لا تركنُ «ملحمة گلگامش» إلى أسلوبٍ سرديّ واحد. سيتّضح الأمر أكثر لو حذفنا التّكرارات، حينها سنكون أمام تنوّع مدهش من الأساليب. ولعلّ أجمل هذه الأساليب هي الأحلام. الجوّ الحُلميّ عنصرٌ أساسيٌّ في الملحمة، لا لأنّ الحلم سفينة الوعي واللاوعي، ووسيلة للنبوءات وحسب – كما في نصوص الحضارات القديمة – بل لأنّ الحلم يعني خلخلة الزمن. وقد كانت هذه الوسيلة مهمّة في تقديم أسلوب سردٍ جديدٍ يكسر السّرد الخطّيّ ويحرّض الفضول. الزّمن ومتاهاته عنصرٌ جوهريٌّ لا معنى للملحمة من دونه فهو أداة قياس كلّ شيء، بما فيها المسافات. نجد ثمانية أحلام في الملحمة: حلمان في اللوح الأول، وخمسة في اللوح الرابع، وحلم أخير في نهاية اللوح السادس وبداية اللوح السابع. تبدأ الأحلام بإنكيدو وتنتهي به. فهو المستمع في الحلمين الأوَّلَيْن، والمُؤوِّلُ في الأحلام الخمسة التالية، وهو صاحب الحلم الأخير. وكأنّ الملحمة تومئ إلى أنّ الأحلام هويّة بشريّة بمعنى ما، لا يكتمل وجودهم إلا بها. وحتّى حين تكون الأحلام من نصيب الملك-الإله گلگامش (في الحلمين الأوّلين)، فإنّه يعيشها بثلثه البشريّ فقط. الآلهة لا تحلم، ولكنّها قد تُشارك في التأويل. أوَّلت الإلاهة ننسون حُلميْ گلگامش، ولكنْ حتّى في هذه الحالة كان الحضور البشريّ أقوى. إذ إنّ ناقل مشهد الحلمين كانت شمخة (وهي بشر)، عدا عن حقيقة أنّ ننسون هي أمّ گلگامش. وبذا فإنّ التأويل هنا أقرب إلى الطّبيعة «البشريّة» منها: أوّلتْ الحلمين كما تفعل الجدّات والأمّهات، حتّى لو تصادَفَ أنّ هذه الأم إلاهة.
تبدأ الأحلام بشمخة وإنكيدو في اللوح الأول. تبدأ بحُلمَيْ گلگامش، ولكن على لسان شمخة. تبدأ على نحوٍ غير مباشر، وكأنّما الحلمان هنا وسيلتنا لكشف دواخل الملك-الإله الذي هيمن على اللوح الأول بجبروته. ثمّة وجه آخر لهذا الجبروت، وجه بشريّ أضعف وأكثر هشاشةً بالضّرورة. زمن رواية الحلمين ضروريّ هنا، إذ يتزامن ويرتبط ببداية المرحلة الانتقاليّة التي يعيشها إنكيدو بعد أن نبذته جماعته الأولى واستقبلته شمخة بوصفها مرشدةً. يريد إنكيدو التعرّف إلى گلگامش، ولا بدّ أن يكون هذا عن طريق المرشدة شمخة، وهي صلة الوصل الوحيدة بين هذين البطلين وعالميهما. لا نعلم دوافع شمخة لتحريض إنكيدو على الدّخول إلى عالم أوروك. ولكن ثمّة احتمال ضئيلٌ بأنّ شمخة باتت ميّالةً إلى إنكيدو أكثر ممّا كانت تميل إلى أوروك وعالمها وملكها. ولذا ربّما يمكن لنا فهم تقديم الصورة الأخرى لگلگامش: البشر الذي تُربكه الأحلام. وكأنّما شمخة تحاول هنا كسر جبروت گلگامش أمام إنكيدو المُرشَّح الأكبر لهزيمة الملك. يبدأ الحلم بعبارة موحية تحمل معنيَيْ التّحذير والتّحريض في آن: «سيُبصركَ گلگامش في قلب أوروك في المنام». ومن ثمّ تُواصِل شمخة سرد الحلمين. يشترك الحلمان في رؤية گلگامش لشيءٍ قويّ غريب، يتحلّق حوله أهل أوروك، ويعجز گلگامش أمامه إلى أن يرفعه عند قدمي أمه الإلاهة ننسون التي «تجعله مساويًا له». في الحلم الأول، يسقط كوكب أو مذنّب، يخشاه گلگامش وينجذب إليه في آن، ولكنّه يترك التّعامل معه لأمّه لأنّها الأقدر والأقوى والأكثر خبرة. ويكون التأويل: «إنّه رفيقٌ منقذٌ للصّديق ... سيكون قويًا وينقذك دومًا». وفي الحلم الثاني، يرى گلگامش فأسًا يخشاها وينجذب إليها كما في حالة الكوكب، ويتكرّر التأويل ذاته ولكن مع إضافة جديدة: «هو الأقوى في البلاد». ولكنّ تطمينات ننسون تفعل فعلها برغم تحذيراتها المُبطّنة، فيتعاظم الانجذاب وتقلّ الخشية، إلى أن يهتف گلگامش: «عسى أن أحصل على صديقٍ مُشاوِر/ سأحصل على صديقٍ مُشاوِر».
أساس الحلمين واحد، وسردهما متماثل تقريبًا، وتأويلهما ومغزاهما واحد: سينال الملك صديقًا ومُشاوِرًا. ولكن هناك عبارتان بعينهما تُثيران نقاشًا وإشكاليّات كثيرة. ترد العبارتان في الحلمين بلا تغيير. الأولى: «وأنا هفوتُ إليه كزوجة»، والثانية: «سيكون قويًا وينقذك دومًا». اندلعت جدالات كبيرة لا سبيل إلى الحسم فيها بشأن العبارة الأولى. ما شكل العلاقة بين گلگامش وإنكيدو؟ هل هما صديقان أم حبيبان؟ لو حذفنا العبارة من الملحمة لن نجد أيّة إشارةٍ واضحة أخرى إلى وجود علاقة جنسيّة بين البطلين. ولكنّ بعض المؤوّلين تشبّثوا بالعبارة وعدّوها دليلًا حاسمًا. ولكنّ العبارة ليست واضحةً إلى هذه الدّرجة. من الزوجة هنا؟ هل هو گلگامش أم إنكيدو؟ هل المعنى «هفوتُ إليه وكأنّي زوجة» أم «هفوتُ إليه كما أهفو إلى زوجة»؟ قد تبدو العبارتان متماثلتين في المعنى ولكنّهما متباينتان بل ومتضادّتان. لو كان المقصود هو المعنى الثّاني، فسنكون أقرب إلى علاقةٍ مثليّة. ولكنّ المعنى الأول يُبطِن تأويلاتٍ أخرى: هل تعني الوِصال أم الضّعف أم الحب؟ في ظلّ منظومةٍ ذكوريّة هرميّة تُكرِّس سُلطة الذكر على الأنثى، وسُلطة الزوج على زوجته بما أنّه «الأقوى»؛ وفي ظلّ وجود العبارة الثانية «هو الأقوى في البلاد»، لن تكون إشارة العلاقة المثليّة حاسمةً بالضّرورة، بل سنكون أمام معنى آخر كما في الحلم: گلگامش منجذب إلى إنكيدو ويخشاه في آن لأنّ إنكيدو أقوى منه، ولأنّه سيحظى بمحبّة أهل أوروك. ولذا فسيكون الحل الأسلم مهادنة هذا القويّ ومصادقته. بالمقارنة، كانت تفاصيل العلاقة الجنسيّة بين إنكيدو وشمخة من جهة، وبين گلگامش ونساء أوروك واضحةً تمامًا. لو كانت هناك علاقة مثليّة، كنّا سنجد تلميحات أو تصريحات أكبر وأقوى من مجرد عبارة واحدة تحتمل عدة معانٍ. ولكن ستبقى المسألة من دون حسم تام. أمر العبارة الثانية أسهل: «سيكون قويًا وسينقذك دومًا»، حتّى مع وجود ازدواجيّة في المعنى. يمكن لنا أخذ العبارة بحرفيّتها: إنكيدو سينقذ گلگامش. ويمكن لنا أخذها نبوءةً: إنكيدو سيفتدي گلگامش. وهذا ما سيحدث فعلًا حين سيكون الموت من نصيب إنكيدو وحده، كما قرّر مجلس الآلهة.
حين ننتقل إلى اللوح الرابع، سنكون أمام خمسة أحلام سبقت القتال بين إنكيدو وگلگامش في الطرف الأول، وبين خمبابا في الطرف الثاني. ولكنّ النّسخة البابليّة القياسيّة (التي أعتمدها نصًا في المقالات) مُشوَّهة في مواضع كثيرة نعجز فيها عن فهم الأحلام أو تأويلها من دون الاستعانة بنص آخر، على الأخص النسخة البابليّة القديمة. للاستعانة بنص آخر لفهم نصنا إشكاليّاتٌ كثيرةٌ، لأنّ الملحمة لم تبق كما هي بلا تعديلات وإضافات وتغييرات منذ حلقاتها الخمس السومريّة وصولًا إلى النّسخة الأكمل والأجدد: النسخة القياسيّة. وكذلك، ثمّة تعارض أحيانًا في ترتيب الأحلام وتأويلها، وحتّى في مضمونها. يمكن لنا تلخيص الأحلام الخمسة كما وردت في النسخة القياسيّة كما يلي:
الحلم الأول: انهيار جبليّ يدفن (گلگامش؟) تحته، فيكون التأويل أنّ الجبل هو خمبابا وانهياره يعني هزيمته.
الحلم الثاني: مُشوَّه المضمون والتأويل.
الحلم الثالث: عاصفة تهزّ السّماء وتُشعل نيرانًا في الأرض؛ التأويل مفقود.
الحلم الرابع: مشوَّه المضمون، ولكنّ التأويل انتصار على خمبابا.
الحلم الخامس: مُشوَّه المضمون والتأويل، ولكن يضمّ طائرًا على الأغلب.
يمكن لنا التّخمين من التّفاصيل المتناثرة التي لدينا، ومن سياق المقاطع ككل، أنّ الأحلام كلّها تقوم على وجود كارثة تلحق بگلگامش، فيكون التأويل أنّ الكارثة ما هي إلا مظهر خارجيّ زائف، وأنّ الكارثة ستلحق بخمبابا. ليس بأيدينا إلا الدهشة والاستغراب من هذا التأويل الغريب والغامض. وسيتضاعف الغموض حين نعلم أنّ إنكيدو هو المُؤوِّل. من أين لإنكيدو هذه الموهبة؟ لا يتيح لنا النص الجزم بأيّ شيء لأنّ نشأة إنكيدو غامضة بدورها. صحيحٌ أنّ تأويل إنكيدو قد تحقَّق، ولكنّ الأمر ليس بهذه البساطة لأنّنا نعلم أنّ إنكيدو لم يكن راغبًا بهذا القتال مع خمبابا أساسًا، ولذا كان من الطّبيعيّ أن يُبعِد گلگامش عن القتال من خلال منح تأويل مخيف. ولكنّ العكس هو ما يحدث، فالتأويلات مطمئنة كلّها مع أنّ مضامينها لا تُتيح تأويلًا كهذا. هنا يحقّ لنا طرح سؤال عجيب: هل كان إنكيدو يحاول إيقاع گلگامش في فخ؟ نعلم من النّسخة القياسيّة بأنّ انتصار گلگامش (گلگامش وحده لأنّ إنكيدو لم يشارك في القتال) كان بفضل تدخُّل الإله شمش ورياحه. ونعلم من النّسخة القديمة بأنّ الأحلام كانت تتضمّن دومًا وجود شخص غريب (شخصين أحيانًا) يُنقذ گلگامش من كوارثه، فيكون تأويل إنكيدو المنطقيّ بأنّ هذا الشخص هو الإله شمش (والملك لوگلپندا أبو گلگامش). لا نملك إلا محاولة التّخمين، ولا يمكن الجزم أو الحسم إلا بعد اكتمال اللوح الرابع، وهذا مستبعد في المدى المنظور.
ثمّة تفصيل مهم وصل إلينا كاملًا لحسن الحظ: كيفيّة استدعاء إله الأحلام. نفهم من النص بأنّ الأحلام نوعان: الأحلام العاديّة اللاواعية التي تأتي بلا مُحرِّض، والأحلام التي تُستدعى استدعاءً بالاستعانة بإله الأحلام، وتكون غالبًا قبل المضيّ في عمل خطير أو كبير. الأمر قريب من صلاة استخارة بمعنى ما. ولكن يبدو أنّ الأحلام لا تكتمل بلا تأويل، إذ لا يكفي مجرّد رؤيتها. لم يكن گلگامش مرتاحًا حيال أيّ حلم من الأحلام الخمسة، بل كان يُجفل منها دومًا. هل السبب لأنّ الأحلام مرعبة في ذاتها، أم لأنّ الرعب سيطر على گلگامش مع دنوّه من غابة خمبابا؟ مرةً أخرى، لا يمكن لنا الجزم. ولكنّ تأويل إنكيدو حسم الخوف بدرجة كبيرة، وأبدله بطمأنينة غريبة. تقوم فكرة الاستدعاء على نثر نوع من أنواع الدّقيق من على جبل، يليها إقامة «بيت أحلام» تُرسم داخله دائرة ينام فيها من يريد أن يحلم بعد أن يغلق باب البيت. ويبدو أنّ الدائرة يجب أن تضمّ شخصًا واحدًا فقط، فالحلم فرديّ وليس جماعيًا. نام إنكيدو عند مدخل بيت الأحلام، يحرس كعادته.
وصل إلينا الحلم الأخير مُشوَّهًا وناقصًا للأسف، ولكن يمكن لنا فهمه من تكملته في حديث إنكيدو وگلگامش. لن يكفي الالتزام بالنّسخة القياسيّة لفهم الحلم، لذا استعان الباحثون بشذرات من لوح لنسخة أقدم، إضافةً إلى النسخة الحثيّة من الملحمة. الحلم ليس منامًا هنا بقدر ما هو رؤيا أو نبوءة. هل الأمر خاص بإنكيدو؟ لا نجد استدعاءً للحلم هنا كما في حالة گلگامش، بل جاءت الرؤيا بلا تحريضات. يبدو أنّ مُؤوِّلي الأحلام يتمتّعون بهِبةٍ خاصة تُمكّنهم من الكشف عن المستقبل عبر الرؤى. اجتمع الآلهة آنو وإنليل وأيا وشمش لتقرير مصير البطلين بعد قتلهما لثور السّماء، وقتلهما لخمبابا (إنكيدو، كما رأينا لم يشارك في قتل خمبابا؛ ولكنّ النص الذي لدينا لن يتطابق بالضّرورة مع النسخة القياسيّة، لأنّه مأخوذ من نصين آخرين اختلفت فيهما التّفاصيل على الأغلب). المهم أنّ آنو قرّر قتل أحدهما تكفيرًا عن الجريمتين، ولكنّ تركيزه كان على گلگامش «الذي شقّ جبال الأرْز». يرفض إنليل ويفضّل قتل إنكيدو، حتّى بعد اعتراض شمش الذي يصف إنكيدو بـ «البريء». وبذا يمضي القرار، ويتحدّد مصير إنكيدو. رؤيا إنكيدو تتحقّق كليًا. ومرةً أخرى نحن أمام لعبةٍ سرديّة مدهشة يتكسّر فيها الزمن ويتخلخل. هل حدثت الرؤيا في الماضي أم ستحدث في المستقبل؟
ليس هذا مهمًا ربّما. فالمهم هنا نوع الحلم. انقسمت أحلام الملحمة الثّمانية إلى قسمين: رؤى ومنامات. البشر وحدهم من يرون الأحلام، ولكنّ الآلهة حاضرة على نحو غير مباشر. ففي المنامات لا بدّ من استدعاء إله الأحلام، كما في منامات گلگامش الخمسة قبل قتال خمبابا؛ وفي الرؤى لا بدّ من حضور إله: حضرت ننسون في حلمَيْ گلگامش الأوَّلَيْن، وربما هي من «سرَّبت» الحلمين إلى مخيَّلته؛ أما الحلم الأخير فكانت الآلهة حاضرة فيه بقوّة، ولكن يبقى السؤال عمّن «سرَّب» الرؤيا لإنكيدو. هل هو شمش؟ هذا الخيار هو الأكثر ترجيحًا بما أنّه الإله الوحيد الذي دافع عن إنكيدو، في مواجهة مجلس الآلهة الذي يُفضّل الملك ابن الآلهة. وهناك الحاضر الدائم في الرؤى والمنامات كلّها: إنكيدو. بل إنّ حضور الأحلام وحضور إنكيدو متزامنان في «ملحمة گلگامش». وُلدت الأحلام مع ولادة إنكيدو الجديدة بعد أن وجد انتماءه عند شمخة وفيها، ورحلت الأحلام مع رحيل إنكيدو. وكأنّ الملحمة تومئ إلى أنّ الأحلام تموت بموت إنكيدو ويبقى الواقع فقط، كما كان قبل ولادة إنكيدو. يتخلخل الزمن والواقع حين يكون إنكيدو، ويعودان إلى «انضباطهما» الإلهيّ عند موت إنكيدو. سيعود إنكيدو مرة أخرى في اللوح الثاني عشر من الملحمة. ولكنّ هذا اللوح ليس من الملحمة الأصليّة، بل أُضيف إليها لاحقًا باتّفاق الباحثين. وكذلك فإنّ إنكيدو الملحمة ليس هو إنكيدو اللوح الثاني عشر العائد من العالم السفليّ بعد استحضار گلگامش له. وكأنّما تحوَّل إنكيدو إلى حلم بدوره، يحضر ليغيب.