في الأسابيع الماضية، شهدت جنوب أفريقيا أعمال عنف ضد الأجانب ونهباً لممتلكاتهم على نطاق واسع خلفت عدداً من القتلى ومئات الموقوفين من قِبل قوات الأمن. وعلى الرغم من أن جنوب أفريقيا تُعد واحدة من أكبر اقتصادات القارة السمراء، إلا أن أعمال العنف انطلقت في جوهانسبورغ، أكبر وأغنى مدن جنوب أفريقيا قبل أن تمتد إلى العاصمة السياسية، بريتوريا، ومقاطعة كوازولونتال.
ولم تكن أعمال الشغب والنهب المُمارسة ضد الأجانب هذه الأولى من نوعها بل اندلعت مثيلتها في 2015 مخلفة عدداً من القتلى. وقد سبقتها أيضًا أعمال عنف مماثلة ضد الأجانب في 2008 خلفت أكثر من ستين قتيل. وفي سياق منفصل قد قتل عشرات من سائقي الشاحنات التجارية منذ مارس 2018، بحسب تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش يتعلق "بالعنف ضد أجانب" أواخر أغسطس 2019.
لو سلمنا بالسردية المؤسسية الصحفية والحقوقية للغرب عن أعمال العنف والشغب التي تتزايد داخل جنوب أفريقيا ووصفناها بأنها أعمال كراهية، فسنكتفي بإدانتها ونجلس لننتظر أن تتكرر كل عام. لكن في محاولة فهم ما يحدث على أرض جنوب أفريقيا سأحاول وضع الأمر في سياق تاريخي.
ميثاق الحرية – وعود على ورق
تعود الحكاية لشهر يناير 1990، على جزيرة روبن المجاورة لشواطئ كيب تاون، حين جلس نيلسون مانديلا (1918-2013) وهو في الحادية والسبعين من عمره إلى طاولته في السجن ليكتب لمؤيديه رسالة مؤكدًا أن سنوات السجن الثمانية والعشرون لم تغير التزام القائد الأسود بإتخاذ إجراءات ضد الإقتصاد العنصري الواقع في يد الأجانب وتمكين سكان البلاد السود تحديدًا على الصعيد الاقتصادي. وقد لخص إجراءاته الإقتصادية في نقطتين هما: التأميم وإعادة التوزيع. كان مانديلا يؤمن آنذاك ألا مفر من سيطرة دولة أبناء الشعب الأفريقي على القطاعات الإقتصادية من مناجم وأراضي زراعية وشركات وبنوك... إلخ.
لم تكن هذه سياسة مانديلا الإقتصادية أو طرحه الشخصي، بل ركيزة أساسية لـ "ميثاق الحرية" الذي انبثق عن المؤتمر الوطني الأفريقي. وتعد صياغة الميثاق أحد أهم المراحل التراثية لشعب جنوب أفريقيا. فمنذ العام 1955 انطلق المتطوعون بالآلاف في الأرياف والبلدات الجنوب أفريقية يجمعون من الناس ما أسموه »طلبات الحرية». ورصد مقترحات الناس عن مرحلة ما بعد انتهاء الفصل العنصري. وقد جاءت أغلب المقترحات في جمل مقتضبة على لسان الناس مثل: «ساعات عمل أقل، وأجور عادلة»، «تعليم مجاني دون النظر لللون والعرق» «إعطاء أراضي لمن لا يملكون» ... إلخ.
وقد أَقر هذه المطالب قرابة ثلاثة آلاف مندوب أسود وملون البشرة، في منطقة «كيب تاون» التي كانت تفصل سكان «جوهانسبورغ» البيض عن الحشود السوداء المحيطة بهم، وهذا قبل أن تفض قوات الشرطة هذا الحشد بالقوة واصفة إياهم بـ «الخونة».[1]
كان البيض ومن ولاهم من جاليات أوروبية يسيطرون على الحكم منذ عقود، وشعروا بالقلق إزاء هذه التحركات، وخصوصًا ما نتج عنها من وثيقة تحمل أهدافاً راديكالية. حيث أقر الميثاق بحقوق العمل والسكن اللائق والتعليم والحرية الدينية، وذهب أبعد من هذا إلى تأميم وإعادة تقسيم ثروات أغنى دولة في أفريقيا، حيث كانت تمتلك أكبر احتياطي ذهبي في العالم آنذاك. إلى جانب عدد كبير من المصانع والبنوك والإقطاعيات الزراعية. هذا إلى جانب ضرورة فرض رقابة وضرائب على عمليتي الصناعة والتجارة من أجل تحقيق الرفاه لكل أبناء الشعب الجنوب أفريقي. ولهذا فرضوا حظراً على «المؤتمر الوطني الأفريقي» ومعه كل الأحزاب السياسية التي حملت برامجها وضع حد للفصل العنصري، وبدأت بحملة قتل وحشية وسجن ضد الناشطين في هذا السياق.
صمد الشعب الجنوب أفريقي أمام هذه الهجمة البيضاء، مُتسلحًا بالإفكار الماركسية والقومية السوداء حيث لمع نجما كل من الشيوعي لينين (1870-1924) والقومي الجامايكي ماركوس غارفي (1887-1940)، إلى جانب مجموعات (ملونة البشرة، قلة بيضاء...) تدعو للتعايش السلمي بين الجميع وتجاوز الماضي. واستندت الأخيرة على أن ميثاق الحرية أراد القضاء على العنصرية والتعامل بمساواة بين الجميع لكن هذا الفكر لم يحظ بقبول شعبي واسع.
آمنت أغلب الفصائل الشعبية بأن إنهاء الفصل العنصري لا يتحقق في مبدأ «التعايش السلمي» ولا «حق الإنتخاب» أو «التنقل بحرية داخل كل مدن البلاد». بل في تفكيك النظام الإقتصادي ونزعه من يد الأجانب، خصوصًا وأنهم قد أستخدموا العنصرية في تحقيق مكاسب خرافية عن طريق استغلال الأغلبية العظمى من السود. فقد أجُبرت الغالبية العظمى على خدمة فئة صغيرة جدًا من خلال عملهم لأيام متواصلة مقابل أجور زهيدة. فقد كان دخل العامل الأبيض يعادل عشرة أضعاف دخل العامل الأسود في نفس المنجم. ومنع السود من حق التملك، إلى جانب العمل العبودي الذي تخلله الضرب والسجن أو القتل أحيانًا على خلفية أي محاولة للتمرد أو العصيان.
ولهذا قاتل الشعب الأسود الجنوب أفريقي من أجل خلق نمط حياة جديدة غير الحياة البائسة التي فُرضت عليهم وخصوصًا أنهم يشاهدون نمط حياة مرفه يعيشه البيض أمام أعينهم وعلى أراضيهم. ولهذا آمن نيلسون منديلا بألا حرية بدون إعادة توزيع للثروات.
لكن هل بقى الأمر على ما هو عليه؟ هل تمكن مانديلا بعد خروجه كقديس من السجن مِن تحقيق بنود الميثاق الذي آمن به؟
خلال مفاوضات الفترة الإنتقالية (1990-1994) التي جرت بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الوطني الأبيض الحاكم، حاول مانديلا أن يعمل على نقل سلمي للسلطة لكي يتجنب ثورة غضب المستعمر ويجنب بلاده الدمار الممنهج الذي قام به البرتغاليون في موزمبيق عام 1975 عندما خرجوا منها ولكن لم يتركوا فيها حجرًا على حجر.
وبالفعل جرت المحادثات بين مانديلا وممثل المستعمر الأبيض ف.و. دو كليرك (1936 -)، وقد حاول الأخير تفتيت القوة السياسية لمانديلا لشل أي قرارات مستقبلية راديكالية قد تمس هيمنة الأجانب على الإقتصاد الجنوب أفريقي. ولهذا دفع دوكليرك بمقترحات مثل تقسيم البلد لفدراليات وإقرار كوتة داخل المجالس النيابية لجميع الأثنيات، وحق النقض للأقليات الأجنبية، وبهذا يفشل أي حكم سياسي حقيقي للأغلبية السوداء ويقطع الطريق عن تمرير أفكارها المتعلقة بتأميم المصانع والشركات والبنوك وبتجريد البيض من الأراضي الزراعية الشاسعة وإعادة توزيعها.
بُص العصفورة
وقع مانديلا في الفخ وظن أنه بحصوله على الأغلبية البرلمانية وبحدوث إنتخابات ديمقراطية تشمل كل الألوان والأعراق قد تمكن من النَيْل من دوكليرك. لكن في الواقع كان نظر البيض على محادثات آخرى وهي المتعلقة بالشق الإقتصادي وقد غاب عنها مانديلا موكلًا إياها لـ تابو مبيكي – سيصير رئيس جمهورية جنوب أفريقيا الحادى عشر من 1999 إلى 2008 -، وقد أقرت حكومة دوكليرك البيضاء أن التعامل في الإقتصاد الجنوب أفريقي سيكون مبنياً على أسس «إتفاقية واشنطن» التي تقر الإقتصاد الرأسمالي، والإنضمام لمنظمة التجارة الدولية، وضمان حرية نقل رؤوس الأموال، وتنفيذ برامج الإصلاح الهيكلي بل وأكثر من هذا تسليم الشق الإقتصادي في البلاد ليديره رجال إقتصاد محايدون –افتراضًا- من صندوق النقد والبنك الدوليين.
خَسر المؤتمر الوطني قضيته كلها، وسقطت وعود ميثاق الحرية، فقد تم إضافة بند في الدستور يحمي الملكيات الخاصة كلها. مما جعل أي فكرة عن قانون للإصلاح الزراعي وإعادة التوزيع مستحيلة. بالإضافة إلى أن توقيع جنوب أفريقيا على الإتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية لمنظمة التجارة الدولية أدى لعجز الدولة عن التدخل في الشأن الإقتصادي وبالتاي لن تتمكن من توفير فرص عمل، إلى جانب تهديد الشركات الكبرى بسحب مقراتها وتصفية أعمالها إن شعرت بأي إجراءات من حكومة جنوب أفريقيا الجديدة تجاهها. مثل شركة الماس «دي بيرز»[2] التي أعلنت نقل مقرها إلى سويسرا ومعها الكثير من الشركات العابرة للقارات مما تسبب في أزمة بطالة عالية.
بالإضافة إلى اتفاقية حقوق الملكية الفكرية التي شلت يد الحكومة الجديدة عن تحقيق أي برامج صحية مثل توفير لقاحات علاج الإيدز بشكل مجاني والذي كان ينتشر كالوباء بين السكان السود. بالإضافة إلى عدم تمكن مانديلا من بناء مساكن أو توفير مياه نقية للشرب وكهرباء وتعليم مجاني أو رفع الأجور حيث من المفترض أن تدفع حكومته الديون التي راكمها نظام الفصل العنصري قبل أن يتنحى عن السلطة وأبرز هذه الديون كان قرض مُقدر ب 850 مليون دولار أمريكي من صندوق النقد الدولي.[3] وهذا ما دفع مانديلا وحكومته مُرغمين على سن قوانين تقشفية شديدة صدمت الطبقة السوداء التي ناضلت لأجل حياة كريمة.
تحررت جنوب أفريقيا من الفصل العنصري وسقطت في الفصل الإقتصادي الأشد قسوة. فبعد مرور عقد كامل على نهاية الفصل العنصري بقى 80% من سوق الأوراق المالية بجوهانسبورغ في يد البيض و4% للسود والباقي للأجانب من جنسيات مختلفة. وظلت 70% من الأراضي الزراعية تحت سيطرة الأقلية البيضاء أيضًا. بالإضافة لقطاع البنوك والمناجم والمصانع المُسطير عليه من أربع تكتلات أجنبية.[4]
طرد ملايين الجنوب أفريقيين من وظائفهم ومزارعهم، وصارت 40% من خطوط الهواتف خارج الخدمة، وقطعت المياه والكهرباء عن ملايين المنازل نتيجة ارتفاع الأسعار والعجز عن دفع الفواتير.
بقى الحال كما هو عليه بل يمكن القول إنه ازداد سوءًا. ففي العام 2006 ازداد عدد ساكني الاكواخ ومدن الصفيح 50% أي بمعدل 4:1 من كل جنوب أفريقي يعيش بلا خدمات أساسية كالمياه النقية للشرب والكهرباء والصرف الصحي. وقد كانت نسبة البطالة بين السود 23% في العام 1991 ولكنها في العام 2019 بلغت 65%، بينما بلغت 1% بين البيض للعام ذاته. كما تعاني الغالبية السوداء من معدلات فقر عالية مقارنة بالآسيويين والبيض. وقد ارتفع معدل الفقر بين السود والمختلطين خلال الفترة ما بين 2011 إلى 2015 حسب تقارير حكومية. ويتراجع دخل الفرد بشكل متزايد منذ 2010 إذ وصل الفارق بين دخل الفقراء وبين دخل الاغنياء إلى أكثر من عشرة أضعاف، وصار يستحوذ 10% من السكان على 90% من ثروات البلاد.
سياقات العنف
لا يمكن تبرير العنف ولكن يمكن تفكيكه وشرح أسبابه ولماذا يتولد وينفجر في محاولة لإيجاد حلول قد لا أملكها ولكن أكتفي بالتنويه إليها في ظل الأرقام الإقتصادية الكارثية التي عرضناها. فحالة الصدمة التي عاشها الشعب الأسود في جنوب أفريقيا بعدما ظن أنه قد تحرر من وضع العبودية ليجد نفسه في وضع مشابه أو أشد قسوة، ويعبر عن هذا الحال راسول سنايمن أحد الناشطين القدامى ضد البيض قائلاً «لم يحررونا، بل نزعوا القيود من أعناقنا ولفوها حول أقدامنا.»[5]
وقد كتب رئيس الأساقفة دزموند توتو بالعام 2003، وقد كان المسؤول عن لجنة المصالحة في جنوب أفريقيا لإرساء السلام: «هل يمكنكم أن تفسروا لي كيف يستيقظ اليوم إنسان أسود في الغيتوهات القذرة، بعد ان استعدنا حريتنا ثم يقصد المدينة للعمل فيها، حيث معظم السكان البيض لا يزالون يسكنون منازل تشبه القصور، ثم يعود في نهاية النهار إلى بيته الفقير ولا يقول فليذهب السلام للجحيم، فليذهب توتو ولجنته إلى الجحيم؟»[6]
عنف أسود-أسود
وفي اللحظة الراهنة، تجاوز الوضع الإجتماعي لجنوب أفريقيا صراع العنصرية وخيبات الديمقراطية، والهيمنة البيضاء على الإقتصاد، خصوصًا عندما بدأت رؤوس أموال "سوداء" بالهجرة من الجارة الغنية نيجيريا مُستغلة المناخ الجاذب والمتساهل للإستثمار داخل جنوب أفريقيا، مساهمة في تآكل فرص العمل عبر اعتمادها على العمالة الصومالية المهاجرة والرخيصة، وبالتالي عاصفة بالعدالة الإجتماعية بين أبناء اللون الواحد. ولهذا تكونت في الآونة الأخيرة لدى شرائح كثيرة من السكان وجهة نظرة مناهضة للمهاجرين صار يُطلق عليه "الأفروفوبيا" (رهاب الأفارقة) حيث يلقون باللوم عليهم في العديد من التحديات الاجتماعية- الاقتصادية التي يعانيها مجتمع جنوب أفريقيا.
كما يشير الباحث ستيفن جوردن بمركز HSRC إلى أن أحد الدوافع الرئيسية لأعمال الشغب والمشاعر المعادية للمهاجرين "رهاب الأجانب" في جنوب أفريقيا بالإضافة لتردي الوضع الإقتصادي تعود أيضًا لزيادة عدد اللاجئين من دول الجوار ومناطق النزاعات العسكرية بالقارة ومعهم بدأت تتكون كانتونات عشوائية حول المدن الكبرى تفتقر بشكل رئيسي إلى القانون والنظام ما يجعل العنف هو الصفة السائدة للتعامل في هذه المناطق. وقد سبق وأن شهدت هذه الأحياء الفقيرة حول جوهانسبورغ موجة عنف شديدة، خلال عام 2008، والتي نوهنا عنها في المقدمة وأُجبر الجيش حينها على نشر قواته داخل هذه العشوائيات للسيطرة عليها.
ولهذا لا تشهد جنوب أفريقيا عنفا فحسب بل تشهد حراكاً أو تململاً للمظلومين والمقهورين ضد بعضهم البعض أحيانًا ينفجر بين حين وأخر، وتخمده المدافع.
هوامش
[1] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة. ص 280
[2] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة. ص 295
[3] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة ص 291
[4] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة ص 294 و ص 295
[5] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة ص 291
[6] عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ناعومي كلاين، الديمقراطية المقيدة ص 279