع عن أرائه وفلسفته الموسيقية مهما كانت الظروف أو النتائج وبغض النظر سواء كنا نتفق معها أم لا. فعقدت العزم أن يكون مشروعي القادم عن هذا المطرب الكبير الذي حافظ بصوته على إرث مدرسة موسيقية مهمة عُرفت بمدرسة النهضة التي انطلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فكانت وصلاته الغنائية التي تبثها الإذاعات المختلفة مادة سمعية في غاية الثراء والأصالة من حيث طريقة الأداء والقوالب الغنائية المتضمنة وكذلك الآلات الموسيقية المستخدمة.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
الكتاب يتضمن سيرة صالح عبد الحي الفنية والشخصية من خلال تسليط الضوء على محطات حياته المختلفة بشكل تفصيلي. كما أنه محاولة لإعادة قراءة شكل الحياة المجتمعية والفنية في مصر من منتصف القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين من خلال أشكال الأفراح المجتمعية لدى الطبقات المختلفة وكذلك الحفلات العامة والسرادقات التي كانت تُقام حتى الصباح. ما يشغلني هنا هو الطرح وإعادة تضفير سيرة مطرب كبير لم يحاول أحد أن يسردها بشكل توثيقي. فأنا في النهاية لست مؤرخًا أو ناقدًا موسيقيًا إنما كل ما أقوم به هو بذل أقصى جهد ممكن لتدقيق وتحقيق كل معلومة وردت بخصوص مسيرة صالح عبد الحي وحصر أغلب ما قام بتسجيله من أسطوانات ووصلات إذاعية من إيراد أسماء مؤلفي هذه الأعمال وملحنيها بقدر المستطاع. كما أنه يتناول الصداقات التي جمعت صالح عبد الحي بكبار عالم الطرب خلال القرن العشرين وكيفية دخوله إلى الوسط الفني وتربعه على عرش الطرب لسنوات... إلخ.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
تظل المشكلة الأساسية هي توافر المادة الأرشيفية والمواد الفوتوغرافية التي ستبني عليها النصّ المكتوب. فالأرشيف في مصر ليس في أفضل حالاته. والباحث يعاني طويلاً كي يصل إلى ما يريد نتيجة للإهمال والروتين المتكرر كما أن أغلب المواد الصحافية التي واكبت مسيرة هؤلاء المطربين فُقدت للآسف. فيكون عليك أن تبذل جهدًا مضاعفًا للوصول إلى ما تريد بعد مشقة وعناء لكن هي لذة الانتصار في النهاية. في حالة صالح عبد الحي فقدت تمكنت من الحصول على حلقات مذكراته (10 حلقات) منشورة في مجلة صباح الخير (1959) وهو ما فتح لي مجالاً واسعًا كي اتبحر في التقاط المزيد من المواد الأرشيفية والقصاصات الصحافية التي تتعلّق برحلته. أما التسجيلات فقد توافر أغلبها على قنوات الهواة والسميعة على شبكات التواصل الاجتماعي فلم يعد الأمر معقدًا كما كان من قبل.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
لست مشغولاً بتصنيف مادة الكتاب، لكن هو في الأساس سيرة فنية عن مطرب كبير. وأظن أن كل شغوف وعاشق للطرب سيحاول اقتناءه لمعرفة المزيد عن عالم صالح عبد الحي وطبيعة صنعة الطرب والغناء خلال تلك الحقبة.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والبحثية؟
هذا الكتاب هو الرابع من حيث ما كتبت والثاني لي في مجال السيرة الفنية. وأنا أعدّه بمثابة حلقة متممة لما بدأته سابقًا مع كتاب فتحية أحمد. وقد أكدّ لي الكتاب أن هناك العديد من السير سواء الفكرية أو الفنية التي تحتاج إلى إعادة الطرح والتدقيق من جديد.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
لكم يسعدني أن يصل الكتاب لكل قارئ غير مختص فكما قلت أنا لست أكاديميًا أو مختصًا في الأساس. فأنا أتمنى أن يقدر القراء ما بذلته من جهد وتدقيق في الكتاب فلست معنيًا بعدد النسخ التي يوزعها الكتاب بقدر اهتمامي بكل كلمة طيبة تُقال في حق ما أقوم به.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
حتى الآن لم أستقر على طرح مشروع معين هناك أفكار تدور في رأسي لكن من يدري ربما قريبًا يكون هناك مشروع جديد على منصة القراء.
***
[الكتاب: صالح عبد الحي فارس الطرب، منشورات جمعية عِرَبْ للموسيقى بيروت بالتعاون مع الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، 2019.]
مقطع من الكتاب
مقدمة
في بداية علاقتنا بالموسيقى، لم يكن من مصدر لنا لتلقي التسجيلات العربيّة الأصيلة، سوى صوت صالح عبد الحي، من خلال الأشرطة التي كنّا نحرص على اقتناء الجيّد منها، حرصًا على نقاء الصّوت ودوام الدوران في آلات التسجيل. وفي تلك الفترة من العمر، لم نكن لنحظى بتسجيلات المنيلاوي ولا «الخال» عبد الحي حلمي، ولا الصّفطي ولا محمد سالم ولا عبد الباري ولا أبي داود... إنّما كان من حسن حظ الجميع، نحن وصالح عبد الحي، أن يكون صوت صالح هذا هو الطريق الوحيد إلى تراث النهضة الموسيقية في موشحاتها ومواويلها وأدوارها، والضمان السليم لتزويد أسماعنا التقاسيم الشجيّة، خصوصًا على آلة القانون التي تسبق «تسلطن الليالي والعيون»، تمهيدًا للاستقرار في أحوال الطرب.
وكنّا نأنس إلى الرّبط بين صورة صالح المرفقة بالأشرطة، وصوته المنبعث من داخلها، فنعيد جزءًا من نشوة الطّرب إلى طربوشه المائل، وجزءًا آخر إلى صفاء صوته في ذلك الوجه الممتلئ «الناعم»، ونرى أنّ مصلحتنا هي في تلقّي الغناء الجميل، مع التعلّق بكل ما من شأنه أن يغنيه ويدعمه ويزيد من منسوبه وفيضان منابعه، كائنة ما كانت النّعومة المذكورة. ولم تكن الصّور متوافرة إلّا في القليل القليل، إذ كان مكتوبًا على متتبّعي الطّرب أن يكتفوا بترسيخ علاقتهم بالسّمع من دون النظر، فكم كنّا نحدق بصورة القصبجي القابع بين العازفين خلف أم كلثوم، متحرّقين لرؤيته منفردًا، قائمًا بذاته وذات عوده، من دون أيّ ذات بشريّة أخرى.
الأخبار الفنيّة عن المطرب صالح عبد الحي، كانت نادرة هي الأخرى، باستثناء ما كنّا نتلقاه من البرنامج الإذاعي الأثير «ألحان زمان»، الذي أتى باحثنا المجدّ محب جميل، ليستند عليه ويضيف إليه. البرنامج كان يطلق على صالح لقب المطرب الكبير فتقدّم الباحث المحب ليسمّيه فارس الطرب الشرقي، مستندًا إلى كنوز معرفيّة لافتة عثر عليها هنا وهناك بين صفحات الجرائد والمجلات القديمة، المنتظرة والمتشوّقة إلى الباحثين والقرّاء. صحيحٌ أنّ الكنوز تلك كانت موجودة من دون منّة من أحد، لكنّ الغبار كان يحوم حولها، وكاد النسيان يذهب بها بعيدًا. محب جميل مدّ يده محرّكًا الصّفحات واحدة تلو الأخرى، قاطفًا كلّ جملة تدعم بحثه عن المطرب الكبير فارس الطرب الشرقي، ممّا أغنى كتابه ومشى به ليكون القاموس المنجد الجدير بالوقوف في مكتبة كلّ منّا، إلى جانب تسجيلات صالح، سواءٌ ما كانت منها على الأقراص القديمة (ذوات السرعة 78)، أو أشرطة الـ Reel، وهي الأقرب إلى القلوب، أو أشرطة الـ Cassette التي كانت ميسّرة أكثر من غيرها، وصولًا إلى الوسائل الحديثة التي لا ينكر أحد فضلها في ضمان الحفاظ على التراث، وإنقاذه من التلف، وتوضيبه بالشكل الحضاري المتقدّم.
في حصيلة البحث القيّم الذي قام به محبّ جميل، نطّلع، فيما نطّلع، على المذكرات الممتعة والمفيدة التي اهتدى إليها منشورة على حلقات في مجلة «صباح الخير» المصريّة عام 1959، والتي تتضمن وصفًا للجلسات الغنائيّة التي كان يحييها صالح عبد الحي: «كانت الأفراح في البداية تضاء بالشموع، في كل زاوية توضع مئة شمعة، ممّا يجعل الليل نهارًا. وأول فرح أضيء بالكهرباء غنّيت فيه أنا. كان العريس هو عبد الله بك طرزي، وقد أقيم الفرح في الجيزة أمام المديريّة بالضبط. علّقت اللمبات الكهربائيّة على حدران المنزل من الداخل والخارج. عند المدخل جلست ثلاث فرق موسيقيّة تستقبل المدعوّين بالسلام الموسيقي: فرقة موسيقى الجيش، فرقة موسيقى البوليس، وفرقة حسب الله. كان المكان مغطّى بالسجاجيد التي تبتلع قدميك عندما تسير عليها. في صدر الصيوان وضع المسرح الذي جلست عليه إلى جانب السنّيدة والتخت المكوّن من اثني عشر عازفًا. وقد غنّيت في تلك الليلة من العاشرة مساء حتى الخامسة والنصف صباحًا، والغناء كان يتم من دون ميكروفون. وقد حضر الفرح الزعيم سعد باشا زغلول، وحسين رشدي رئيس الحكومة في ذلك الوقت. وكان أجري مئة جنيه ذهبًا».
الأستاذ محبّ لم يبخل على كتابه بأي معلومة حصل عليه، وأنا أتمنّى لو أنّه وفّق إلى معلومات إضافيّة حول التسجيلات التي أجراها صالح عبد الحي في إذاعة لندن، القسم العربي في BBC، والتي كنّا نستمع إلى بعضها من خلال البرنامج الأنيق «من لندن فقط»، ولو أنّه وفّق أيضًا، وهذا هو الأهم، إلى سبب عدم وجود تسجيلات لحفلات صالح أمام الجمهور، خصوصًا وأنّ مطربنا هو من أسياد التطريب والارتجال وجذب الأسماع والتفاعل مع المستمعين، يساعده في ذلك صوته الصافي الصدّاح، وتمرّسه في الغناء الأصيل منذ الصغر، ووراثته لذلك الميل الفني عن خاله المطرب المشهور.
لمحبّ جميل المحبّة والتشجيع، مع التوّجه إليه بفقرة اهتدى إليها هو نفسه في معرض نقله لأخبار مطربه المحبوب، تلك الفقرة التي تضمّنت خشية صالح من أن يكون جمهوره مقتصرًا على الفئات العمريّة التي أوغلت بعيدًا في الزمن، من دون وجود فئات شابة بينها، وذلك حين قال في تصريح لجريدة «الشعب» المصرية 31/8/1956: «اتصلت بي سيدة تسألني عن موعد إذاعتي القادمة، فسألتها على سبيل الاطمئنان: ما عمرك؟ فدهشت وهي تقول: خمسة وعشرون عامًا، ولكن لماذا هذا السؤال؟ قلت: يقال إنّ من يستمعون إليّ هم من الخناشير، وإذا كان من وجود لسيدة بينهم، فلا بدّ أن تكون تعدّت المئة. فضحكت السيدة وضحكت أنا».
تصريح تلك السيدة سمعه صالح في حياته واطمأنّ إليه، أمّا جهود محبّ جميل، الشّاب الباحث، فإنّ المطرب الخالد يتلقّاها بواسطة تسجيلاته المقيمة بيننا ممثلة له ووكيلة عنه، ومشيرة علينا بأن نستعيد الطرابيش الحمر نتزيّن بها، ونسندها بأيدينا حين تميل رؤوسنا ذات اليمين وذات اليسار ونحن نردّد: «يا حادي العيس خلّيني أسير وحدي ....».
بيروت في 5/11/2017
أسعد مخّول