- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
هذا الكتاب هو إحدى ثمرات أطروحة الدّكتوراه (2004-2011)، التي خاضت في قضيّة الإحياء الاجتماعي والسياسي لجسد الميت/ة في سياق الطب الشرعي في فلسطين. وهو أيضا ثمرة بحث ما بعد الدّكتوراه الذي مكّنني من تحديث المعلومات، وتوسيع المعرفة والبحث في قضايا جديدة لها علاقة بالموضوع، والذي مُوّل من قبل المجلس العربي للعلوم الاجتماعية-بيروت (2015-2016). أما فكرة البحث والتعمّق في الموت والجسد في سياق الطب الشّرعي فقد نتج عن عدّة أحداث مررت بها خلال دراستي للقب الأوّل والثّاني وتجربة حياة شخصيّة أيضا. فخلال دراستي للقب الأول في مجال العلاج الوظيفي، تدرّبت في مستشفى للطب النّفسي في قسم للحالات الحرجة من انفصام الشخصيّة، الذّهان، الهوس الاكتئابي وغيرها. حينها أصابتني حالة من الهلع والولع معا. الهلع مما رأيت بالمستوى الإنساني، والولع لفهم ما رأيت بالمستوى الوجودي. تكررّت أسئلة معاني الحياة والموت بشكل يومي ورافقتني في بحث اللقب الثاني الذي خاض في قضية جلد الذات التي يعتبر أبسطها قضم الأظافر ونتش الشعر وأوجها الانتحار. وتعزى هذه الممارسة إلى عدّة أسباب أبرزها في العلوم السلوكية أنها إحدى تعابير غريزة الموت حسب فرويد. وكوني لا أحبذ ولا أميل ولا امارس اختزال أي ممارسة إنسانيّة لنظرية واحدة او اثنتين او أكثر، قرّرت تحويل تعمقي المعرفي من المنظومة الطبية الصحية إلى المنظومة الاجتماعية-الإنسانيّة. ولهذا بدأت دراسة اللقب الثالث في مجال العلوم الإنسانيّة مما أعادني إلى الأسئلة الوجودية الخاصّة بالجسد والحياة والموت. أما عن اختيار فهم حياة جسد الميت/ة في سياق الطب الشرعي، فقد نتج عن انشغالي الفكري المتواصل في قضايا الجسد والنفس وفي قضايا الحياة والموت، وكون حقل الطبّ الشّرعي يجمعهما، فكان جليّا بأنّه الحقل الأمثل لتحقيق شغفين معًا. وحين سافرت في المرّة الأولى إلى حقل البحث، وهو معهد الطب العدلي الفلسطيني والذي يقع داخل حرم جامعة القدس في مدينة أبو ديس، لم أكن متأكّدة من أنّني سأستمرّ بإجراء البحث هناك، ولكن بعد مكوثي فيه لعدّة ساعات، وقعت في حب معرفة وفهم هذا السياق، وتيقّنت من أنّه المكان الأمثل لتحقيق شغفي المعرفي. فيما بعد، أصبحت الزيارات رسميّة ومتتالية ومكثّفة، وتواصلت على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة (2004-2007). أثناء مكوثي في المعهد تعرّفت بتفاصيل حيوات أجساد الأموات والأحياء الذين حضروا/أُحضِروا إلى المعهد. وهكذا تيقّنت بعمق من القصص الاجتماعيّة- السياسيّة الموجودة في المجتمع الفلسطينيّ خاصّة في الضفة الغربيّة. ولم ينحصر ذلك فقط في القصص التي شهدتُ عليها بنفسي في المعهد، بل أيضا في القصص التي حكاها لي سائق الإسعاف والطاقم الطبي الجنائي العامل هناك.
اما السبب الشخصي الذي قادني للخوض في ممارسات الموت فهو الولادة والأمومة. أذكر ان صديقة سألتني بعد ولادة ابنتي البكر: "سهاد، ما الذي تغيّر بك بعد الولادة؟" قلت: "لا شيء سوا انّني أصبحت أخاف الموت". لذلك وفي إهدائي الكتاب لبناتي كتبت: "وجودكن في هذا العالم يجعلني أخاف الموت، فأطيل تأمّلي فيه لأرديه".
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
يتقصّى هذا الكتاب سيرورة وجود جسد الميت/ة الفلسطيني/ة حين يصل إلى مؤسسة طبية عدلية تتبع لمؤسسات السلطة الوطنية وتعتبر من أهم معالم دولة السيادة القومية الحديثة ولكن في سياق تغيب فيه دولة القومية السيادية، ويحضر به الاحتلال والاستعمار. أي انّه سياق هجين فيه بعض من سلطة السلطة والكثير من سلطة الاحتلال. لذلك، يصف الكتاب كيف تتقاطع القوى الاجتماعية والقوى السياسية وتُحفر على جسد الميت/ة. يحلل الكتاب كيف يصبح جسد الفلسطيني/ة الميت/ة حلبة لصياغة وإعادة صياغة علاقات القوى، علاقات السيادة والمقاومة بين المحتلّين؛ المحتل/ة الفاعل/ة (الإسرائيلي/ة) والمحتل/ة المفعول به/ا (الفلسطيني/ة). ومن هذا المنطلق يعزو الكتاب وكالة سياسية واجتماعية للجسد الذي لا يمكن اعتباره جثة خام مفعولا بها فقط، بل جسدا فاعلا، حيا حاضرا بالفعل وليس بالرّوح، وله دور سياسي واجتماعي على حد سواء. يدّعي الكتاب بأن قراءة تاريخ وحاضر أي مجتمع ممكنة من خلال تتبع مسارات حياة الأجساد فيها، حية وميتة. وما يميز سياق الطب الشرعي هو ان قراءة تاريخ وحاضر ممارسات الطب الشرعي في أي سياق في العالم، تمكن الباحث/ة من قراءة تاريخ المجتمع الاجتماعي والسياسي أيضا. هذا الكتاب يحاول تفكيك مركّبات واقع جسد الفلسطيني/ة السياسي والاجتماعي ويحاول قراءة واقع المجتمع الفلسطينيّ من خلال قراءة واقع جسد الميت/ة الفلسطينيّ/ة. ويحوي سبعة فصول وخاتمة. وكلّ فصل من فصوله يبقي الضّوء على جانبٍ من كينونة الجسد: قبل، أثناء وبعد تشريحه.
فالفصل الأول، "كان ولم يكن: تاريخ الطبّ الشرعيّ في فلسطين وحاضره"، يرصد تأثير التغيّرات السياسية والاجتماعيّة على ممارسات الطبّ الشرعيّ في فلسطين. ويخلص هذا الفصل للقول إنّ كلّ قوى استعماريّة حكمت فلسطين والفلسطينيّات/ الفلسطينيّين استخدمت جسد الميت/ة من خلال منظومة وممارسات الطبّ الشّرعيّ بهدف فرض سيطرتها وسلطتها على حيوات الأحياء والأموات على حدّ سواء. أمّا الفصل الثاني، "عن الأبدان وعن الجثمان: تأمّلات في كتابة الجسد، فيستعرض الأبحاث والكتابات المنجزة عن الجسد في العلوم الاجتماعيّة بشكل عام، أكان في الحقل المعرفي الغربي أم في العالم العربيّ. ويوثّق هذا الفصل تأطير الجسد في الأبحاث التي أجريت في العالم العربيّ على وجه الخصوص. إلى جانب ذلك، يستعرض هذا الفصل الخلفيّة والأطر النظريّة المؤطّرة للكتاب، بالإضافة إلى الكتابات والأبحاث حول جسد الفلسطينيّ/ة الحيّ/ة وجسد الفلسطينيّ/ة الميت/ة. ويتطرقّ هذا الفصل، كذلك، إلى أهميّة البحث والكتابة المتعلقيْن بالبدن/الجسم الفلسطينيّ وجسد الميت/ة الفلسطينيّ/ة أيضا. يدأب الفصل الثالث للكتاب وعنوانه "كينونة كائن غير حيّ: السياق الاجتماعيّ- السياسيّ لجسد الميت/ة"، على توثيق وتحليل كيف أنّ تعقيدات السياق الاجتماعيّ- السياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ تُشيّد كينونة الميت/ة الفلسطينيّ/ة المجلوب/ة إلى الجهاز الطبيّ القضائيّ. ويتطرّق الفصل إلى هجانة وبيْنيّة حال المجتمع الفلسطينيّ، وكيفيّة تقاطعها مع هجانة وبينيّة حال الميت/ة الفلسطينيّ/ة. ويتطرّق هذا الفصل إلى مركّبات المجتمع المدني التي تتشابك فيما بينها لتشكّل جزءًا من واقع منظومة الطّب الشّرعي. وتشمل هذه المركّبات العائلات ومؤسّسات حقوق الإنسان/ة والجهاز القضائيّ الموازي المعروف أيضا بالقضاء العشائريّ.
تحت عنوان "الخطاب الهجين: كثير من العلم وبعض من الدّين"، يستعرض هذا الفصل كلّ الممارسات الدينيّة على جسد الميتة/ الميت والممارسات الدينيّة التي يقيمها أعضاء الطاقم نفسه داخل المعهد. ويتتبّع هذا الفصل أصول هذه الممارسات في النص الدينيّ، وخصوصًا في القرآن الكريم والحديث النبويّ الشّريف، ويحلّل كيفيّة بناء العلاقة بين المؤسّسة الدّينيّة ومؤسّسات السّلطة الوطنيّة بغية فرض النّظام على المجتمع. بالإضافة، يستعرض هذا الفصل كلَّ الفتاوى المتعلّقة بجهاز الطب الشرعي الفلسطينيّ. أمّا الفصل الخامس، وعنوانه: "لِمَن هذا الجسد؟"، فإنّه يحاول الإجابة عن السؤال: كيف تشارك هوية الميت/ة في بلورة سيرورته/ا وهو/هي منقاد/ة إلى جهاز الطب الشرعي؟ ويتناول هذا الفصل استمراريّة وتواصل الهويّة الدينيّة والجندريّة والمكانة المجتمعيّة- السياسيّة للميت/ة، وغيرها، وصولًا إلى الاستنتاج بأنّ جسد الميت/ة الفلسطينيّ/ة، في إطار الطبّ الشرعي، هو غرض/ شيء وذات في الوقت نفسه، بحيث يمكننا القول إنّه غرضذات في سياق الطبّ الشرعي.
يتتبع الفصل السادس وعنوانه: "بنية موت الفلسطيني/ة البيروقراطيّة" أثر المنطق البيروقراطيّ الخاصّ بجهاز الطب الشرعي الفلسطينيّ، في ظلّ غياب الدولة بمفهومها الحديث، بهدف توثيق الإجراءات البيروقراطيّة التي تجري في كلّ محطات مرور جسد الميت/ة الفلسطينيّ/ة: وهي سيرورة تُدار من أصحاب المناصب المختلفة في ضمن هرميّة المبنى البيروقراطيّ القضائيّ والطبيّ والأكاديميّ أيضا. يأتي الفصل السّابع تحت عنوان "فضاء-زمن الجسد والبدن"، متناولًا مسائل فضاء-زمن جسد الحي/ة والميت/ة الفلسطينيّ/ة، ومن ضمن ذلك التحوّلات التاريخيّة للفضاء-زمن الفلسطينيّ، وكيفية قيام هذه التحوّلات ببناء وتشكيل فضاء-زمن الجسد اليوم. ويصف الفصل الفضاء-زمن السياسيّ والقوميّ والطبيّ-القانونيّ والمجتمعيّ وغيرها. ويدّعي هذا الفصل أنّ الزّمن والفضاء في السياق الفلسطينيّ "يلوّث" ويخترق أحدهما الآخر، وكلاهما يخترقان كينونة جسد الميت/ة بقدر ما هو يخترقهما. فالفضاء-زمن الفلسطيني يكتب الجسد بقدر ما يكتبه الأخير. ولذلك يجري التطرّق للفضاء وللزّمن على طول الكتاب باعتبارهما وحدة واحدة لا يمكن الفصل بينهما. أما المكان فيحتل حيّزا من فضاء-زمن موت الفلسطيني/ة.
تناقش خاتمة الكتاب كيفيّة قيام جسد الميت/ة الفلسطينيّ/ة بطرح تحويرات للنماذج والنظريّات الاجتماعية الغربيّة، وبحمله تحدّي خلق بنية تحتيّة نظريّة مختلفة عن السّائد بسبب سياق يختلف عن السّائد أيضا. والادّعاء المركزيّ هنا يقول: يمكن قراءة المجتمع الفلسطينيّ الحيّ بواسطة قراءة حياة الميت/ة الفلسطينيّ/ة في سياق منظومة الطب الشرعيّ.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
على الرّغم من تأطيري لجسد الميت/ة على أنه مادّة لا روح فيه ولا نفس فيه تتألّم، كوسيلة احمي بها نفسي أثناء مكوثي وإجرائي البحث، إلا أن قصّة كل جسد، أي قصة كل إنسان/ة سكن هذا الجسد، إنسان /ة وصل جسدا لميت/ة للمعهد، كان لها تأثيرها كبيرا علي بالمستوى الوجودي والإنساني. واجهت تلك التحدّيات بممارسة بعض الفنون كالرّسم وكتابة القصّة بصوت تلك/ هذا الإنسان/ة الميت/ة. لست فنانة ولست كاتبة قصصيّة، ولكن تلك المساحات والأدوات من التّعبير كانت الأكثر مساهمة في قدرتي على مواجهة لحظات مكثّفة من الحزن، الألم والتّفكير بالانسحاب.
من بين التحديات التي واجهتها أثناء إجراء البحث هي التعامل مع عدم الاستقرار السياسي الفلسطيني. فمثلا تغيير موقع حاجز، تحويل حاجز عسكري من متحرك إلى ثابت، فرض منع تجوّل، امتداد بناء جدار الفصل وغيرها من التحولات كان لها دور في تشكيل يومي الميداني من حيث الانتظار، العودة، المسائلة، والسفر عبر طرق التفافية توصلني من القدس إلى أبو ديس وللمعهد.
تحد آخر كان الفصل بين ما أرى وأسمع وأجرّب، وبين ما أنقل من عبئ عاطفي وذهنيّ، حين أعود إلى بيتي خاصة لابنتي. تعاملت مع هذا التحدي بأن عدت من الحقل دوما ساعة قبل انتهاء موعد حضانتها، جلست في مقهى عمومي وكتبت عن تجربتي بكل ما فيها خلال ذات اليوم. أي أنّه كان نوع من تمرين إخراج العبئ على الورق وتحميل الورق عبئ التجربة، بدلا من اجترار هذا العبء والعودة محمّلة به إلى حياتي الخاصّة.
يحوي كل حقل بحثي أشخاص بهويات وأيديولوجيات أحيانا تتفق مع أيديولوجيات الباحثة وأحيانا تختلف معها. تعاملت مع الاختلاف بليونة لا تتشنج ولا تهاب الاختلاف. قمت بتمرين التنقّل بين الهويات كوسيلة لفتح أبواب المعرفة أمامي. فمثلا، كنت علمانية مع العلماني/ة، ومحافظة ومتدينة مع المتدين/ة. كما قمت بدور النسوية مع النسوي/ة وذكوريّة/ مع الذّكوريّ/ة. لم تكن لعبة صعبة، بل ممتعة. فكل منّا تحمل/يحمل بداخله/ا القليل من نقيضه/ا وكانت تلك فرصة للتعرف على مدى إتقاني لما تبقّى فيّ من نقيضي. ليونة الباحث/ة هو مطلب أساسي وعدم التعامل مع الحقل كحقل للحكم الأخلاقي، بل حقل لتوسيع المعرفة مهم جدا برأيي.
إحدى المفاجآت التي لم اتوقعها، وبتقديري لم يتوقّعها أيضا العاملات/ون في المعهد، كانت مداهمة قوى المخابرات الفلسطينية للمعهد وتغيير هيكل إدارته ومنع دخول أي غريب/ة له/ا في تمّوز 2005. ولهذا تم إبعادي ومنع دخولي حتّى هدأت الأمور واستطعت استئذان الجامعة والنيابة بدخول ومباشرة عملي البحثي. كانت فترة إبعادي بمثابة فترة ضبابية تكثّف فيها الشعور بعدم الاستقرار وعدم التأكّد إذا لم أعرف خلالها مستقبل بحثي ولا مستقبلي الاكاديمي. لاحقا وبدعم من الطاقم الإداري للجامعة والنيابة العامة تمكّنت من الدخول مجددا للحقل. أوثق في الكتاب تغيّرات طرأت على مسار الجسد إثر تلك الحادثة.
من بين التحديات التي واجهتني خلال إجراء البحث وكتابة الأطروحة كانت وفاة والدتي التي أدّت لنوع من "الشّلل" الكتابي والتفكيري. لم أعد قادرة على مواجهة الموت والكتابة عنه. ابتعدت عن الكتابة لأشهر وما اعادني إليها كان نسج قصص جسد والدتي كميّتة في نص الأطروحة.
أما خلال كتابة هذا الكتاب فالتّحديات كانت عديدة، أوّلها مواجهة حقيقة أنّني اغلق قضيّة بحثية، لأتمكّن من البدء بقضيّة/قضايا جديدة. أي التحرّر من قضيّة للبدء بأخرى/أخريات. ثانيها هو تأنيث نص الكتاب كاملا، وأنا سعيدة بأنّني لم أكل ولم أمل ولم اتنازل عن إضافة، وأحيانا كثيرة الاستباق بتاء التأنيث ونون النّسوة. هذه مقولتي بان النص هو وسيلة لفعل وتغيير اجتماعي. وتأنيث اللغة هو فعل مؤثّر بكل تأكيد وبدون أي شك. تحدّي ممتع ثالث كان ملائمة النص كاملا للقارئ/ة العربي/ة. فبعض التفاصيل في حياة الفلسطيني/ة غير مرئية ومسموعة للإنسان/ة العربي/ة والعكس صحيح أيضا. فمثلا، لا أتوقّع بأن يدرك شخص ما في المغرب العربي او في الخليج العربي أين يقع حاجز قلنديا، او أين تقع مدينة أبو ديس ومعنى كونها منطقة B حسب تقسيمات اتفاقات أوسلو والكثير من التفاصيل الصغيرة والكبيرة غير ذلك. التحدي الإضافي هو الموازنة بين الكتابة وإيقاع الحياة اليومي وما يحويه من مهام العمل والأمومة والشّراكة والصّداقة والرّشاقة (الذهنية والصحيّة) وغير ذلك.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
لا زال حقل المعرفة الاجتماعي ينتقص أبحاثا ودراسات وإنتاجات معرفية في مجال الصحّة والطّب، وهذا صحيح فلسطينيا وعربيا أيضا. بتقديري، يفرض الواقع المعاش العربي أجندة بحثية تركّز على السياسة والمجتمع/الثقافة، ولكن تُهمّش تلك الأجندة التطرّق لتأثير العوامل السياسية والاجتماعية على سياقات الصحّة والطب. بكل تواضع أقول بان هذا الكتاب هو أول نص أنثروبولوجي عن الطب الشرعي في العالم العربي. وهو مساهمة متواضعة لما كتب عن تقاطعات السياسة والمجتمع مع العلم (الطب والقانون). باعتقادي سيكون هذا الكتاب عبارة عن دعوة مجدّدة، او لفتة سبقتها أخريات قليلة من قبل باحثات/ين أخر، للانتباه والالتفات لهوامش ومغيّبات البحث في العلوم الاجتماعية عامّة والعلوم الإنسانية خاصّة.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والبحثية؟
أعتبر هذا الكتاب وسيلة لنشر معرفة أومن بأهميّتها وأومن بأنّ لها مساهمة في حقل المعرفة الأنثروبولوجي، وهو وسيلة ساعدتني على التفكر واتخاذ قرار بالنّسبة لأي حقل جديد أود خوض تجربة البحث الإثنوغرافي فيه من بعده. أي انّه بمثابة تجسيد لشغف سابق وتمهيد لشَغَف جديد. مكّنني هذا الكتاب من متابعة ومواكبة الكتابات الأخيرة عن الجسد الحي والميت وعن تقاطعات الطب والقانون مع السياسية والمجتمع، عربيا وعالميا. من خلاله اعدت صياغة بعض المفاهيم عندي مثل مفهوم الحيّز-زمن الذي حوّلته إلى الفضاء-زمن متأثّرة بمداخلات حسين نجمي خاصّة في كتابه "شعرية فضاء النّص" (2000). من خلال هذا البحث وهذا الكتاب اكتسبت أدوات ومعرفة جديدة لأشتق منها معرفة أخرى في سياق عربي آخر.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
أحمل خبرتي البحثية والكتابية معي خلال عملي الحالي كأستاذة مساعدة للعلوم السلوكية والاجتماعية في كلية الطب بجامعة قطر، وأعمل مع عدد من الزميلات والزّملاء على عدة مشاريع بحثية معرفية تركّز على تفكيك التقاطعات بين العلم والطب وبين المجتمع والثقافة في سياق التعليم الطبّي وأيضا في سياق الصحّة النفسيّة، بهدف فهم كيفية تأثير تلك التقاطعات على السيرورة الصحيّة والعلاجيّة. عادة أفضّل العمل بعمق على قضية بحثية مركزيّة واحدة بدلا من التشعب على مشاريع متعدّدة تجعل من ممارسة البحث والكتابة سطحية هدفها كم الإنتاج وليس عمقه ومضامينه.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
لا أحبّذ حصر الكتب بجمهور معيّن، وجمهور هذا الكتاب تحديدا يمكن أن يكون كل إنسان/ة عربي/ة يهتم/تهتم بفهم تأثير المنظومة الاجتماعية والسياسية على الممارسات الطبّيّة القضائيّة. فالكتاب يسرد قصص أناس نلتقي بهم/ن في حياتنا اليومية، قصص لربما تحدث مع أناس من حولنا او حتّى معنا. قصص كالموت المفاجئ، حوادث السّير والعمل، الإهمال الطّبّي، القتل والانتحار. تلك قصص حياتيّة يومية توصل جسد الميّت/ة إلى الطب الشرعي في أي سياق في العالم. في الكتاب قصص يمكنها ان تجعل القارئ/ة يفكّر/تفكّر بفضاءات أخرى من حوله/ا. ولكن إذا كان لا بد من تحديد جمهور معين فبرأيي كل باحث في العلوم الاجتماعية والسياسية، وكل من يعمل في سياق الطب الشرعي سواء أكان طبيبا أم وكيل نيابة. بالإضافة، كل من يعمل في مؤسّسة صحيّة طبيّة يمكنه ان يرى في الكتاب وسيلة لفهم ما يجري من حوله/ا كون الكتاب يفصّل كيف يتأثّر عمل الطبيب/ة والممرض/ة وأي أخصائي/ة في مجال العلوم الطبية، بما يحدث سياسيا واجتماعيا من حوله/ا، وكيف ينعكس هذا التأثير على سرد قصّة حياة وموت الإنسان/ة. آمل ان يرى القارئ/ة من خلال هذا الكتاب سياقات أخرى تشبه سياق الطب الشرعي، سياق فيه من التفاصيل والقصص ما يكفي لفهم تاريخ وحاضر مجتمع بأكمله.
***
مقطع من الكتاب:
لامس د. عنان أسفل ذقن الميت بالسكين وقال: "ذكر شاب في العقد الثاني من عمره". ثم اخذ يشق العنق نزولًا حتى البطن. وحلق مراد بحلق الرأس وبدأ بنشر الجمجمة. كانوا جميعهم يرتدون الثوب الأبيض ويلبسون القفازات وعلى وجوههم الكمامات، باستثناء د. عنان الذي كان بلا كمامة. وغطّوا أحذيتهم بأغطية خاصّة لونها أزرق. وكانوا يشبهون بنظري طاقمًا في غرفة عمليّات، لكن الفارق أنّ الطاقم في غرفة العلميات يعمل على إنقاذ حياة الشخص بينما هم هنا يعملون على إنقاذ القصص التي يحكيها جسد الميت قبل أن تتحلّل وتتعفّن وتختفي. وبعد فتح الجلد الخارجيّ فصلوا بينه وبين طبقة العضلات الموجودة تحته. وواصلت نهى فتح الجمجمة بدلًا من مراد، الذي وقف إلى جانب د. عنان وكسر عظام القفص الصدريّ بأداة خاصّة لهذا الغرض. وبعد فتح القفص الصّدريّ بدأ الاثنان إخراج أعضاء الجسد الداخليّة، من الأعلى إلى الأسفل، ووضعوها على المسطح بجانب سرير التشريح. أخذت منى وسهام العيّنات التي أعطاهما إيّاها مراد من كلّ عضو ووضعوها في وعاء خاص، مع رقم الحالة. ثم أعطاهما عيّنة من سائل العين بعد أن أخرجه بواسطة إبرة. وتابعت نهى عملها وأخرجت الدماغ. وزنوه وأخذوا منه عيّنة صغيرة ووضعوه في داخل كيس أزرق كتلك الأكياس المستخدمة لتغطية الأحذية وأعادوه إلى مكانه. وكانوا خلال كلّ عملية فتح الجسد يتحدّثون عن مشاهداتهم، ويربطون أي علاقة قد تظهر بسبب محتمل للموت، والطريقة التي اتبعها القاتل في القضاء على ضحيّته. وبعد أن وضعت نهى الدماغ في الكيس ومن ثم داخل الرأس، الذي يسمّونه تجويف الرأس، قامت بخياطته. وعندما فرغوا من أخذ العيّنات والتأكّد من أن سبب الوفاة استخدام حبل كانت آثاره لا تزل بادية على الرّقبة، أعادوا الأعضاء كلّها إلى الجسد، وخيّطوه. خرج الأطبّاء والممرضون وعاملات المختبر، ونظّف أبو علي ومرعي الجسد بواسطة أنبوب مياه رُبط بحنفية في المغسلة، ووضعوا عليه صابون التنظيف من وعاء سعة اللترين، وبدأ مرعي يفرك المناطق التي لم ينجح الماء في تنظيفها (...) (معهد الطبّ العدليّ، أيلول/سبتمبر 2004).
يشكّل التشريح أعلاه مثالًا لقراءة- تفسير فضاء-زمن الموت وجسد الميت، وهو إعادة صوغ نص قصة الموت وما مرّ على الميت وعلى جسده. فالأدوات المستخدمة في التشريح هي طبيّة- عدليّة، وتصبح لاحقًا دينيّة- اجتماعيّة بعد انتهاء التشريح وتهيئة الجسد لاستقبال الفضاء-زمن الاجتماعيين. وثمّة مثال آخر في الحدث التّالي:
وضع أبو علي، سائق سيّارة الإسعاف، ود. عنان جسد فتاة كان على الحمّالة في وسط الرواق، وسألتهم طبعًا السؤال المعتاد: "ما قصتها؟". أجاب د. عنان: "كانت مع حماتها في المنزل وماتت. ليس عليها علامات عنف خارجيّة، أو إشارة تدلّ على قتل أو حالة جنائيّة، ولذلك نُقلت إلى هنا للاستبعاد شبهة القتل. وكان لون أظفارها أزرقَ، الأمر الذي يدلّ على نقص الأوكسجين (الخنق). علينا معرفة كيف تمّ هذا الخنق". (....) (معهد الطبّ العدليّ، تشرين الأول/أكتوبر 2004).
تُشكّل علامات الفضاء-زمن الجسديّة مؤشرًا إلى رواية الموت. ومن الناحية التاريخيّة، فقد بدأ توجيه الأسئلة بشأن العلامات الجسديّة في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وخصوصًا فيما يتعلّق بقدرتها على أن تكون بيّنة ملموسة على مسارات وأحداث لم تُرَ (Crossland, 2009, 71). وتجسّد هذا التعامل في عدّة مجالات خلال تلك الفترة، ومنها الأنثروبولوجيا والطبّ، الأمر الذي أدّى إلى نشوء ظاهرة "نهج البيّنة"، أو الشهادة، الذي يقوم في جوهره على قراءة علامات الجسد ورموزه في إطار هيكلة القصص عن غير المرئيّ الذي جرى في ملابسات أخرى، وفهم العلاقة بين الجزء والكلّ، أو بين النتيجة والسبب (Ginzburg, 1989). ويعكس هذا التوجّه التعامل مع جسد الميت/ة على أنّه بيّنة، ومادة توفّر المعلومات- وهو تعامل أعارضه في هذا الكتاب، إذ أنّ مجرّد التفتيش عن علامات على جسد الميت/ة يضعه في موضع قوّة، ويدعم هذا التفسير الذي طرحه فوكو، بأنّ جسد الميت/ة يصبح محلًا محظيًّا لفهم الحياة بوساطة علاماته (Foucault, 1973, 145-146). ويقول فوكو إنّ مثل هذا الاستخدام للجسد يُمكّن من إعادة صياغة العلاقة بين المرئيّ واللامرئي في الجسد، الأمر الذي يساعد في الحديث عن أعماق الجسد الدفينة وعن التغييرات الطارئة عليه، والكشف عن مواقع الأمراض فيه (Ibid., pp. 90-94). ونلحظ في هذه المقولة تمييزًا من نوع خاصّ بين الجسد وعلاماته، وهو تمييز أعارضه. فأنا أدّعي أنّ العلامات هي جزء من جسد الميت/ة، وهي جزء من مكوثه وكينونته في فضاء-زمن أجساد الموتى والأحياء كذلك. وكذا المُفسّر/ة الذي/ التي يتوسط/ تتوسط بين الغرض وعلاماته، فهو غير منقطع عن هذا الفضاء- الزمن. بكلمات أخرى: إن العناصر الثلاثة (الجسد والعلامة والقارئ/ الرائي المُفسّر/ة) ليست متمايزة عن بعضها البعض؛ جسد الميت/ة ليس "غرض" المفسّر/ة بل هو غرضذات، وخصوصًا عندما تبدأ/ يبدأ المفسّرة/المفسّر عملية الكشف عن الحقيقة وَوَسم علاماته.
دخل د. صافي غرفة د. جميل، فقال له الأخير: "أنا أجريت التشريح". قال د. صافي: "أنت؟ هل صدر التقرير إذًا باسمك واسمي أم باسمك فقط؟" أجاب د. جميل: "نعم، نعم، باسمنا معًا". فسأل د. صافي: "والنتيجة؟". د. جميل: "إطلاق رصاص من مسدس على الرأس، من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، قطر الفتحة في الجانب الأيسر سنتيمتر واحد وفي الجانب الأيمن سنتيمتران". د. صافي: "ميليمتران؟". د. جميل: "لا، سنتيمتران". د. صافي: "ماذا؟"، وعلت وجهه علامات التعجّب. واصل د. جميل: "نعم، نعم، سنتيمتران". فقال د. صافي: "هل أخذتم عينات من كلّ الأعضاء؟". أجاب د. جميل: "إنّهم يأخذون الآن". )...( د. صافي: "حسنًا"، وخرج من الغرفة. في أثناء المحادثة كنت أشاهد ما يجري في غرفة التشريح عبر شاشة التلفاز الموصولة بها. بعد خروج د. صافي، سألتُ د. جميل: "إذا كان من الواضح أنّ سبب الموت هو الرصاص، فلماذا تأخذون المعدة؟". أجاب: "لأنّ ثمّة قصة عن تعاطي المخدّرات". قلتُ: "إذًا يمكن القول أنّ الموت حدث جرّاء جرعة زائدة، أو انتحار بالرصاص وليس من الضروريّ أن يكون قتلًا؟" قال: "لا، عند الانتحار عادة تدخل الرصاصة من اليمين وتخرج من الجانب الأيسر، لأنّ المنتحر سيحمل المسدس في يده القويّة، اليمنى". قلتُ: "ألا يُعقل أنّ يكون أعسر، وأنّ يده القويّة هي اليسرى؟ ربّما من الأفضل الاتصال بالأهل واستيضاح ذلك؟ إذ يمكن أن يغيّر ذلك الصورة برُمّتها، أليس كذلك؟" صمت عدّة ثوانٍ وقال: "أنت محقّة تمامًا، لكنّ إطلاق الرصاص جرى من الخلف. وفي الانتحار يُطلق الرصاص عادةً من الأمام أو الجانب لا من الخلف، وفي العادة إلى الأعلى لا إلى الأسفل". تابعنا النظر إلى الشاشة. وفجأة قال: "إنّهم يفعلونها بطريقة خطأ!" وخرج من الغرفة وتوجّه إلى غرفة التشريح. رأيت رجليه بالصندل البنيّ والجوربيْن الأبيضيْن، ورأيت يده اليمنى تشير. وهكذا اكتشفت أين أظهر على شاشته من غرفة التشريح. وهكذا صرت قادرة على التحكّم بمدى ظهوري داخل غرفة المدير عندما كان يشرف عليهم/نَ/عليّ (يوميّات إثنوغرافية، تموز/يوليو 2004).