[تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”صالون سوريا“]
مقدمة
تحاول هذه المادة سريعاً إلقاء بعض من الضوء على إحدى أهم المقولات التي تسود الدرس الغربي في مسألة علمانية نظام البعث السوري وتسأل عن أصول هذه المقولة، وبخاصة حينما تُدعم من بعض الدارسين بدعوى أنّ الخطاب الديني، خاصة السني الرسمي منه (الكنيسة السنية)، لم يمثل فحسب دعامةً علمانية للنظام، بل أيضاً ساهم في علمنة الخطاب نفسه ومعه مجتمعه الإسلامي. تحاول المادة تقديم رؤية مختلفة عن هذا من خلال تحليل بعض من العلائم الأساسية، وترى أنّ الخطاب الديني السوري قد مثل الحدّ المنيع في وجه العلمانية، مدعوماً بالطبع بنظام الأسد. المقال، ومن خلال تناوله للعلائق البنيوية بين النظام السوري وكنيسته السنية في مسألة العلمانية، يرى أنه إذا قُبلت لفظة العلمانية، في أحسن الأحوال، فإنما يتم تفصيلها وفقاً للبنى الذهنية “الجمعيّة” المسيطرة، الأمر الذي كان، وما زال، يقود لأنْ تُفصّل العلمانية بما “يجب” أن تكون عليه، ليس انطلاقاً من خصوصيات ثقافية ودينية مفترضة فقط، وإنما أيضاً انطلاقاً من سياق تصفية حساب مع استحقاقها الثقافي الحداثي وما يمكن أن يؤثر به هذا الاستحقاق على المجتمعات السورية. وبالتالي، إشكاليّة ما “يجب” أن تكون عليه العلمانيّة، تحيل بالضرورة إلى إشكاليات أخرى ربما أكثر تعقيداً، بمعنى تحيل إلى: ما “يجب” أن يكون عليه “المعنى الديني” (وفقاً لـ”الكنيسة السنية” السورية)، مع خلق تفصيلات بهلوانية لـ “الدولة” لكي تتناسب مع شكل محدد زائف من العلمانيّة المراد منها أن تكونه. وهذا بالضبط ما كان يتم من خلال عمليات سوسيولوجية وسياسية ودينية بهدف تنميط “المجتمع والدين” بقوالب ثقافية أيديولوجية تتوافق ومسطرة السلطةالسورية.
في “أسطرة العلمانية” السورية
إحدى أهم المهام التي لا يزال الإصرار عليها قائماً، هو الدعوة لتفكيك المفردات البنيوية، وخاصة الأيديولوجية منها، التي كان يستند عليها نظام البعث، وبخاصة حين تناول موضوعة العلمنة التي كان يتغلف بها؛ ذلك أنّ حالاً من التخبط ما يزال يسود الدرس الغربي، دعك من المشرقي والعربي، إلى الآن في وضع الأيديولوجية القومية لبعض الأنظمة العربية، وخاصة النظام السوري منها، في فضاء العلمانية، من جهة، والإصرار في المقابل، من جهة ثانية، على وضع منافساتها الإسلامية، كمقابل ديني وروحي. إنني أجد أنّ الحاجة البحثية ما زالت ملحة في تفكيك هذه النظيمة الفكرية في الدرس، رغم الإشارات الكثيرة بين هنا وهناك، وخاصة من قبل مثقفين سوريين، التي تحاول التأكيد على كذب نظام الأسد في مقولة العلمانية([1]). لكنها مع ذلك تبقى مجرد تأكيدات تفتقر في معظم الحالات إلى أي تحليل عميق في ضبط مقولة العلمانية في السياق السوري، والأهم أنّ كثيراً منها ينطلق من خلال لغة متخشبة لا تختلف كثيراً عن لغة النظام السوري، الأمر الذي ساهم، ومازال، في عدم إنتاج فضاء بديل عن نظيمة النظام.
والحال، أنّ مقولة علمانية النظام السوري، ليست تماماً اختراعاً بعثياً، طالما أنّ البعث نفسه لم يكن يشغله على الإطلاق التفكر في مقتضيات العلمانية والتشديد عليها، سوى إشارات متناثرة من قادته (مثل من من قادته مثلا؟) تخدمهم في سياقات محددة وخدمة لأهداف استراتيجية وسلطوية أمام الغرب، طبعاً مع الإبقاء على ضبابية هذا المفهوم. وبالفعل، فقد ورثنا هذه المقولة في المشرق من باحثين غربيين أرادوا عنوة رؤية مسارات الحركات القومية العربية والدينية بنفس مناظير درسهم للقوميات الغربية وصعود الدولة هناك بفضل الحداثة([2]). وفي الوقت الذي كان فيه القادة القوميون العرب (ميشال عفلق على سبيل المثال لا الحصر)يشددون في السابق، وما زالوا، على عامل الإسلام في أدلوجتهم “العلمانية” (؟)([3])، كانت الأدبيات الغربية تعج بالتشويهات في إلباس هذه الحركات القومية لباس العلمنة. وحقيقةً، فإنّ الشطر الأكبر من الخط الدرسي الغربي ما زال مصراً إلى اليوم على تلك “الثنوية” العرجاء في فرضها على الواقع السوري في مسألة العلمانية: نظام علماني/حركات إسلامية. لهذا أجد أنّ أسئلة من قبيل: ما هو بالضبط الإسلامي، وما هو العلماني، مازالت تكتسي راهنيتها البحثية، هذا إذا ما أردنا بالفعل فهم العلمانية في سورية.
ونظراً لتعقد هذه النقطة وامتدادها عميقاً في الأدب الغربي وعلاقته بالمشرق وماذا يريد من هذا المشرق من خلال إلباسه بهذه الثنائيات، فإنه سيتم التوقف عند هذا الحد في هذه الإشكالية، لنتناولها من منظور آخر سيتم فيه التطرق إلى علائق الخطاب الديني نفسه بالنظام في مسألة العلمنة، ودور الاثنين في وأدها.
في إشكالية “الكنيسة السنية” السورية والعلمنة
بداية أجد من الضروري التوقف سريعاً حول ما أعنيه بـ”الكنيسة السنية” في السياق السوري، وبخاصة ضمن علائقها المعقدة بفضاء العلمنة. لقد سبق للسوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم أنْ علمنا من خلال مخطوطه ذائع الشهرة “الأشكال الأولية للحياة الدينية“، بأنه من المحال على دينٍ ما الاستمرار في صيغته الدنيوية من غير التمترس بالجماعة؛ فهو يؤكد: “لم نجد في التاريخ ديناً من دون كنيسة([4])“. الحال هذا يمكن سحبه أيضاً، في كثير من استحقاقاته السوسيولوجية، على الإسلام، وخاصة في المعاني التي امتد بها دوركايم في تجاوز مفهوم الكنيسة ضمن الإطار المسيحي الضيق إلى أفق الرابط السوسيولوجي بين أفراد الجماعة([5]). وعلى الرغم من تشديد المسلمين على غياب دينهم من الكهنوت أو الكنيسة، فإننا نجد من الصواب كذلك التأكيد على عمق النمط الكنسي-الجماعاتي فيه، والذي لولاه لما كان هناك أصلاً استمرار تاريخي يُدعى بـ”الإسلام” (وهذا الأمر ينطبق كذلك على الذات الجماعية لأيّ طائفة إذا ما أرادت كتابة البقاء لاسمها). طبعاً نقول هذا الكلام ونحن على وعي باستحالة وجود كنيسة سنية جامعة في العالم الإسلامي طالما أنّ ثيمات الخطاب السني عموماً تخضع لميكانيزمات وتجسدات تاريخية معقدة وتكتسب فرادة من بين طوائف الإسلام، وخاصة على المستوى الفقهي والسياسي، وهو الأمر الذي ساهم، ويساهم في وجود كنائس إسلامية متعددة، كل منها تخضع لمساراتها التاريخية الخاصة (أنثروبولوجياً، سوسيولوجياً، سياسياً…الخ).
لكن إذا كانت تلك الكنائس الإسلامية تلفظ إسلامها من خلال قنوات السياسة والاجتماع السوسيولوجي الدنيوي والتاريخ، فإنّ نمطاً آخر من الكنائس حاولت الأنظمة القمعية “اصطناعه” أيضاً، وذلك بالضبط بهدف ضبط ومكافحة هذه الكنائس، وخاصة تلك التي أخذت أشكالاً سياسية تهدد وجود هذه الأنظمة (“الجماعات” الإسلامية مثلاً. ولنتفكر هنا ماذا تعنيه لفظة “الجماعة” عند هذه التيارات. إنها لفظة تكتسي، إضافة إلى محمولها السياسي المعاصر، بُعداً دينياً أنثروبولوجياً). لنخصص الآنْ الحديث أكثر:
لقد شهدنا في عدد من البلدان الإسلامية أنّ الجماعات الإسلامية لم تخرج من القاع الرسمي العلمائي الديني المرتبط بالدولة، بل على الضد من الدولة، وبالتالي على الضد من كنيسة العلماء. هذه الحال تنطبق تماماً على الإخوان المسلمين في مصر (الإخوان والأزهر، رغم محطات من التعاون السطحي بينهما)، ولا نريد هنا الدخول بها. في سورية كانت الحال عكس ذلك: فعلماء دمشق أنفسهم هم الذين ساهموا في خلق كنيسة سنية لها طابع سياسي واجتماعي([6])، سميت كذلك بـ “جماعة الإخوان”. وهذه الكنيسة لم تكن على الضد من الدولة، بل جزءاً من الدولة([7])، وهي التي كان لها المساهمة الكبرى في التصدي لأي مسار علماني([8])وهذا ما يمكن قراءته، مثلاً، من خلال تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق من خلال سواعد مصطفى السباعي، المراقب الأول لـ “كنيسة الإخوان” السورية. ولنتذكر هنا سريعاً كذلك الجهود الإخوانية في إجهاض مسألة علمانية الدستور السوري سنة 1950 حول مسألة دين الدولة فيما سيعرف بـ”معركة الدستور”. حيث تجسد وقوف الإخوان ضد العلمانية من خلال إصرارهم على تضمين الدستور مادة الإسلام بصفته الدين الرسمي للدولة وليس ديناً لرئيس الدولة. وبعد أنْ تم لهم ذلك، عارضت معظم الكتل البرلمانية، ثم ليقوم مصطفى السباعي نفسه بتعديل المادة رقم 3 لتصبح كما يلي: 1- دين رئيس الجمهورية الإسلام. 2- الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. ثم لتتكرر بعض من معالم هذا الحراك الإخواني حينما أعلنَ حافظ الأسد في 31 كانون الثاني/يناير من سنة 1973 عن دستور سلطته، الأمر الذي أشعل أزمة عميقة في سورية بسبب عدم اشتراطه في أن يكون الرئيس مسلماً، مما قاد إلى مظاهرات كبرى في عدد من المدن السورية بقيادة الإخوان الذين نادوا بالجهاد ضده([9]).
والحال، أنّ هذه الكنيسة السنية السياسية كانت أحد أهم العوائق الكبرى أمام نظام البعث بعد سيطرته على السلطة 1963 في مد سيطرته على الشارع السني. وبصرف النظر عن الدخول في تفاصيل الصراعات بينهما، إلا أنه كان واضحاً منذ البداية أنّ المعارك بينهما التي ابتدأتها هذه الفترة لم تكن تدور على الأرض الأيديولوجية ولم تكن على الإطلاق لأنّ هذا الطرف (الإخواني) إسلامي جداً، وذاك الطرف (البعثي) علماني جداً. مسألة العلمانية لم تكن أساساً مطروحة للنقاش، طالما أنّ الطرفين يدينان للفضاء الثقافي نفسه: الإسلام العروبي. وبكلمة: فإنّ السلطة هي التي جسدت بوصلة الصراع، وليست العلمانية، كما ترغب أدبيات الإخوان في تلك الفترة أنْ تقنعنا.
وهنا نشدد أنّ تدمير هذه السلطة السنية الكنسية من خلال سلطة البعث لم يكن يعني، بوجه منه، خلق بديل علماني حداثي، بل السيطرة على المعنى، وهنا في سياقنا: “المعنى السني” أو إعادة خلق معنى إسلامي جديد. وهذا بالضبط قد تم من خلال المساهمة في خلق بناء عُلمائي سني جديد تجسد في التدخل السلطوي الهائل في فضاءات سيطرة كثير من العلماء السنة على الخطاب الديني السوري. من هذه الزاوية يمكن أنْ نقرأ عزل أبو اليسر عابدين من منصب المفتي (تاريخ العزل) (والذي استمر به لتسع سنوات) بعد ثلاثة أشهر فقط من صعود البعث إلى السلطة واختيار الشيخ أحمد كفتارو بدلاً منه والذي سيكون السادن “الرسمي” الأول للكنيسة السنية-البعثية لمدة أربعين سنة. وقد كانت هذه الفاتحة، التي رافقها إغلاق مساجد وبعض المدارس الشرعية([10])، بداية لتفتت البناء العلمائي السني القديم، والشروع بمنهاجية جديدة في مأسسة قاعدة كنسية سنية ذات رؤوس متسلطة جديدة (صالح الفرفور في دمشق ومعه محمد سعيد رمضان البوطي، وبعض تلامذة محمد النبهان في حلب) ستخدم النظام السوري في بقائه في السلطة.
لم يساهم خرق السلطة السنية القديمة وخلق أخرى بديلة في تشتيت الخطاب الديني وإنتاج تطرف إسلامي (سنشهد اشتداده مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات) فحسب، بل في قتل بعضٍ من المعاني الليبرالية العلمانية التي سادت عند بعض من النخب السورية. لربما يُقال هنا أنّ سيطرة حافظ الأسد وبعثه على السلطة، قد ساهمت في إحدى دلالات مسارات العلمانية، أي: “مأسسة الخطاب الديني” وخضوعه للدولة (وخاصة في مجال التعليم وإنشاء وزارة للأوقاف وتأسيس معاهد شرعية ومدارس جديدة والسيطرة على الأوقاف الإسلامية وإخضاع المساجد للسلطة السياسية…الخ). إذا اقتصر هذا الحديث على الإعادة السطحية لترتيب البيت الإسلامي، فهذا صحيح؛ لكن لا يجب أنْ ننسى أنّ هذا النمط من العلمنة ليس سوى استكمالاً للخطوات التي طالت المشرق العربي أواخر الإمبراطورية العثمانية وبعد انهيارها. ثم وإنّ هذه العلمنة لم تطل البنى العميقة للخطاب الديني بمقدار ما ساهمت في تطويع هذه البنى لتتناسب ومسطرة السلطة السياسية.
من هنا لا يمكن الحديث عن مساهمة النظام السوري في علمنة الكنيسة السنية السورية. إنّ صعود نمط جديد للكنيسة السنية لم يكن الهدف منه سوى مواجهة المعنى السياسي الذي كانت تحتله هذه الكنيسة الإخوانية التي كانت آخذة بالتآكل، فضلاً عن تقديم معنى إسلامي جديد سيطرت عليه طبقة من الكهنة الأصوليين، طبقة كانت جزءاً ركيناً في عمق نظام البعث.
الأسد والكنيسة السنية أو في ضرب العلمانية
هكذا، فإذا كان صعود الحركات الإسلامية في سورية يأتي في مقابل “الكنيسة السنية” التي رعاها نظام البعث، فإنّ كلاً من المسارين ساهم في ضرب أية حركة علمانية: المسار الأول بادعائه أنه يسعى للجهاد ضد نظام علماني وطائفي، والثاني من خلال إعادة أدلجة الإسلام، لا بل والتحدث باسمه ضد الذين “شوهوا” صورة “الدين الحنيف”. مقولة علمانية نظام البعث تعود في جزء منها، كما ذكرنا، إلى عامل الأدب الغربي في قراءة الحركات القومية العربية. وهنا يمكن أنْ نضيف عاملين آخرين، الأول: هو الترويج الإخواني لجهاد ضد نظام علماني متخيل (وهو الأمر الذي ساهم في هذا الترويج)؛ والثاني: هو سيادة أصوات غربية حديثة على ميدان كثير من الدرس الغربي في إعادة قراءة العلمانية بما تشتهيه أصوات كثيرة من الأصوات الدينية الأصولية نفسها.
شارلز تيلور C. Taylor هو أحد أهم الأصوات الغربية المعاصرة التي تحاول تقديم فهم جديد للعلمانية على عكس كثير من المفاهيم الغربية الحداثية التي سادت سابقاً([11]). إنني لن أتطرق لرؤى تيلور هنا، بسبب ضيق المساحة؛ بيد أن ما يهمنا هو اتكاء بعض الباحثين في الدراسات الغربية (منهم بالأصل من العرب) على تيلور وتقديم خلطة سحرية في رسم صورة للدين الإسلامي وعلمائه وعلاقة هؤلاء بالعلمانية؛ سأشير إلى مثال واحد فقط: لين الخطيب، الباحثة التي سبق لها أنْ كتبت في الصعود الإسلاموي في سورية وعلائق ذلك بصعود وسقوط البعث([12])، واليوم تتحفنا بمقال بحثي تظن به أنها ترسم صورة دقيقة للعلماني والإسلامي في سورية المعاصرة([13]). وهذا ما سنمر عليه سريعاً.
استناداً إلى تيلور في أنّ الدين يمثل اليوم “خياراً فردياً” من بين خيارات أخرى وبأنّ السمة البارزة للمسار الغربي نحو العلمانية هي بالضبط “تشابكها منذ البداية مع الدين الشخصي” وبأنّ “الدافع إلى الدين الشخصي هو نفسه جزء من الزخم نحو جوانب مختلفة من العلمنة”([14])، نقول استناداً إلى مثل هذه الرؤى تقدم لين خطيب قراءتها إلى العلمنة السورية(Khatib, More Religious, 54). مخيالية هذه الكاتبةفي قراءة الواقع العلماني المفترض في سورية تبعث حقيقة على التساؤل، ما إذا كانت الكاتبةتتحدث فعلاً عن بلد اسمه “سورية” أم عن كوكب آخر. إنها لا تكتفي بتنميط المجتمعات السورية إلى صورة نمطية سوسيولوجية أحادية وفق مما تتخيله، بل تجعل حتى هذه النمطية الأحادية وكأنها مرآة للمسيرة الغربية. فهي ترى أنّ النظام السوري قد عزز تقديم رؤية دينية تتلاءم مع الرؤية العلمانية (التي تحدث عنها تيلور)، وبأنّه في مجتمع كـ “المجتمع السوري” لا يمكن لنا التصنيف بين العلماني والديني، ذلك أنّ كلا هاتين الرؤيتين متداخلتان وبأنّ العلمانية كانت دائماً تكتسي حيويتها فيه، رغم عملها في خطاب سني(Khatib, More Religious, 41-42).
بالطبع، أحد الأخطاء الجوهرية التي تنطلق منها خطيب هي الخضوع لنفس الخط الغربي في النظر إلى القومية البعثية بكونها أساساً علمانية وبأنّ الأمة التي تخيلتها، من بين الحركات القومية، كانت أمة “علمانية”! (هكذا بالحرف الواحد) وبأنّ النموذج العلماني السوري كان شديداً منذ البداية على “الفصل الحاد بين الكنيسة والدولة وقصر الدين على الفضاء الخاص” (Khatib, More Religious, 44)، وهو الأمر الذي اشتد به البعثيون في أوائل مسيراتهم السلطوية؛ بل كذلك حتى أنّ العلماء المسلمين في سورية قد ساهموا أيضاً من جانبهم في نمط من العلمنة من خلال نزع السحر والنزعات الباطنية عن الدين، كما يفهم تيلور ذلك (طبعاً هنا يتبين الجهل الشديد من خطيب في فهم الخطاب الديني الإسلامي نفسه في نقل التجربة المسيحية الغربية وتطبيقها حرفياً على الإسلام).أما مسألة التداخل بين العلمانية والإسلام، التي ستقتضي بعدم إمكانية الفصل بينهما، ستبدأ مع فترة حافظ الأسد من خلال عمل رجال الدين في ظل نظامه (Khatib, More Religious, 52).
وفي الواقع، فإنّ خطيب تدرك أنّ الأجواء التي من المفترض أنْ تكون علمانية، قد تدهورت كثيراً مع بشار الأسد حينما بدأ الرجل مرحلة أخرى في التعاون مع العلماء المسلمين بهدف مواجهة خطر التطرف. لكن، ورغم هذا الإدراك فما زالت هذه الكاتبةمصرة على أنّ ما كان في سورية “آخذاًبالتآكل هو “شكل” من العلمانية، وليس الثقافة السياسية العلمانية نفسها” (Khatib, More Religious, 53)[التأكيد من عندي]. فالنظام هو نظام علماني والعلمانية ما زالت في سورية تكتسي حيويتها السابقة. إنني لا أشك أنّ خطيب لا تعرف عن هذا النظام وسياساته وما يصدر عنه من مواقف وما يقوده من سياسات تخريبية تقف بالسر والعلن ضد العلمانية. لكن، إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا تعمد الكاتبةإلى هذه الصورة؟ إذا كان نظام بشار الأسد بالفعل يساهم بالعلمانية، كما تريد خطيب إقناعنا، فماذا يمكن أنْ نصف به مقارنة بشار الأسد لسورية بإيران، طالماً أنّ كلا البلدين يستندان إلى الشريعة الإسلامية. لقد جاءت هذه المقارنة في أحد اللقاءات مع علماء دين من طوائف مختلفة. إننا نفهم هنا ما هو الهدف العميق من هذه المقارنة مع إيران([15])، وماذا تريده الأخيرة من سورية، وكيف يمهد بشار الأسد لذلك. لكن لنترك هذه النقطة جانباً. الأسد نفسه، وفي نفس اللقاء، سيعارض رؤية خطيب قلباً وقالباً حينما يؤكد نفسه بأنّ دولته سورية نفسها هي “دولة إسلامية“. يقول بشار الأسد: “على ماذا يستند الدستور السوري؟ على الشريعة الإسلامية…الفقه الإسلامي تماماً. على ماذا تستند كل قوانين الأحوال الشخصية في سورية؟ على الشريعة الإسلامية. طبعاً وللمسيحيين والطوائف خصوصية في هذا الموضوع… طيب نحن أيضاً دولة بهذا المنطق هي دولة إسلامية. هذا بديهي”([16]). تماماً هذه هي عين البداهة! وليس بالإمكان إنكارها، سواء أشاءت خطيب رؤيتها أم لا.
طبعاً إعلان الأسد عن “إسلامية” الدولة السورية، لا يعني بالتأكيد الذهاب للتخلي عن لفظة العلمانية نهائياً، وخاصة حين التوجه للعالم الغربي. ليست المسألة في الواقع ما إذا كان يذكرها أم لا، بل ماذا يريد أنْ يفهم منها. فهو يكاد لا يترك فرصة إلا ويحاول إفراغها لجعلها مفهوماً أجوفاً. إنه نفسه، وفي سياق تفسيراته الخلبية للعلمانية، يذكرنا بجهود نظامه في إعادة تديين المجتمع السوري، إذ يقول الأسد: “ففي سورية بني منذ عام 1970 حتى اليوم ثمانية عشر ألف مسجد.. فلو كانت العلمانية ضد الدين أو نمارسها ضد الدين.. كيف نسمح ببناء 18 ألف مسجد.. بني 220 مدرسة شرعية وثانوية شرعية وغيرها.. بني العشرات من المعاهد لتأهيل الدعاة([17])“، لا بل نجده كذلك يبرر لـ”دينية النظام السوري” لأنّ المجتمع السوري نفسه هو مجتمع متدين وهو مرآة لهذا المجتمع: “وإذا كان المجتمع ملتزم بدينه فلا بد أن تكون الدولة مبنية على الأسس الدينية حتى وإن كانت علمانية.. لا يمكن أن تكون الدولة لا دينية والمجتمع متدين.. والعكس صحيح.. لا يمكن أن تكون دولة ذات شكل ديني والمجتمع غير ملتزم بدينه.. فإذا نحن مرآة للمجتمع([18])“.
خاتمة
الناظر لمنظر عمائم سدنة النظام السوري وديانته الإسلامية (ومعهم كذلك سدنة الطوائف الأخرى) الملتفة حول رئيسها في ذلك اللقاء يدرك تماماً ما الذي رمينا إليهمن خلال تعبيرنا “الكنيسة السنية” السورية ومساهمة هذه يداً بيد مع نظامها السياسي في تدمير المعنى العلماني، ذلك المعنى الذي ولد بالأصل يتيماً أوائل القرن العشرين وقضى عليه نظام البعث لاحقاً نهائياً. إنها كنيسة مخيفة في الواقع. إنها هذه الكنيسة السنية التي أصعدها الأسد من جديد، والتي تستشهد السيدة خطيب ببعض رجالها بأنهم مساهمون في مسار العلمنة السورية والمبشرون بها، من خلال تصريحات جوفاء هنا وهناك (على رأسهم تلك التي تخرج من فم المفتي السوري أحمد بدر الدين حسون)، تصريحات لا تحمل من مدلولات سوى الجعجعة لكي يحمي بها سدانته الدينية-السلطوية فضلاً عن نظامه([19]). لقد وصل مدى صلابة “علمانية” المفتي حسون إلى درجة دعوة الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني (الذي تنتمي له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) للتخلي في اسمهم عن حرف “C” الذي يشير إلى لفظة “المسيحي” في عنوان اتحادهم(CDU، Christian Democratic Union).
هذه هي الدرجة التي وصلت بها “علمانية” حسون المفتي، التي تستشهد بها خطيب(Khatib, More Religious, 58)، وهي “العلمانية” نفسها التي جعلت الجهاد في سورية “فرض عين” دفاعاً عن النظام السوري([20])، وهي “العلمانية” نفسها التي وعد بها الرجل أوروبا بإمطارها بالمجاهدين([21])!والحال، أنْ تستشهد السيدة خطيب من خلالها للتدليل على مساهمة هذا الخطاب الديني بالعلمانية في سورية، فهذا بالضبط استمرار في لوي شديد للحقائق (على القارئ الغربي قبل العربي)، فضلاً عن كونه تدليلاًتزييفياًيمثل “سدرة المنتهى” في الخداع.
الهوامش
([1])انظر مثلاً الخطيب، علاء الدين: الكذبة الكبرى: عَلمانية نظام الأسد، 2018
([2])يمكن بالفعل تتبع هذه النظيمة حتى أوائل القرن العشرين وما بعدها في عشرينياته في تناول الحركات القومية العربية بكونها انطلقت أساساً من مسلمات علمانية في مقابل الحركات الإسلامية الأخرى، إصلاحية كانت أم سياسية.خذ مثلاً هانز كون في درسه تاريخ الحركات القومية في الشرق: Hans Kohn, Geschichte der nationalen Bewegung im Orient, Berlin 1928.
([3]) يشدد ميشيل عفلق مثلاً: “تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الإصطلاحية”، انظر له: في سبيل البعث، دار الطليعة، 1978ـ ج1، ص175. ومن النادر إتيان عفلق على اصطلاح العلمانية الذي لا يوليه وزناً، ويتخبط في توضيحه، كأن يقف أمامه موقف المتشكك أو يضعه ضمن السلة الغربية التي تغزو أبناء العربية في سبيل انتزاعهم من تراثهم، أو أنْ يرادف بينه وبين مفهوم الوطنية المنحصرة في «قطر» دولة ما في مقابل القومية العربية الكبرى…الخ. وهذا ما سيذمه ويستنكره (مثلاً قوله: “فإنّ هذا المفهوم للعلمانية الذي كان في وقت ما خطوة تقدمية، أمسى عامل تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني” ج3، ص45). وعموماً يمكن النظر إلى إشاراته السريعة في هذا السياق في نفس الكتاب، ج3، ص42-45. والرجل له أيضاً إشارة غامضة أخرى في إلباس العلمانية بمفهوم ديني وروحي غير مفهوم: “وما دام الدين منبعاً فياضاً للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة”، ج1، ص176.
([4]) Durkheim, Emile 1995 (1912): The Elementary Forms of Religious Life. Translated and with an Introduction by Karen E. Fields. New York: The Free Press (Simon & Schuster), P.41.
([5])دوركايم يشدد في نفس السياق (ebda, P.41): “إنّ الأفراد الذين يشكلون الجماعة يشعرون بالاتحاد الواحد تجاه الآخر وذلك بواسطة حقيقة الإيمان المشترك. إنّ المجتمع الذي يكون أعضاؤه متحدين بسبب تخيلهم، بنفس الشكل والأسلوب، عالماً مقدساً مع علاقاته بالعالم المدنس، وبسبب ترجمتهم هذه التمثيلات [الاعتقادية] المشتركة في ممارسات مماثلة بينهم، هذا ما يدعى بـ”كنيسة““[التشديد من عندي].
([6])انظر هنا حول الدور الهائل للعلماء الدمشقيين في صناعة الفضاء الثقافي السوري نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين (والذي كما أعتقد أنه بتراثه القوي كان له دور حاسم في صناعة الإخوان السوريين مع نهايات النصف الأول من ذلك القرن) Commins, David 1990, Islamic Reform Politics and Social Change in Late Ottoman Syria.
([7])أستخدم هنا لفظة الدولة من ناحية إجرائية كما تجسدت في سورية، ولا أقصد هنا الدولة بمعناها الحداثي السياسي، فهؤلاء بعيدون عن هذا المفهوم، بل هم يمثلون الضدية الكبرى التي تقف في مقابل الدولة.\
([8])انظر: مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإخوان المسلمون في سوريا ممانعة الطائفة وعنف الحركة، ويمكن الاطلاع على البحث هنا.
([9])حول بعض من معالم الجدل وتحركات الإخوان من حلب وحماة وحمص انظر: Pierret, Thomas (2013): Religion and State in Syria The Sunni Ulama from Coup to Revolution, Cambridge Middle East Studies, P. 184f.
([10])الأتاسي، أحمد نظير: البعث والإسلام في سوريا: سلالة الأسد في مواجهة العلماء
([11])وخاصة في درسه الكبير: Taylor, Charles (2007): A Secular Age, Belknap Press of Harvard University Press.
([12])انظر لها: Khatib, Line (2011): Islamic Revivalism in Syria: The Rise and Fall of Ba’thist Secularism, Routledge.
([13])نعني تماماً بحثها: Khatib, Line (2016): More Religious, yet still Secular? The Shifting Relationship Between the Secular and the Religious in Syria, Syria Studies 8 (1), 40-65.
وفيما يلي ستكون الإشارة إلى هذا البحث في متن النص.
([14])Taylor, Charles (2011): Western Secularityin: Rethinking Secularism,eds. Craig Calhoun, Mark Juergensmeyer, and Jonathan Van Antwerpen, New York, NY: Oxford University Press, P.38
([15])انظر الجانب من اللقاء
([17])«لقاء السيد الرئيس /بشار الأسد/ مع قناة الاخبارية السورية» 17.04.2013
([19])لا يتسع المجال أمامنا في تناول هذه التصريحات الهائلة التي تصدر عن رؤوس هؤلاء فيما يخص العلمانية. وأتمنى أنْ تكون هناك مناسبة أخرى في مناقشة المفهوم الجوهري للعلمانية ضمن سياق الخطاب الديني السوري نفسه. لكن نشير مثلاً سريعاً إلى أحد تلك التصريحات، التي تستند خطيب إليها بكونها مثالاً على علمانية الخطاب الديني السوري، قول أحمد حسون: «العلمانية ليست ضد الدين وأنا مسلم علماني» لا بل أنه يرى نفسه في لقاء مع دير شبيغل الألمانية (November 08, 2011) بأنه، أي حسون، مفتياً «لجميع السوريين البالغ عددهم 23 مليونًا ، وليس فقط المسلمين ، بل أيضًا المسيحيين وحتى الملحدين» Iterview with Syrian Grand Mufti ‘Assad Could Step Down After Free Elections
([20])مجلس الإفتاء السوري: الجهاد دفاعاً عن النظام “فرض عين”