الحراك الجزائري في زمن الخيانة، أيلول ٢٠١٩

[المصدر: موقع بوابة الشروق] [المصدر: موقع بوابة الشروق]

الحراك الجزائري في زمن الخيانة، أيلول ٢٠١٩

By : Thomas Serres

[ترجمة أسامة إسبر]

كثّف الجهاز العسكري البيروقراطي الذي ما يزال يسيطر على الدولة الجزائرية جهوده في الأسابيع الأخيرة كي يقضي على الحراك. وحاول رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح ومعاونوه أن يخضعوا الناس منذ شهر حزيران. أكدوا أن إجراء انتخابات رئاسية ضرورة مطلقة وجرّموا المعارضين السلميين واتهموهم بتعريض سلامة الأمة للخطر. في أثناء هذا الوقت تذبذب موقف الشركاء الدوليين بين صمت متواطئ ودعم فعال للنظام. فضلاً عن ذلك،  جهزت حكومة نور الدين بدوي غير المنتخبة الخطوة التالية: تحرير الاقتصاد بسبب أزمة في الميزانية.

القمع والحصانة

فوجئت السلطات الجزائرية بحجم التعبئة الشعبية التي بدأت في شباط\فبراير، وبالتنظيم الماهر للمحتجين، وبالطابع السلمي المتواصل للاحتجاجات. ذلك أن الحراك لم يتلاءم مع أي من الخانات الموجودة التي دُرِّبت الدولة البوليسية على التعامل معها من خلال الاعتماد على وحدات الشرطة المضادة للشغب، ومضايقة الأفراد المتمردين أو التكتيكات المضادة للإرهاب.

مع مرور الوقت، تأقلمت الدولة مع الوضع مستفيدة من رتابة الحراك وتبعثر المعارضات السياسية. ورغم وفاة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار في السجن، واصلت الشرطة الجزائرية سياستها في قمع المحتجين. وفي بداية أيلول اعتُقل عدد من أعضاء الجمعية الجزائرية للشباب (راج) لوقت قصير في بجاية مع رئيسها عبد الوهاب فرساوي، من أجل منع تنظيم الجامعة الصيفية للحركة. وترافقت مضايقة الشرطة مع عنف ليس مهلكاً لكنه صادم على نحو عميق، وخاصة للذين تعرضوا لإصابات في أعينهم من قنابل الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المطاطي. وجوبهت محاولات القيام بتجمعات تلقائية بحضور كلي ساحق للشرطة وسلسلة من الاعتقالات الوقائية التي هدفت إلى جعل الحراك ينشط فقط ضمن الحدود التي سمح بها النظام.

لكن رغم الصيف ومرور الوقت والقمع العنيف، تواصل الحراك. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن هذا الحراك لا يتألف فقط من احتجاجات يوم الجمعة. فقد كان الطلاب، طوال ثلاثين أسبوعاً، يجتمعون كل ثلاثاء كي يطالبوا برحيل الزمرة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي اختلست ثروات البلاد لمدة عشرين عاماً، بينما حاول النظام الاستفادة من الإجهاد ولجأ إلى القمع كي ينجو من الحركة الثورية،  لكن تصميم ومرونة الطلاب محوريان لنجاح الحراك. وفي الوقت نفسه، حاولت قوى ”البديل الديمقراطي“ التي تضم ستة أحزاب وجمعيات معظمها يسارية، مقاومة العوائق الإدارية واقتراح رد على خريطة طريق طرحها النظام. وفي هذا السياق اعتُقل زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي كريم طابو في ١١ أيلول باتهامات ملفقة ”بتحطيم معنويات الجيش“. وأكد يوم الجمعة التالي (١٣ أيلول) القمع المتنامي للنظام وشهد اعتقال العشرات من المحتجين رغم تعبئة ضخمة تواصلت مطالبة باستئصال جذري للنظام كشرط مسبق لتنظيم أي انتخابات.  وفي يوم الاثنين ١٦ أيلول اعتقلت الشخصية السابقة لحركة بركات والفاعل الرئيسي في الحراك سمير بلعربي خارج مقر إقامته من قبل عملاء في ثياب مدنية. وفي الوقت نفسه، بقي المعاونون الأكثر فساداً  لقايد صالح ولاسيما بهاء الدين طليبة وعمار سعد الدين وعمار سعداني أحراراً.

الانتخابات والأرنب

بينما تحاول قوى البديل الديمقراطي معارضة مخططات النظام ببرنامج واضح بدا كأن حكومة بدوي أكملت مهمتها. فقد بذل رئيس الوزراء، الذي اختاره بوتفليقة في بداية الحراك، جهوداً حثيثة للدفاع عن مصالح الآلة العسكرية البيروقراطية التي تسيطر على الدولة الجزائرية، مبدياً صموداً ملحوظاً. وفي الحقيقة إن بدوي هو التجسيد التام للطبيعة التكنوقراطية الأمنية للنظام: فهو خريج المدرسة الوطنية للإدارة المشهورة وخدم والياً ثلاث مرات قبل انضمامه إلى الحكومة. وخدم كوزير للداخلية  لمدة أربع سنوات تقريباً وهكذا أشرف على ”حسن سير“ الانتخابات.  وبينما قُدم رحيله الوشيك كطريقة لتهدئة المحتجين، فإنه مع ذلك سيغادر بعد أن يرتب إطار الانتخابات الرئاسية في ١٢ كانون الأول من خلال مشروعي قانونين عضويين سينشئان سلطة انتخابية وطنية وينقحان القانون الانتخابي.

وهنا يبزغ سؤال شرعي: لماذا تُرفض الانتخابات الرئاسية فيما تدير حكومة غير منتخبة البلاد في الأشهر الستة الأخيرة؟ إن الذين يطالبون بحكومة وحدة وطنية وجمعية تأسيسية يمتلكون على الأقل ثلاثة أسباب لفعل هذا. أولاً، سيسمح انتخاب جمعية تأسيسية بإنشاء نظام سياسي قابل للحياة ويمد وظيفته بجرعة جديدة من الثقة. وفي الوقت الحالي، فقدت مؤسسات الدولة مصداقيتها بحيث لا يمكن أن يتمتع رئيس منتخب بأية شرعية حقيقية.

ثانياً، ستسمح جمعية تأسيسية بإعادة تنظيم مشهد سياسي يتسم بانقسام شديد بحيث أن كل معسكر يستطيع أن يعيد النظر في قواه ويجهز استراتيجيته وتحالفاته. وبوجود العشرات من الأحزاب التي لا تمتلك قاعدة اجتماعية حقيقية، فإن الميدان السياسي منقسم جداً بحيث لا يسمح ببزوغ مشاريع سياسية متماسكة ومسموعة. أخيراً، بسبب نفوذ الآلة البيروقراطية العسكرية في البلاد، لا شك أنها ستتمكن من فرض مرشحها الرئاسي المفضل. إن الرئيس الحالي للسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي، هو أيضاً خريج المدرسة الوطنية للإدارة وتبوأ منصب وزير عدة مرات في ظل بوتفليقة.

إن المرشح المفضل للانتخابات التي دعا إليها قايد صالح ليس إلا على بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات والأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني ورئيس الوزراء. فقد تحدى بن فليس بوتفليقة أثناء الانتخابات الرئاسية في ٢٠٠٤، متمتعاً بدعم رئيس أركان الجيش محمد العماري. وبعد هزيمته، صار إحدى شخصيات ”المعارضة“ التي شاركت في انتخابات مزورة  (أشير إليها غالباً في الجزائر باسم الأرانب). بن فليس، الذي هو ابن النظام ويحاول تقديم نفسه بقوة كبديل ليبرالي، يحظى أيضاً برضا الحكومات الغربية ويتمتع نسبياً بتغطية إعلامية إيجابية (وتبجيلية علناً) في أوربا. لم يوقفه هذا عن سحب التضامن من المعارضين الحقيقيين للنظام أو من القفز إلى فرصة إجراء انتخابات رئاسية في كانون الأول.

بالنسبة للنظام، إن المرشح المثالي الذي سيرشح ضد بن فليس هو قائد الحزب الإسلامي حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري، الذي رغم أنه كان منتقداً للعملية الانتخابية لم يخف رغبته في أن يجري بسرعة انتخابات رئاسية.  سيسمح هذا السيناريو للنظام بتعزيز المشاركة في الانتخابات بينما يصنّع في الوقت نفسه معارضة بين ”العلمانيين الليبراليين“ و ”الإسلاميين المعتدلين“، في وصفة مشابهة للانتخابات الرئاسية التي شهدت نجاح اليامين زروال (شخصية عسكرية سابقة علمانية) ضد محفوظ نحناح (مؤسس حركة مجتمع السلم) في ١٩٩٥.

المنافقون الدوليون

في هذا السياق، يراقب الشركاء الأجانب للنظام الوضع عن كثب فيما يقومون بالتأكد بألا يفعلوا أي شيء يمكن أن يعرض مصالحهم للخطر.وباستثناء الإمارات العربية المتحدة، والتي لا وازع لديها في تعزيز رؤيتها الأمنية للعالم العربي، فإن الرد المهيمن كان الجبن.وغرقت الأصوات العاقلة القليلة في محيط من التواطؤ غير المريح. وفي ١٤ تموز عبّر السفير الفرنسي في الجزائر بشجاعة عن دعمه للثورة المتواصلة واعترف بعماه الخاص بخصوص ظمأ الشعب الجزائري للحرية. لكن في فرنسا، رئيس الجمهورية هو صاحب الكلمة العليا حيال المسألة الجزائرية. ففي البداية دعم قصر الإليزية بشكل خاطىء بوتفليقة، قبل أن يرحب ببرود بالرجل القوي الجديد قايد صالح. وسعى ماكرون، الذي كان مهتماً بالحفاظ على المصالح الاقتصادية الفرنسية ولاسيما ضمان شراء شركة توتال لأصول مجمع أناداركو، سعى إلى إعادة الارتباط مع رئيس أركان الجيش. وهكذا امتنعت فرنسا عن التعبير عن أي شكل من أشكال التضامن مع  الحراك. بدلاً من ذلك، لجأت إلى صمت يشير بوضوح إلى دعم ضمني للنظام.

خارج فرنسا، أظهر الأوربيون أعراضاً مشابهة: رغم أن رئيس اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في البرلمان الأوربي ماريا آرينا شجبت الاعتقالات العشوائية في الأيام القليلة الماضية إلا أن المسؤولين الحقيقيين عن الدبلوماسية الأوربية بقوا صامتين. أما الأميركيون فقد راهنوا أيضاً على إعادة انتخاب بوتفليقة لأسباب كانت جوهرياً اقتصادية (آملين أن تحل شركة إكسون موبيل محل شركة توتال)، وبالتالي قبلوا بقيادة قايد صالح كي لا يجازفوا بتعقيدات مستقبلية. ورغم الادعاءات التي روج لها الإعلام الفرنسي، لم يكن الروس أقل غموضاً  في دعمهم الضمني للشخصيات العسكرية.

بانتظار الوليمة

لا شك أن الحلفاء المنافقين للنظام الجزائري ينتظرون بفارغ الصبر أن تبدأ الوليمة. فقد حان الوقت لتحرير الاقتصاد بسبب ضغط أزمة ميزانية حادة والتي هي نتيجة مباشرة لعقدين من سوء الإدارة والاختلاس وهرب رؤوس الأموال (لا سيما إلى فرنسا وكندا وسويسرة). هكذا ستتمكن الشركات الأجنبية ورجال الأعمال المحليون، راشو الأمس واليوم، من المشاركة في تفكيك النظام الذي عملوا على تخريبه.

تم ترتيب الأمور كلها، وفي ٢٠١٤ عبّر علي بن فليس في مقابلة نُشرت في الصحيفة الفرنسية النيوليبرالية Les Echos عن قناعته بأن حل الأزمة الجزائرية يكمن في  التحرير الكامل للاقتصاد الجزائري. ويلعب الأوربيون دورهم في تعزيز نموذج من اقتصاد السوق الاجتماعي خصوصاً من خلال العمل لتطوير قدرات المقاولين الشبان عبر برامج تعاون.  ولم يبذل آخرون أدنى جهد للتكيف مع الثقافة السياسية الاشتراكية التي ما تزال حية في الجزائر وبدلاً من ذلك يحاولون فرض هيمنة ثقافية جديدة. وبافتقار واضح للدقة، يطبق الأميركيون شكلاً من الدعاية النيوليبرالية الداعمة للسوق من خلال تمويل إطلاق برنامج إعلامي خاص بتلفزيون الواقع، ”عندي حلم“ وهو صيغة جزائرية من برنامج ”شارك تانك“ سيبُث على قناة الشروق.

بدورها، صاغت حكومة بدوي قانون المال لعام ٢٠٢٠ الذي يتنبأ بما يلي: عودة إلى المديونية الأجنبية (بالتالي اتكالية أكبر على المؤسسات المالية الدولية)، التخلي عن قانون 49-51 الذي قصر الاستثمارات الأجنبية على القطاعات غير الاستراتيجية (وكان هذا شيئاً طالب الأوربيون به لوقت طويل)، وإعادة تنظيم قانون المشتريات الحكومية لمنح أولوية ”للمقاولين الشبان والناشئين“.

إن السياسيين الطامحين والأعضاء الكبار في التكنوقراط والجيش، والغربيين المقتنعين بتفوقهم الثقافي وشركات كبرى كانت تستغل الموارد الأفريقية لعقود يعملون جميعاً لتجاهل المطالب السياسية التي تمتلك شرعية مطلقة.  فقد عبّر الحراك الذي هز البلاد لستة أشهر عن مطلبين جوهريين: رفض تمثيل سياسي سخيف ومهين، والوقف الفوري لنهب ثروة البلاد.  ورد النظام الجزائري والمتواطئون الأجانب معه على هذه المطالب بفرض انتخابات رئاسية مسيطر عليها والتحضير لنهب اقتصادي تحت توجيه ”الإصلاحات“. هؤلاء هم الممثلون أنفسهم الذين تظاهروا بمحاربة الإرهاب حتى حين قامت أفعالهم في الحقيقة بتزويد التطرف بالوقود. ولحسن حظ الجزائر والمنطقة، إن الثوريين هم من قماشة مختلفة، فبدون سلميتهم التي لا تلين، فإن البلاد ستكون بشكل مؤكد على حافة الفوضى.

* توماس سيريس: باحث متخصص في العلوم السياسية

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬