قراءة غرامشي في زمن المظاهرات

[صورة للفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي. المصدر: موقع صحيفة العرب] [صورة للفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي. المصدر: موقع صحيفة العرب]

قراءة غرامشي في زمن المظاهرات

By : Mustafa Shalash مصطفى شلش

ما بين عامي 2018-2019، شهدت عدة بلدان عربية موجة جديدة من التظاهرات، بداية من العاصمة الأردنية "عمان" التي تتجدد فيها الوقفات الإحتجاجية السلمية بين الحين والآخر، مرورًا بتظاهرات حاشدة مستمرة في السودان أسقطت نظام الرئيس عمر البشير، وصولًا للحشود الجزائرية التي نجحت في إنهاء حقبة الرئيس بوتفليقة بإعلانه عدم الترشح للرئاسة لعهدة خامسة للحكم والتقدم باستقالته. حتى وصلنا للحظة التظاهرات المصرية في زمن السيسي. وهذه اللحظات التاريخية الفارقة والمضطربة تُمكننا من قراءة وطرح أفكار تتعلق بالحِراكات الثورية عمومًا، دون تحديد نطاق جغرافي لها وجماهير بعينها لوجود إختلافات بين كل بيئة وأخرى، وبالممارسة السياسية خصوصًا مع الأخذ في الإعتبار أنه من غير المفيد الركون إلى مبدأ القياس النابع من الفكر الصوري في قراءة الأوضاع الثورية وتحديد الممارسة السياسية لها حتى لا نصل إلى قراءة ظاهرية مشوشة للواقع الفعلي القائم على الأرض. ولكن من المفيد تقديم قراءات فكرية ثورية مثل أعمال الفيلسوف والمناضل الماركسي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) وتحديدًا كتاب "في الوحدة القومية الإيطالية " الذي انطلق فيه من فكر جدلي فأنتج عدة مفاهيم وأفكار جمعَ فيها بين التاريخ وبين علم الإجتماع مُقدمًا نظرية للممارسة السياسية.

التعامل مع الدولة

في كتاب "في الوحدة القومية الإيطالية" انطلق غرامشي من مفهوم ثنائي وهو الدولة/المجتمع المدني، أو المجتمع السياسي/المجتمع المدني، مؤكدًا على ضرورة عدم الخلط بين مفاهيم الدولة، والمجتمع المدني، والجماهير المنفردة.

ونبدأ بتعريف الجماهير المنفردة وهي الجماهير المُشاركة في التظاهرات والإحتجاجات والإضرابات بقرار شخصي وغير منضوية تحت لواء أحزاب أو نقابات. كما عرّف غرامشي المجتمع المدني بأنه "مجموع المؤسسات المضاف لها علاقات إقتصادية". وعرّف الدولة في ضوء "الدولة الأخلاقية" عند الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831) المستمدة من الأصول الفلسفية والثقافية الليبرالية وربطها بمفهوم "الدولة-الشرطي" أي الدولة التي لا يتعدى دور مؤسساتها دور فرد الأمن فيها – فهي دولة لا تنتج خدمات للمواطنين بل تنتج عُنفاً بصور مختلفة إلى جانب شبكة من النشاطات العملية والنظرية والتي لا تكتفي الطبقة الحاكمة بواسطتها بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فقط، وإنما تعمل على كسب الموافقة النشطة من أفراد الشعب المحكومين بشكل دائم.

وفي ضوء مفاهيم (الدولة، المجتمع المدني، الجماهير المنفردة، الدولة الشرطي) بني غرامشي فكره من أجل أن تتمكن الجماهير من إصلاح / تغيير ما تريده من سياسات الدولة عبر إضافة مفهوم "الهيمنة" الذي عمل على صياغته. وتعتبر الهيمنة الغرامشية هي "التكملة" للمفهوم الشامل للدولة من خلال تَملك المجتمع "المدني خصوصًا" قوته لصد عنف الدولة عبر "الهيمنة الثقافية".

ويتضح من التجارب الفاشلة/المهزومة لحركات الربيع العربي عام 2011 أن غياب فاعلية المجتمع المدني/السياسي –الممثل في الأحزاب والنقابات- الذي قد يعني أن الحراك القائم لا يفتقد نشاطات وأفكاراً سياسية فعالة للتغيير، بل لا يحتوي على أي فكر إجتماعي وإقتصادي وحتى أخلاقي ضروري ليُطرح كبديل لما هو قائم سابقًا والمطلوب تغييره. مما يجعل أفراد أي حراك والمُطالبِين بالإصلاح والتغيير أمام وجه الدولة/الشرطي كما يقدمهما غرامشي. أي عليهم أن يواجهوا العنف القسري عبر الأجهزة السلطوية العسكرية والأمنية وترسانة القوانين التي تنتجها السلطة لمحاصرة دعوات التظاهر وتضييق الحريات لمنع أي خطر أو محاولات لخلخلة بنى النظام عبر وسائل التواصل الإجتماعي ومواجهة أفكاره، مثل قانون "الجرائم الإلكترونية " الذي صار قائماً وفعالاً في أغلب البلدان العربية. ولهذا لا يعني عدم وجود مواجهات مباشرة مع قوات عسكرية (الشرطة والجيش) أن الدولة تخلت عن عنفها ولكنها تمارسه بما يعرف بـ "القوة الصامتة" أي أنها تحول عنفها تجاه المعارضين عبر ترسانة من القوانين.

وقد قسّم غرامشي "الهيمنة" إلى طبيعتين: سياسية وثقافية، وإلى مستويين: دولي ومحلي. ومن هذا المنظور لم يكتف غرامشي بإلقاء الضوء على دور الدولة (محليًا) من خلال المؤسسات الثقافية كالمؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية والسياسية كالبرلمانات والتي تقوم بهيمنة وعنف يوازي هيمنة وعنف القوات العسكرية، وإن كانت فعالية الأخيرة وطريقة تعاملها مع الجماهير تتوقف على مدى تأثير الأولى. كما ألمح غرامشي بشكل مستقبلي إلى هيمنة الدول الكبرى (دوليًا) على غيرها (سياسيًا) عبر مجلس الأمن واللجان الأممية، و(ثقافيًا) عبر المؤسسات الدولية والشركات العابرة للقارات والتي صارت الممولة الرئيسية الآن لنشاطات المجتمع المدني.

لذا نبّه غرامشي لنقطة شديدة الخطورة، وهي مسؤولية الجماهير أو قادتها في مواجهة التوافق والسيطرة التي يحققها النظام على المجتمع المدني عبر التحكم الكامل في الأحزاب والنقابات وتعميم فكر النظام السلطوي الحاكم (نظام دولي كان أو محلي) وتحويله إلى رأي عام وحس مشترك لدى فئات واسعة من الشعب، وخصوصًا لدى أصحاب المراكز والنفوذ في الحقل الإقتصادي والحقل الثقافي. ولهذا يطالب غرامشي بالإنتقال من الوعي النقابي/ الحزبي إلى الوعي السياسي الفردي المباشر وتحرر المتظاهرين من أي فكر إقتصادي خاص ومطالب فئوية. وذلك لكي يستطيعوا تقديم أنفسهم للمجتمع، كنواة مشروع تغيير شامل وليس مجرد مطالبين بإصلاح لا يقوم إلا بتغيير الوجوه مع ثبات السياسات أو تدهورها.

ودون إدراك ما سبق، ودون النظر للمرحلة التاريخية لتكوين الدولة وفهم أنها، أي الدولة، ليست جهازاً للحكم فقط وإنما أيضاً جهاز للقمع على كافة الأصعدة لا يمكن إستبداله –على أحسن تقدير- إلا بنظام آخر يمكنه الهيمنة عبر مؤسسات وآليات جديدة تخدم الجمهور الطامح للتغيير. دون كل ما تقدّم سنسقط في فخ إتاحة الفرصة للنظم الإستبدادية القائمة لإدعاء مبدأ الخصوصية القُطرية (مثلاً أن الدولة عشائرية – قبائلية – تقوم على حكم فئات أو أوليجاركية ... إلخ) وهذا الوضع الخاص المُدعى يمد الحاكم الإستبدادي بظرف واقعي لبقائه لأنه يُحافظ على بقاء الفرد – دون النظر إلى وضع الفرد الإجتماعي- وتكوين الأسرة، وبالتالي تعثر ولادة مُجتمع مدني.

وفي حال عدم ظهور مجتمع مدني مستقل خلال فترة الأزمات العضوية –لحظات من الإنسداد السياسي والثقافي في عُمر الدول- وقادر على إنتاج هيمنات بديلة،  لن يكون لدى أي فكر ثوري إلا قليل من الدعم. مما يجعلنا أمام طريقين أحدهما البطش الشديد بالحراك الثوري وفشله، أو ظهور نظام عسكري (يحكم بشكل مباشر، مثل مصر في 2011 عندما كانت تحت حكم المجلس العسكري، أو غير مباشر مثل مصر حالياً). ويعنى هذا النظام العسكري بإعادة رسم الخريطة الطبقية في المجتمع وكبح أي حِراك من قِبل الجماهير، سواء كانت جماعات أو أفراد، أي يعمل على استعادة النظام – النظام مِن وجهة نظره والنظام الذي يتماشى مع مصالحه الخاصة- في حالة خروج الاوضاع عن السيطرة.

ضد المثالية الثورية

وبناءًا على ما سبق، أوضح غرامشي أن المثاليات والطاقات الثورية، في ظل غياب عامل "الهيمنة الثقافي" عن المشهد الإحتجاجي الثوري أحيانًا تكون عاجزة عن تحقيق أهداف أي حركة إحتجاجية/ثورة بداية من أبسط مطالبها الذي قد يتمثل في الإصلاح وليس في تغيير جذري للنظم السياسية أو الطغم الحاكمة. ويبدأ بطرح خطوة من أجل نجاح  الحركات الإحتجاجية وتتمثل في الإعتماد على إحتلال الخنادق الخلفية للدولة الممثلة في المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية التقليدية. أي على المتظاهرين المشاركين في أي فعاليات إحتجاجية محاولة إنتاج فكر جديد يتعلق ببيئتهم وطريقة تعاملها مع أفرادها ومحاولة فك أي إرتباط سلبي بهذه البيئة الإجتماعية الحاضنة. وبنفس الكيفية إعادة رسم العلاقات الأسرية وكيفية الخروج من سيطرتها، وبناء خطاب أخلاقي/ديني فعال وقريب من المواطن ومشاكله ليتمكن من طرح بديل فعال عن الجماعات الدينية التقليدية الممثلة في الإسلام السياسي مثلًا كالأخوان المسلمين والسلفيين، ومؤسسات الدولة الدينية.

وما سبق قد يتم عبر التحليل (النظري – العملي) لمفهوم "الهيمنة" الذي كان له تاريخ طوي في تقدمه الفلسفي والمعرفي وفي تطوره السياسي أيضًا، والذي يمكن نشره وتعميمه بين أوساط المحتجين في الميادين وخارجها عبر وسائل التواصل والمواقع الصحفية الشبابية البديلة لإعلام الدولة.

ويؤكد غرامشي على أن تحقيق مفهوم "الهيمنة" يجعل المجتمع المدني بمثابة حصن داخلي للفكر البديل. ويسمح وجوده بإعادة بناء توازن صحيح بين الدولة "بمؤسساتها" وبين الأفراد. وهذا ما لا يجب أن يغيب عن ذهن القائمين على حراك ثوري. ولهذا يشدد غرامشي على ضرورة إعطاء أهمية خاصة وفائقة للبنية الفوقية، وللمثقفين العضويين، حيث أن الهيمنة الثقافية هي المحرك "الدينامو" للدور السياسي للطبقة، أي انتقال البنية التحتية وتناقضاتها إلى البنية الفوقية، لكي يتم بناء تنظيم ثوري يستطيع أن يحكم الأرض. وأن يكون التنظيم جامعاً للطبقة الشبابية وحلفائها الموضوعيين –أبناء الطبقات الأخرى المنحازين للطبقة الثورية-.

ومن خلال وعي هذه الطبقة المهيمنة الثورية ومهامها السياسية والتاريخية، التي تقوم على رؤية نظرية شاملة، وبرنامج سياسي تنفيذي على الأرض، وعبر تحمل مسؤوليتها بقيادة الإحتجاجات، وبالتالي مسؤولية تحديد برنامجها، وخلق أفكار وبدائل حديثة وجديدة، بما يعني ذلك خلق مجتمع مدني، وتحطيم الجهاز الحكومي السلطوي القائم لتحقيق أقصى استفادة من الإنتفاضة وتحولها إلى ثورة إجتماعية.

خاتمة

قبل أن أنتهي من طرح قراءتي لفكر غرامشي في كتابه «في الوحدة القومية الإيطالية» يجب أن أشير إلى الحاجة المُلحة لنمط جديد للاحتجاج بشكل أكثر فاعلية في عصر العولمة، ومحاولة جديدة لإنتاج نظرية ثورية "مهيمنة". وربطها بشرائح مجتمعية جديدة مُتعلمة ومُتمدنة ذات وعي يمكنه التعامل مع الأزمة الراهنة وتجاوز هذا الوضع المُدعشن – العدمي الذي تعمل الحكومات العربية الحالية على تصديره والتعامل من خلاله. فالخوف من الأصوليات الدينية هو الوقود الذي يحرك الديكتاتوريات والحروب الإمبريالية بشكلها الجديد المعولم لتبرير سياستها الإقتصادية والأمنية .مما يجعل تحليل وقراءة تاريخ الهيمنة الثقافة الثورية على الأرض وكيفية السيطرة على مجريات الأمور خلال اللحظات الثورية يكتسب أهمية خاصة. وهذا عبر ربطه بالواقع العربي لتحديد درجة تطور أساليب الإنتاج وموقع حركة رأس المال في العملية الإنتاجية .‏

لهذا يمثل الطرح النظري لعملية الهيمنة الثقافية بشكل أولي ضرورة لفهم نفسية وطريقة تفكير المواطن المقهور، ومحاولة صنع بديل مدني لطرح سياسيات إقتصادية وإجتماعية جديدة ومناسبة في ضوء علاقات الإنتاج الخاصة به، بعيدًا عن فزاعة الأصولية الدينية.

ويمثل غرامشي أهمية إستثنائية لأن مفهوم الهيمنة يشكل محوراً مركزياً واستراتيجياً في الصراع الايديولوجي والسياسي داخل أي  حركة ثورية عربية -خصوصًا- أو حتى إفريقية، لاتينية، آسيوية تطمح للتغيير، وتعتبر الهيمنة عنصراً هاماً في سياق بلورة نظرية ثورية أو حتى إصلاحية من أجل التغيير.‏

لذا فالعمل النظري على إنشاء فكر مهيمن ثقافي مضاد للدولة القمعية هو عمل مقاوم وامتداد وتطوير لكل الأفكار التقدمية والتحررية في العالم، ودرب هام من دروب الثقافة البديلة. ويمكن إعتبار إنشاء نظرية ثورية مهيمنة قاعدة مشتركة كونية حقيقية نعبرعنها بوصفها مطلباً إنسانياً من أجل رسم طريق للحرية والكرامة.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • تاريخ الإسلام في الفكر الألماني - من لايبنتز إلى نيتشه

      تاريخ الإسلام في الفكر الألماني - من لايبنتز إلى نيتشه

      صدر حديثًا للباحث والأكاديمي البريطاني إيان ألموند  كتاب " تاريخ الإسلام في الفكر الألماني - من لايبنتز إلى نيتشه – 2009" عن مؤسسة ريم وعمر، وترجمة فاطمة الزهراء علي.

    • سياق العنف في جنوب إفريقيا

      سياق العنف في جنوب إفريقيا

      في الأسابيع الماضية، شهدت جنوب أفريقيا أعمال عنف ضد الأجانب ونهباً لممتلكاتهم على نطاق واسع خلفت عدداً من القتلى ومئات الموقوفين من قِبل قوات الأمن. وعلى الرغم من أن جنوب أفريقيا تُعد واحدة من أكبر اقتصادات القارة السمراء، إلا أن أعمال العنف انطلقت في جوهانسبورغ، أكبر وأغنى مدن جنوب أفريقيا قبل أن تمتد إلى العاصمة السياسية، بريتوريا، ومقاطعة كوازولونتال.

    • جعلوني مديونًا!

      جعلوني مديونًا!

      منذ أن اجتاحت أزمة الديون العديد من بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأنجلوساكسونية -وهي الدول التي بدأ فيها الإنهيار المالي في عام 2008 ونمت فيها النيوليبرالية، بالإضافة إلى العديد من بلدان الوطن العربي التي تراكمت عليها الديون

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬