عزيزي\تي القارئ\ة، وانت تقرأ\ين هذه الكلمات التي أكتبها بينما يفور غضب الشارع العراقي وتشتد احتجاجات الفقراء في بغداد ومدن الجنوب، تأكد، في هذه اللحظة من تاريخ العراق المتخم بالموت والنار والرصاص، تأكد بأن أماً عراقية أخرى تعبت من النحيب وباتت تئن بصمت عند قبر ابنها الذي سقط شهيدا في شوارع العاصمة، أو في مدن الجنوب المنتفضة. وراح ضحية رصاصات السلطات القمعية، فدائيو الطبقة الحاكمة المترفة، ليخلف أمّا ثكلى أخرى، تستدين أجور الدفن والنقل إلى بحر الموتى في مقبرة السلام في النجف. ليضاف اسمه إلى سجل غصّ بأسماء قتلانا بعد حفنة من الحروب وعقد من العقوبات الاقتصادية وسنين من قمع حكومات ما بعد الاحتلال الذي قادته جيوش المجرمين توني بلير وجورج بوش في عام 2003.
في زوايا المدينة التي لا تُرى من شبابيك الغرف الفارهة في فندق الرشيد، حيث ينزل الكثير من الصحفيين الأجانب المتقاعسين، وعمال الإغاثة الاغنياء وأصحاب الشركات الأجنبية وسراق المال العام من المسؤولين العراقيين وأقربائهم، تعيش طبقات الشعب المسحوقة والمنسية. أناس لا تشملهم تقاريرعمال الإغاثة الذين يصطافون عند بركة السباحة في الفندق سيء الصيت ليحتسوا قناني البيرة أصلية المنشأ وليرفهوا عن أنفسهم بعد "الإرهاق النفسي" الذي يصاحب جولاتهم الميدانة في المدن العراقية، قبل الذهاب في عطلات للترويح عن النفس في سانتوريني او بيروت.
هناك، في درابين الشورجة والسنك وشارعي النهر والرشيد، يدأب حملة الشهادات الجامعية، أسوة بالأميين وأصحاب السوابق المعتزلين وطيف من الفقراء البغداديين والمهاجرين من أطراف مدن الجنوب، على سحب أو دفع عربات خشبية لنقل بضائع لأصحاب محال تجارية بين بيوت الشناشيل الخربة، في عمل يؤمن لهم أجراً يوميا يكفل لهم كرامتهم، قوتهم اليومي وحفنة من الأمراض المزمنة مع ضمان حتفهم في صورة موت مبكر حزين.
بعد حملات على مواقع التواصل الاجتماعي قادها ناشطون مدنيون للتظاهر ضد الظلم المستمر الذي يقاسيه الشعب منذ أكثر من 16 عاما، خرجت في بغداد ومدن الجنوب صباح الثلاثاء، الأول من تشرين الحالي، احتجاجات عفوية مناهضة للنسخة الجديدة من حكومة الفساد والنفاق. عبر فيها المتظاهرون عن رفضهم لواقع الاستمرار بالعيش في فقر مدقع بلا خدمات أساسية وفرص عمل في بلد يصدر ملايين البراميل من النفط الخام شهرياً. ويتباهى قادة الكتل السياسية والإعلام الرسمي - المتواطئ - فيه بتوقيع عقود شراكة واستثمار مع دول وشركات كبرى غير آبهين بديون العراق المتراكمة ولا بالشعب الذي فشلوا كمن سبقوهم في توفير أبسط الخدمات ومقومات العيش له.
وبينما تجمهر الآلاف من النساء والشيوخ والشباب والأطفال تحت نصب الحرية للخالد جواد سليم، وعند بداية جسر الجمهورية تحت بناية المطعم التركي - التي لازال الدمار فيها يذكر بوحشية القصف الاميركي الذي ولد هذا النظام الديكتاتوري الفاسد- ، تجمهروا يرفرفون بالعلم العراقي ويهتفون لعراق واحد، احتشدت قبالتهم جيوش السلطات من قوات مكافحة الشغب التي أهالت عليهم وابلاً من قنابل الغاز المسيل للدموع وأمطرتهم بالرصاص الحي، الذي حصد أرواح عشرات الشباب العزل في بغداد (والناصرية ومدن عراقية أخرى حتى الآن). تصدح حناجرهم بهتافات تندد بالفساد ونفوذ الميليشيات المسلحة، هاتفين: "إيران برة، برة، بغداد تبقى حرة!" و "الشعب يريد إسقاط النظام!".
لم تكتف السلطات بهذا القدر من القمع، فحرصت على قطع خدمة الإنترنت وفرض حضر شامل للتجوال في العاصمة والمدن المنتفضة الأخرى، ثم عمدت، - وفق ما أظهرته مقاطع الفيديو التي سجلها محتجون وغزت شاشات القنوات الفضائية – إلى قطع التيار الكهربائي في مناطق العاصمة التي يتجمع عندها المحتجون الغاضبون، لتتم ملاحقتهم وجلدهم ليلاً في الأزقة الضيقة والساحات العامة التي تحولت - بفضل القوات المدججة بالسلاح وخطاب رئيس الوزراء عبد المهدي الذي اعتبره المحتجون مستفزاً - إلى ساحة حرب تسال عليها دماء ضحايا جددب معزل عن العالم في ظل حجب تام للانترنت بغية الحد من تسريب الانتهاكات إلى مواقع التواصل وشبكات الإعلام العالمية.
في بغداد، يتعرض المدنيون العزل للقنص في الشوارع من قبل "مجهولين"، ويسقطون ضحايا للعنف المفرط الذي تمارسه القوات الأمنية ومرتزقة طهران الذين يقفون سدا منيعا أمام محاولات المساس بهيمنتها على المشهد السياسي والاقتصادي في أرض العراق، ويسحقون تحت بساطيلهم أحلام الفقراء البسيطة في تحقيق واقع أفضل لا يضطر فيه الشاب العراقي لبيع المحارم أو قناني المياه عند التقاطعات ونقاط التفتيش بعد إكمال الدراسة، ولا يدفع الموظف ذو الراتب المتدني مبالغ مرتفعة لتأمين الطاقة الكهربائية من أصحاب المولدات الخاصة أو لشراء قناني مياه الشرب في أرض الفراتين.
تذكر أحداث انتفاضة الفقراء هذه بما حدث في بغداد ومدن أخرى إبان حكم المخلوع نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق الذي تميزت سلوكيات السلطات الأمنية في سني حكمه بالرعونة والعنف المفرط الذي أدى لقتل المدنيين في العاصمة ومدن عراقية أخرى وانتهاك لحقوق الصحفيين. كيف لا وهو الذي أجج جمر الطائفية واختفت في فترتي حكمه مليارات الشعب وفتح الإخفاق الإداري الكارثي الأبواب على مصاريعها أمام لصوص ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ليعيثوا في نينوى وثلث مساحة العراق قتلاً وسبياً وفساداً على هواهم، بينما انهمك هو يسبر غور أنفه بسبابته!
وبعكس الاعتقاد السائد لدى الإعلام العالمي بأن الجماهير في العراق تتحرك وفق إشارت رجال الدين والسياسة، أثبتت الانتفاضة أن الشباب العراقي لاينتظر أمراً ولاخطاباً من معمم ما كي يفتح عيونه ويثور على مسببات الوضع المزري المحيط به وليعبر عن رفض الصعوبات الاقتصادية التي تخنق ملايين البشر. فتصدر السيد مقتدى الصدر لمشهد المظاهرات العارمة الأخيرة التي اجتاحت العراق في السنوات القليلة الماضية، لم يأت إلا بعد قرصنة حركة الاحتجاجات الشعبية التي جذبت الملايين من كافة شرائح المجتمع العراقي ووحدتهم في جبهة مدنية وقفت رافضة للنظام السياسي الفاشل ونفوذ رجال الدين بسنتهم وشيعتهم في مؤسسات الدولة.