في عِزّ حقبة الأمل والتقدم، أواخر خمسينيات/أوائل ستينيات القرن الفائت، نشأ جيلٌ عنيد مِن الشباب ينظر الى الغَرب بواقعية جدلية. يستنبط من هذا الغرب المعرفة العلمية أساساً ويُفكر منطقياً وجديّاً كيف يستخدمها لصالح تقدم ونهضة البلد. ولم تُولد هذه النظرة التفاؤلية من فراغ. فالعراق أنجزَّ ثورة مهمة في ١٩٥٨ كانت تسعى لإخراجه من فَلك التبعية للغرب الرأسمالي والسعي لتأسيس نهضة اقتصادية محلية مع إدراك واقعي بمقدرات البلد، بشرياً ومادياً. فعلى الرغم من أهمية النفط كمصدر طاقة، على سبيل المثال، باشرت الحكومة العراقية آنذاك بالتخطيط لبناء صناعات پتروكيمياوية وكيمياوية تهدف بدورها لإرساء الأساس لتأسيس صناعات أدوية ومواد إنشاء وصناعات خفيفة.
تأسيس الجمهورية العراقية نَقلَ العراق مِن سياسة المحسوبية والتبعية البريطانية خلال الحكم الملكي إلى خلق منهجية اقتصادية على أُسس مُرتبطة موضوعياً بمقدرات البلد البشرية والمادية. وقد انعكست هذه المنهجية الإقتصادية - التي أسسها كادرٌ من الاقتصاديين والمهنيين العراقيين التقدميين، وعلى رأسهم الاقتصادي الراحل إبراهيم كبّة الذي شغلَ منصب وزير الاقتصاد بُعيد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ - في التخطيط و التنسيق بين الوزارات المختلفة الذي أستمر طيلة ستينيات القرن العشرين حتى انقلاب حزب البعث في ١٩٦٨ (والذي باشر مِن بعد في تبعيث دوائر الثقافة والتربية والبحث العلمي وكل الوزارات). وإن عنصراً من أهم عناصر التنسيق سعياً لإنجاز الأهداف المذكورة هو تنسيق بعثات الدراسات العليا، أولاً على أساس التفوق الأكاديمي بحتاً، وثانياً لتغطية مشاريع البحث العلمي والتكنولوجي ضمن سياسة التنسيق المذكورة بين الوزارات والمؤسسات الهادفة لتحقيق تقدم وبناء البلد.
تتلَمذَّ الكثير من هؤلاء الطلبة في آخر إنجازات التطور المعرفي وعادوا الى العراق محَمّلين بكمٍّ قدير من العلوم والثقافة، وجلَّهم كان ذا نهجٍ يساري تقدمي. واحدٌ من أهمّ الشخصيات العراقية التي ساهمت في إغناء التطور العلمي في العراق والعالم العربي إجمالاً وفي توفير الأُسس التي مكَّنَت ناطقي اللغة العربية مِن مواكبة الثورة المعلوماتية في العالم، هو العالِم الراحل غسّان كبّة. أرسى غسّان كبّة، مع أخيه باسل كبّة، الأُسس الرياضية لتعريب الحاسوب والأجهزة الإلكترونية في الفترة ١٩٧٢-١٩٧٦ أثناء عملهما في دائرة الإتصالات العراقية وتدريسه في كلية العلوم والتكنولوجيا في بغداد. أكملَ غسّان كبّه دراساته الجامعية في بريطانيا وحاز على الدكتوراه في رياضيات الإتصالات الإلكترونية من جامعة لندن - إمپيريال كولدج (Imperial College, University of London) المرموقة. وأكملَّ أبحاثه عن تطوير المعادلات الرياضية والهندسية لإرساء الأساس في بلورة الكيفية التي تسمح بتعريب التخاطب الإلكتروني، ومن ضمنها أجهزة الحاسوب. وحصلَ إنجازه المعرفي والعلمي على براءة اختراع في العراق (باسمه وأخيه ولكن المُلكية ظلت، كما هو مُتعارَف عليه لموظفي القطاع العام، لدائرة الإتصالات، الجمهورية العراقية في عام ١٩٧٤). و كطبيعة الحكومات العربية، أهملت حكومة البعث العراقي هذا الاختراع العظيم، بل وبادرت بسلسلة التضييق ضد العبقري غسان كبّة. إذ أصدر المجمّع العلمي العراقي هجوماً ضد الاختراع على أساس أنه "سيشوّه اللغة العربية ويفقدها ماهيتها"! وأخذت التضييقات بعدها منحى سياسياً، واضطر الراحل غسّان كبة أن يترك العراق مع زوجته واطفاله الثلاثة اوائل عام ١٩٨١، بعد أن اشتدّت حملة المضايقات والتعنيف ضد اليساريين والشيوعيين في العراق والتي بدأت منذ ١٩٧٨.
حاولَ العالِم الراحل غسّان كبّة أن يوَّظف معرفته وخبرته العلمية النادرة في العمل في الدول العربية. وكان همهُ الشاغل هو نقل المجتمعات العربية إلى حقبة التقدم المعلوماتي ومحاولة فتح أبواب المعرفة على مصراعيها للجماهير العربية. كان غسّان كبّة إشتراكياً-ماركسياً ومؤمناً إيماناً عميقاً بالسعي، عن طريق التطور العلمي والمعرفي، لخلق مجتمعات (عربية وغير عربية) أكثر مساواةً و عدالةً للجميع. وربما كان غسّان كبّة، الذي عايشته مِن أواخر ثمانينيات القرن الماضي حتى وفاته في مونتريال، كندا عام ٢٠٠٠، مِن القلّة اليساريّة مِن جيلهِ التي كانت تؤمن حقاً بفكرة المساواة بين الرجل والمرأة واحترام الفروقات الجنسية و المثلية والقناعة بأن تطور المجتمعات العربية لن يحصل دون الاهتمام بتدريس العلوم الحديثة والإنسانيات معاً في كل المراحل الدراسية ابتداءً من الإبتدائية. كان غسّان ضليعاً باللغة العربية، مُحبّاً للأدب العربي وقارئاً نقدياً للتاريخ العربي-الإسلامي والأورپي، وكذلك فناناً تشكيلياً. لم يخفَ إطلاقاً عن غسان كبّة أن الدكتاتوريات العربية، وبضمنها العراقية، استمرت بدعم الرأسمال والعسكريتارية الغَربية، أمريكياً وأورپياً. لهذا كانت حياته العلمية والثقافية والسياسية والبيتية متسقة، وعاش حياته زاهداً بين الكتب وأجهزة الحاسوب والصحبة الجميلة.
أسسَّ الراحل غسان كبّة، مع صديق عراقي آخر، في لندن شركة تعاونية هي شركة ديوان، لتطوير وإنجاز مشروعه لتعريب الحاسوب ومحاولة نقله لكل بيت عربي. ولم يمنعه إطلاقاً مَرض وراثي (thalassemia) اتعبَ جسده النحيف من تكريس جهده وحياته لهذا المشروع. نجحَ غسان كبّة بعبقريته وجهوده وجهود شباب عراقي ألهمهم حسهم الإشتراكي العنيد في أن يتبرعوا بمعرفتهم وجهدهم في نقل الأسس الرياضية التي أرساها غسان كبّة الى حيّز التطبيق، بل وتطويرها. ويعتمد كل جهاز حاسوب أو أداة إلكترونية تستخدم اللغة العربية للتخاطب على اختراع الراحل غسان كبّة، بضمنها هذه الصفحات وكل الصفحات الورقية والإلكترونية العربية. واندثرت البرامج الُمنافسة، كصخر، المموَّل إماراتياً، وكثير من البرامج الأخرى التي حاولت شركات أجنبية تطويرها كشركة ICL البريطانية وIBM الامريكية في ثمانينيات القرن الفائت.
تكمن عبقرية مشروع التعريب الذي ابتدأه الراحل غسان كبّه في استناده على أُسس رياضية في هندسة الحروف، وبالتالي إلغاء الوسيط في تخاطب الأجهزة الإلكترونية – بمعنى، كيف يُمْكِنُ برمجة أي حرف عربي (أو أي لغة أخرى) على أساس كونه رسماً هندسياً باستخدام ما يُسمى رياضياً بالمفاتيح الهندسية (geometric splines). ولهذا المنحى فائدة أساسية في إمكانية استخدام الرسم الواقعي للحرف العربي وإدراج فنون الخط العربي. ومن ناحية تكنولوجية، له فائدة في كون الأسلوب ناجعاً لكل أجهزة الحاسوب باختلاف أنواعها. وفعلاً، استخدمت البرامج والمنهجية الرياضية التي طوَّرها الراحل غسان كبّة في نقل الحاسوب لكثير من اللغات المشابهة كالفارسية وغيرها. ومن نافل الذكر، أن الراحل غسان كبّة طوَّر مجموعة كبيرة من الخطوط والحروف العربية بالتعاون مع الخطاط والشاعر العراقي الراحل محمد سعيد الصگار. ونجحا في نقل جمالية وإبداعات الخطوط العربية إلكترونياً بعد أن كانت مُقتصرة على العمل اليدوي البحت.
يجهل الكثيرون مِن العراقيين والعرب الشخص الذي يعود له الفضل في تعريب جهاز الحاسوب والإلكترونيات عموماً التي أصبحت واحدة من البديهيات. ساهمَ اختراع غسان كبّة وجهود شباب عراقي طموح في نجاح شركة ديوان في فترة وجيزة نسبياً. إذ أصبحت كل المطبوعات العربية من صُحف ومجلات ودور نشر تستخدم المنتوج العلمي-الفنّي المتميز، ونَما رأسمال الشركة كثيراً ونَمَت معه الأطماع. لم يكن غسان كبّة رجلَ أعمالٍ، بل عالِماً واشتراكياً. لذا، وللأسف، لم يهتم إطلاقاً بتثبيت حيثيات المساهمين، وحقوقهم وحقوقه هو بالذات، في عقود موَّثقة. وبعد ازدهار شركة ديوان أواخر ثمانينيات/أوائل تسعينيات القرن الفائت، استولت عليها ثلَّة مِن الإداريين وأُقصيَ غسان كبّة، مؤسسها وممولها الأساسي وصاحب الاختراع المسؤول عن نجاحها، ومجموعة الشباب اليساري العراقي الذين تبرعوا بجهودهم وعلمهم. وانتقلَ الصراع الى أخبية المحاكم البريطانية لسنوات طويلة. كان لهذا العمل المشين، دون شك، تأثير حاد على الوضع الصحي والنفسي لكل مَن ساهمَ في إغناء هذا المشروع المهم.
نجحَ مشروع غسان كبّة العلمي. واختراعه في تعريب الحاسوب والإلكترونيات يُستَخدم الآن في كل مكان، صغيراً كان أم كبيراً. ولكن فشلَ حُلم غسان كبّة بأن تكون تعاونية ديوان نواة لبناء هيكلية، وإن كانت صغيرة ومحدودة، لمشروع اشتراكي ذي طموحات تتناسب مع خيال وجهود وذكاء المساهمين فيه. كان غسان كبّة إنساناً، عبقرياً، مُلهماً، موسوعياً. لكن المشاريع لا تنجح دون مؤسسات. وطالما ظلت الأرباح تستحوذ على جهود العاملين فإن البنيّة الإقتصادية هي المحرِّك الأساس لسيرورة المؤسسات والمجتمع.
آخر الكلام...
يُستعرض التاريخ كثيراً بطريقة انتقائية تَهدف غَرضاً محدداً. وتتباين الأهداف بين محاولة استدراج نوستالجيا فجّة، أحياناً، ومحاولة إقناع الآخر، أحياناً أخرى، بعدم جدوى قراءة التاريخ إطلاقاً. إذ تصاعدَت، لا سيّما في السنوات الأخيرة، دعوات الانتماء لحضارات بلاد ما بين النهرين القديمة وترديد مقولات جوفاء تعكس الظرف الطائفي السائد والتبعية للآخر (غير العربي-الإسلامي مِن منطلق انتماء حضاري) أياً كان هذا الآخر. فهناك مِن يردّد، دون إلمامٍ عميق أو إدراكٍ، الانتماء السومري أو البابلي أو الآشوري أو غيرها لتمرير مسلسل التمييز مِن منطلق الاختلاف (والفِرقة) السائد. وشتَّان ما بين عراق ١٩٥٩ وبين عراق ما بعد ٢٠٠٣. وربما يعي الكثير الفروقات، وأهمها ثلاثة: أولوية المعرفة لنهضة البلَد وازدهاره، العمل الدؤوب، وإحساس الطبقات الوسطى والفقيرة أن العراق وطنها وليسَ مَرتَعاً للمتنفذين وأذيالهم فحسب. وبعدَ نصف قرن انقلبت الآية وأضحى العراق، بعد الإحتلال الأمريكي وسنين الدكتاتورية والحصار الإقتصادي والحروب المُدّمرة، بؤرة للفساد والتخريب والمحسوبية. والمشكلة، أساساً ولكل مًن يروم الموضوعية، لا تَكْمن في ماهية البشَر، بل متأصلة جوهرياً بجدلية السياسات الاقتصادية المحلية وحلقات الإرتباط بشبكة اقتصاد المركز الرأسمالي وتبعاتها السياسية والأمنية/العسكرية.
* كل الصور من مجموعة لسكينة كبّة وصلاح كبّة، مع جزيل الشكر و التقدير للسماح باستخدامهم في هذا المقال.
[غسان كبّة في صِباه (لندن، ١٩٥٩ او ١٩٦٠).]
[نسخة من براءة الاختراع الاصلية، الطابعة ذات المفاتيح الموّحدة، لمخترعيها غسان كبّة وأخيه باسل كبّة. مُنِح الاختراع عام ١٩٧٤.]
[غسان كبّة (في الوسط) في اعتصام مُناهِض للامبريالية ومساندة الصمود الفيتنامي ضد الغزو الأمريكي و صمود الشعب الفلسطيني ضد الاستيطان الصهيوني (لندن، ١٩٦٨).]
[الراحل غسان كبّة مع رفيقة دربه المهندسة الرائدة الراحلة هناء طالب (لندن، ١٩٨٧).]