تركيا في موقف حرج حيال مأساة الأيغور

[تجمهر من الأويغور أمام مسجد عيد كاه في كاشغار بمناسبة عيد الفطر] [تجمهر من الأويغور أمام مسجد عيد كاه في كاشغار بمناسبة عيد الفطر]

تركيا في موقف حرج حيال مأساة الأيغور

By : Bayram Balci بيرم بلجي

الأويغور في منطقة تركستان الشرقية أي منطقة الحكم الذاتي سين كيانغ في الصين مجموعة قريبة من الأتراك من حيث الدين واللغة والعرق، تتعرض الى قمع شرس لا هوادة فيه. وفِي أجواء من شبه اللامبالاة الدولية يخضع حتى الآن أكثر من مليون منهم للأسر في “مخيمات لإعادة التأهيل”. حتى تركيا نفسها قد تخلت عنهم.

لا يعرف أحد ما يدور فيها، واسمها وحده يوحي بتجارب سيئة الذكر. تركيا نفسها التي كانت المدافع التقليدي عن الشعوب الناطقة بلغتها وعن الأويغور بشكل خاص، تلتزم اليوم الصمت حيال هذا القمع الحكومي الذي لا يطاق ، إذا ما استثنينا بعض الانتقادات النادرة التي تكاد لا تسمع. يُعبّر هذا الخذلان عن انصياع تركيا للواقعية السياسية الاقتصادية والجيواستراتيجية العملية. تتكثف الصلات الاقتصادية التي تربط تركيا بالصين مع مرور الأيام، في الوقت الذي تتراجع فيه بتناسب عكسي استقلالية أنقرة. ولكن التبعية الاقتصادية هذه لا تفسر كل شيء. فبعد أن قطعت تركيا الى حد ما ارتباطها بالغرب باتت صديقة وحليفة نظم سلطوية قوية، وباتت بدورها ميالة لهذا الانحدار نحو التسلط مما يتسبب لها بالنقد اللاذع من قبل حلفائها التقليديين، مع أنهم هم أنفسهم غير منزّهين عن الأسلوب السياسي الشعبوي والديماغوجي (الغوغائي).

عملية استعمارية

والأويغور، هذا الشعب التركي المسلم الذي كانت له لفترة طويلة الأغلبية في منطقة تركستان الشرقية والتي أعيد تسميتها سين كيانغ (الحدود الجديدة) من قبل نظام بكين منذ 1949، أصبحوا اليوم مهمشين وتحولوا إلى أقلية ضعيفة في ديارهم بفعل الهجمة الاستيطانية الصينية من عرق الهان التي وفدت عليهم من عدة ولايات صينية. أما الحكم الذاتي المحدود جداً والنظري أكثر منه عملي والذي كانت السلطة الشيوعية قد منحتهم إياه، فلقد أفرغ تماماً من أي محتوى ، شيئاً فشيئاً وبشكل مستمر. ولقد تسارعت وتيرة الاستيطان إلى درجة أن مدينة أورومشي، وهي عاصمة المنطقة، سوف تستوعب عما قريب ما تبقى من الأويغور الذين يبلغون اليوم نسبة 20% من السكان. إن السياسة الصينية المتمثلة في الاستيعاب والتهميش قد أدت إلى حركات تمرد في بارن عام 1990 وفِي أورومشي في تموز يوليو 2009 ومؤخراً عام 2015 في عدة مدن من منطقة الحكم الذاتي. وبالفعل، منذ نهاية الاتحاد السوفياتي عندما استقلت الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وكانت مثالاً يحتذى بالنسبة للأويغور، برز الوعي الجماعي الساعي للتصدي للضغط الصيني المدمر. ولكن هامش التحرك لدى الأويغور محدود وتبقى محاولاتهم متواضعة. غالبية منظمات الأويغور لا تطالب سوى باحترام الحكم الذاتي كما حدده الدستور الصيني، ووقف الاستيطان ووضع حد للتمييز والاضطهاد الذي يتعرضون له. وبالفعل، ثمة حقوق مبدئية عدة يجري انتهاكها، كقمع التظاهرات والتعبيرات الثقافية أياً كانت، وعرقلة الحرية الدينية وخاصة الترويع والإذلال الفردي والجماعي بشكل يومي.

القمع والتطرف

ولقد كانت نتيجة هذا التشدد الصيني أن دفع منذ الآن فئة من المعارضين الى التطرف. وبالتالي فلقد انضم عدد منهم الى الجهاد، من النوع الأفغاني أو السوري، كشكل من أشكال مقاومة المحتل مما وفّر بالتالي للنظام ذريعة، يباركها الكثيرون على الصعيد الدولي، لإسباغ الشرعية على ما يقوم به الصينيون من اضطهاد وقمع جماعي والمضي قدماً في هذه الممارسات. وتعتبر الصين هذا الارتباط مهما كان ضعيفاً بين فئة من المقاومة الأيغورية والظاهرة الجهادية الدولية فرصة سانحة تسمح لها بتقويض مصداقية المطالب المشروعة و“شيطنة” كل المعارضين على أنهم متطرفين راديكاليين خطيرين. تتخذ بالتالي للأسف سياسة القمع، والتي تخفي اضطهاداً حقيقياً بكل معنى الكلمة، أبعاداً فائقة بسجن أكثر من مليون شخص في “مخيمات إعادة التأهيل” التي لم يعد يتردد البعض في وصفها “بمعسكرات الاعتقال”. قامت لجنة تابعة للأمم المتحدة من التثبت من وجود هذه المعسكرات إلا أن الانتقادات الدولية ما زالت خجولة للغاية بحيث لم تقلق راحة بكين ولم تضع حداً للظلم. كانت تركيا من البادان القليلة التي أعربت رسمياً عن احتجاجها ولكن بشكل غير كاف في نظر الأويغور الذين يتوقعون دعماً أكبر لإخوانهم الأتراك، لأن تركيا داعم متميز له خصوصيته.

الإرث العثماني

من المفارقة بمكان أن تشعر الجمهورية العصرية العلمانية في تركيا، بأنها ما زالت مكلفة برسالة بصفتها وريثة الإمبراطورية العثمانية وأن تضطلع بدور الراعي الدولي والدبلوماسي الذي يحمي الشعوب المسلمة المعرضة للمصاعب في البلدان المجاورة ويمثل بلد الملاذ بالنسبة لها. وبالفعل، لقد أعربت تركيا غير مرة في تاريخها الحديث عن اهتمامها بإخوانها الأتراك المسلمين المضطهدين وخشيتها عليهم. كانت الأقلية التركية في جزيرة قبرص فد دفعت تركيا الى التدخل عسكرياً في الجزيرة عام 1974. وبنفس الطريقة كثيراً ما شكلت الأقلية التركية في بلغاريا واليونان محور خلاف بين تركيا وجيرانها. في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية ابتداءً من 2002، لم تعد الأقليات التركية وحدها تستفيد من اهتمام تركيا ومساعدتها المادية الملموسة بل الشعوب المسلمة االمنكوبة البعيدة جداً أحياناً عن الأراضي التركية مثل الروهينغا في تايلاند. وفِي تاريخ أقرب إلينا فإن القضية الفلسطينية، والأقلية التترية الناطقة بالتركية في القرم، وكذلك مجموعات التركمان في سوريا والعراق كلها قد لفتت اهتمام تركيا. هذا المنهج المطبوع بالتزام معنوي لا ينفي تواجد المصلحة الدبلوماسية والجيواستراتيجية في زيادة هيبة تركيا وشرعيتها على الساحة الدولية ولكن الفائدة من ذلك أنها تنعكس على شكل مساعدات ومساندة ملموسة لشعب مضطهد.

التضامن العائلي

ما هي حصة الأويغور من سياسة “التضامن العائلي” التي تنتهجها تركيا؟ قبل إحلال نظام الجمهورية بزمن طويل كانت الامبراطورية العثمانية قد أقامت الكثير من الاتصالات مع الأويغور في الصين. على رأس الإمارة في عهد نظام المحمية بين عامي 1864 و 1877، كان الخان يعقوب بيك الذي بسط نفوذه على مساحة كبيرة من أراضي الأويغور الحالية يعقد علاقات وثيقة جداً مع سلاطين بني عثمان. طلب يعقوب بيك، سعياً منه لترسيخ إمارته الهشة، حماية العثمانيين بل وسيادتهم المباشرة عليها. وهو الأمر الذي لم توافق عليها الامبراطورية، لأنها لم تعد تمتلك الإمكانيات لسياسة النفوذ في أماكن البعيدة آلاف الكيلومترات عن مركزها. ثم تراجع الاهتمام بقضية الأويغور مع إحلال الجمهورية.

ومع ذلك فمن مفارقات الجمهورية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك أنها مع تأكيدها على النزعة القومية المتمحورة حول الأناضول، فهي ظلت تهتم ب“أتراك الخارج” ولا سيما منهم أتراك آسيا الوسطى الأقدمية. ولقد أنشأ بهذا الصدد قسم متخصص بالدراسات الصينية، بقرار من أتاتورك. لا شك أن العلماء يدرسون فيه تاريخ الأتراك القديم ويدعموه بالوثائق، ولكن المبادرة هذه قد حفزت الدراسات التركية حول قضية الأويغور. ولقد فتح عصر استلام ماو تسي تونغ السلطة في الصين صفحة جديدة في تاريخ الأويغور. فلقد عزز الحكم الشيوعي من قبضته على السلطة وضغط بشكل أكبر على الشعب، ووضع حدوداً للحقوق والحريات المتاحة للأقليات المضطهدة والمهمشة، فدفع بالآلاف من الناس الى الهجرة. هكذا، وفي خلال السنوات التي تلت إحلال السلطة الشيوعية عام 1949، فضل الكثير من الأويغور الهجرة الى تركيا، حيث استقروا بمساعدة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. من ضمن هؤلاء شخصيتان بارزتان في الحركة الوطنية الأويغورية، عيسى يوسف البتكين ومحمد أمين بغرا. وتحلقت حولهما في وقت مبكر في تركيا جالية أويغورية راح عددها يزداد كلما ازداد القمع في الصين. المؤسسات العديدة التي أنشأتها الجالية والجمعيات ودوائر المثقفين القوميين أو المنادين بوحدة المسلمين هي التي تقوم بتدبير شؤون رعاية الجالية في اسطنبول وكذلك في قيصري وأنطاكيا أكثر مما تقوم بذلك الحكومات التركية. مع أن غالبية الحكومات قد أثبتتن ودون الكثير من التحفظ أحياناً، تضامنها مع الأويغور ومساعدتهم بشكل واضح. فسليمان ديميريل وتورغوت أوزال، الذين شغل كلاهما منصب رئيس وزراء ثم منصب رئيس الجمهورية خلال الثمانينات والتسعينات قد استقبلا في مناسبات عدة زعيم الجالية الأوغورية عيسى يوسفا البتكين. كما وتم تدشين حديقة عامة عام 1995 على ساحة المسجد الأزرق التاريخية تخليداً لذكراه.

شبه إبادة جماعية

ذهب رجب طيب أردوغان الى أبعد من ذلك حين انتقد بشدة القمع الصيني للأويغور باستخدامه عبارة “شبه إبادة جماعية”. وكادت كلماته -التي أثارت غضب السلطات الصينية - تتسبب وقتها بقطع العلاقات مع تركيا. ولكن بعد ذلك بسنة لم تمنع هذه الأزمة المصغرة التركية-الصينية البلدين من توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية عام 2010. وبالفعل، وبالرغم من التعاطف الشديد لدى كل من الدولة والرأي العام تجاه الأويغور، فلقد تضاءلت المساعدة التركية الموجهة للأصدقاء بشكل متزايد وباتت تقتصر أكثر فأكثر على مجرد مواقف خطابية. وهكذا وبالرغم من توارد الأنباء المقلقة والمخاوف المتزايدة حول اتساع حملة القمع، لم تعد تركيا تعمل على إسماع صوتها بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى لو كانت تعلن على الملأ وعبر أبواق الدعاية أن السياسة الصينية “عار على الإنسانية”. ولو كنّا بحاجة لمزيد من الإثباتات بشأن سعي تركيا الى عدم إزعاج الشريك الصيني، لكتفينا بلإشارة الى ابتعاد أنقرة عن الجمعيات الأويغورية في تركيا. بل وفِي صيف 2019 وافقت السلطة التركية على رد الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين على أعقابهم. ومن ضمنهم عائلة طاجيكية تم ترحيلها الى الصين فألقي القبض فوراً على الأم ورميت في السجن. غني عن البيان أن وزن الصداقة التركية الأوغورية لا يُرجّح دفة ميزان الاعتبارات السياسية والأمنية في العلاقات بين الصين وتركيا.

اعتدال أم خذلان؟

من يستمع لهيئات الدفاع عن قضية الأويغور في تركيا وفِي العالم يسيطر عليه انطباع مفاده أن تركيا قطعت صلة التضامن مع إخوانها من ذوي الأصول التركية، فخذلتهم تاركةً إياهم لمصيرهم المؤلم. إلا أن ما قامت به تركيا على مر الزمن من إعمال تضامن لا يسمح بتصديق هذا الشعور تماماً. لم تتخل أنقرة عن مساندتها، حتى لو كانت قد خففت منها لأنها لا يمكن أن تسمح لنفسها بتردي العلاقات مع الصين مما قد يقضي على الصوت التركي بشكل تام بما في ذلك في قضية الأويغور. ويبدو التوازن بين هذا وذاك صعب المنال. وحتى عام 1997 كان من الواضح أن تركيا تدعم القضية الأوغورية بصراحة أكبر، بما يتضمن التصريحات العلنية بالتعاطف مع الشرائح المطالبة بالاستقلال.

كانت أنقرة تستطيع ذلك عندما كانت علاقاتها الاقتصادية مع الصين محدودة. ولكن مع ترسيخ الصين المتعاظم لموقعها على الساحة الدولية واستفادة تركيا من هذه العلاقات تأثرت سياسة تركيا حيال الأويغور على المدى البعيد. وتحولت من المساندة المطلقة والموقف التاريخي إلى البراغماتية المتفهمة للصين. العوامل البراغماتية التي أجبرت تركيا على وضع ضوابط وحدود لمساندتها للقضية الأوغورية متعددة. وعلى رأس هذه العوامل، بطبيعة الحال، العامل الاقتصادي، وهو عامل يطغى على العامل الإنساني. لقد استفاد الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة من الأسواق الصينية الجديدة، كما أنه بحاجة في الوقت نفسه للاستثمارات الصينية المباشرة في تركيا. كما ثمة خلل كبير في التوازن التجاري لصالح الصين مما يحد من السيادة التركية في مجال الاقتصاد. فتجد تركيا نفسها واقعة في شبكة الاستراتيجية الصينية الجديدة المسماة “طريق الحرير الجديد عبر الصين” والتي تخطط لسياسة جديدة من الانفتاح على العالم. والدليل على الأهمية التي توليها تركيا لهذه المبادرة هو مشاركة الرئيس أردوغان شخصياً في منتدى الإعلان عنها في مايو أيار عام 2017. فبالنسبة للسلطات التركية تندرج عملية تشييد خط السكة الحديدية باكو تبيليسي قارس الذي أنجزتها مؤخراً وكذلك الجسور الثلاثة على البوسفور ومطار اسطنبول الجديد كلها في سياق مشروع طريق الحرير الجديد هذا. وفِي سعيها لتنويع شركائها الاقتصاديين بسبب فتور العلاقات مع حلفائها التقليديين، أوروبا والولايات المتحدة، لا يمكن لتركيا أن تترك لنفسها العنان بتوجيهها الانتقاد الشديد لسياسة الصين تجاه الأويغور، حتى لو كانوا إخوة في العرق والدين.

البحث عن حلفاء جدد

العبرة التي يمكن استخلاصها من أوضاع الأويغور هي أن تركيا في السنوات الأخيرة قد أعادت النظر بقيمها الجوهرية. فهي إلى حد ما تعيد النظر في حلم التجذر في الغرب، وتقترب من دول ذات نظم أكثر تسلطاً، كروسيا والصين، وإيران، من ضمن دول أخرى، وهي الأكثر أهمية لمصالحها الحيوية. تعكرت علاقات تركيا مع الحلفاء التقليديين وهي في شبه قطيعة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومضطرة لموازنة هذا الخلل بعلاقات أخرى، لذا فهي لا تستطيع تكدير علاقاتها مع الصين أو روسيا حتى لو كان هذان البلدان يسيئان معاملة مجموعات إثنية مقربة منها، مثل الأويغور أو التتر في القرم.

تركيا اليوم في عزلة دولية، تخضع لعقوبات أمريكية بعد قضية القسيس الإنجيلي أندرو براندون المعتقل بتهمة “الإرهاب”، وهي بأمّس الحاجة لإيجاد دعم جديد وشركاء في أماكن أخرى، ولا سيما بالتوجه شرقاً، والشرق حلبة يزدهر فيها النفوذ الاقتصادي الصيني. لا عجب إذاً إن تبنت تركيا الخطاب السلطوي نفسه، ولا إن هي عقدت اتفاقيات سياسية واقتصادية بل وعسكرية مع هذه البلدان كما تدل على ذلك صفقة شراء صواريخ S-400 من روسيا. عام 2013، أجرت تركيا مباحثات لشراء صواريخ مماثلة من الصين. وإن كان خيارها قد وقع على روسيا في نهاية الأمر فهي ما زالت مهتمة الى أبعد الحدود بالتعاون العسكري مع الصين، ما يعتبر التفاتة تحدمن أنقرة لحلف شمال الأطلسي والحلفاء الغربيين. تركيا تبدي شيئاً من الاعتدال في سياسة التضامن مع الأويغور رغم تشكيكيها بمشروعية القمع الذي تمارسه الصين بحجة مكافحة الجهادية الأوغورية المزعومة. فإن كان هناك بعض المجموعات الصغيرة الناشطة فعلاً في الجهاد إلا أن الصين تضخم أهميتها الحقيقية وتواطؤ المعارضة المطالبة بالاستقلال معها. للأسف هذه الجماعات الصغيرة المشاركة في الحرب في سوريا تقوض مصداقية القضية الأوغورية وتقضي على رصيد التعاطف معها والتفهم لها. وبالرغم من عدم وجود أي دليل على عودة جهاديين أوغوريين من سوريا إلى الصين ليهددوا أمن المدن الصينية إلا أن الدعاية الرسمية (البروباغندا) لا تتردد في الخلط الكاذب بين الأمور. ويزداد الحرج على تركيا المتهمة أساساً بالتساهل مع ظاهرة الجهاد في سوريا، فيصبح من العسير عليها أن تدافع عن القضية الأويغورية دون أن تظهر وكأنها تزكي التطرف الأويغوري في الصين.

[ترجمة ندى يافي][تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

المصادر بالإنكليزية

كيليتش بوغرا كانات“التعامل الأمني مع القضية الأوغورية وتحدياته”-  Kilic Bugra Kanat, « The Securitization of the Uyghur Question and Its Challenges », Insight Turkey, vol. 18, n° 1, 2016 ; p. 191-2018.

فاتح فرتون: العلاقات التركية الصينية في ظل القضية الأوغورية-  Fatih Furtun, “Turkish-Chinese Relations in the Shadow of the Uighur Problem”, Global Political Trends Center, January 2010.

سلجوق كولاكوغلو : تركيا والصين: البحث عن شراكة مستديمة-  Selçuk Colakoglu, “Turkey and China : Seeking a Sustainable Partnership”, SETA.

ألطي أتلي: السياسة الخارجية التركية حيال الصين، تحليل وتوصيات بهدف تحسينها-  Altay Atli,“Turkey’s Foreign Policy Towards China, analysis and Recommendations for improvement », Global Relations Forum Young Academic Program, Policy Papers Series, N° 3, Bosphorus University.

محمد سويليميز : تركيا والصين : كيف تطورت العلاقات الثنائية-  Mehmet Söylemez, « Turkey and China: An Account of a Bilateral Relations Evolution », Observatoire Chine, Inalco.
 
جون سادوورث “البحث عن الحقيقة في مخيمات الصين ل”إعادة تربية الأيغور- John Sudworth, « Searching for truth in China’s Uighur ‘re-education’ camps”, BBC, June 2019.
 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬