فجأة، أوعلى حين غرة، جاءت اللحظة التي يجب على الجميع أن يتوقف فيها ويحدق ملياً في كل ما يحدث! سبق وأن توقفنا، وتحدثنا، وضحينا، لكنها مثل كل المرّات التي سبقتها، سيأتي من يحتكر كل شيء، كل شيء، وينسبه إلى نفسه ويمضي!
لكن وقوفنا هذه المرّة يختلف تماماً عن كل توقفاتنا السابقة وتحديقنا الذي لم نجن منه سوى الخيبات. هنا، لا أتحدث عن شيء سوى العراق، العراق الذي تحول إلى غصة وألم متأصل ونوبات من مواجع القلب والضغط النفسي والكوابيس. ووقوفنا هنا من أجل مراجعة ما اجترحه جيل مختلف تماماً، ينتمي إلى عالم اليوم رغم كل مصاعب حياته وفقره ومكابداته. لك أن تتصور أن ثلاثاً من الضحايا الذين قتلهم قناص السلطة، قبل عدة أيام في الناصرية، لم يبلغوا سن ال18 عاماً! أثنان منهم كانا بعمر الـ 16عاما! وكانوا يعيلون عوائلهم، يعملون ليل نهار، ومهنهم المسجلة في شهادات الوفاة: كاسب، حتى يذهب إخوتهم وأخواتهم إلى المدارس، وحتى لاتذل أمهاتهم في متاهات التسول وبيع النفس والاستغلال!
هذا الجيل، والجيل الذي سبقه، الذين لم يرحمهم أحد، لا الدولة، ولا السلطة، ولا المجتمع، ولا العائلة، ولا المؤسسات الدينية...الخ، غيروا، وفي ضربة واحدة، مسارات التفكير والبحث والهرطقة الاكاديمية حول المجتمع والسلطة والتعاطي مع الاوضاع السياسية، ونظرتنا اليهم! ففي لحظة عصية من لحظات العراق، كنا إزاء جيل جريء وصريح ويفاجيء الجميع بردود أفعاله وشجاعته ويستخف وبصدور عارية بالسلطة وقمعها وانحطاط ممارساتها. هذا الجيل، وعلى حد تعبير صديق، جعلنا نتنفس بطريقة مختلفة!
جيل البوبجي، نسبة إلى لعبة إلكترونية شائعة، والجيل الذي سبقه، لم يعيشوا خيباتنا، نحن الذين نكبرهم عمراً ولم نتوقف عن تكرار مآثرنا وكوابيسنا وأحلامنا الضائعة، بل رضعوها منذ اليوم الأول الذي ولدوا فيه. فكانوا أبناء يومهم وعالمهم، وكانوا نسخة صادقة وصارمة تتقاطع تماماً مع النسخ الممسوخة والمريعة التي تسعى السلطة ومؤسساتها ورجال دينها إلى تصويرها وتصديرها عن جيل خانع وقانع بسحق كرامته ووجوده وحقه في الحياة. جيل ينتظر أوامر رجال الدين حتى يحترق على مذبح الطائفة وحروبها، ستقوم الدولة بتهديم بيت عائلته لأنهم تجاوزوا على الارض التي سكنوها، بصفتهم حواسم أو عشوائيات!، الجيل القانع بالقضاء والقدر على كل ما حل بحياته، موت والده، أو ترمل أمه وتحوله إلى أب العائلة وراعيها وهو بعمرالـ 15 عاما!]
في اليوم الأول من تشرين الأول الجاري، كانت زوجتي في الناصرية، وكانت تخرج كل يوم إلى شوارع المدينة وتعيش مع أهلها على وقع الرصاص والقنص والملاحقات، تحدثني عن مشاهداتها، وعن الفتى الذي جاء ليخبرها: خالة تصوبت!، وعن رموز ولغة لم تألفها سابقاً، لغة يستخدمها الفتية في تحركاتهم وركضهم واختفائهم في الطرق والشوارع الضيقة، حتى أخبرتها أختها: هذه رموز لعبة البوبجي!
هذا الجيل ومعه أجيال اخرى، سيعودون إلى الشوارع، مرّة اخرى، في يوم 25 تشرين الأول الجاري، سيعودون وفي عقل كل منهم مطلب واحد: إسقاط النظام ورحيله برموزه وزعاماته وميليشياته ورجال دينه، بعد أن أوغلوا في الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي والقبح الطائفي والإجرام والاستهتار بحياة العراقيين فأحالوهم إلى حشود من المعطلين عن العمل، وحشود من الذين ينتظرون العطف والرحمة من هذا الطرف أو ذاك، فعزز خيبات هذا الجيل والاجيال التي سبقته، مثلما عزز بؤس حياتهم وانعدام أي لمحة أمل في العيش بكرامة!
رغم كل شيء، ورغم كل ما قيل أو يقال عن تظاهرات واحتجاجات يوم 25 تشرين الأول الجاري، لكنني، وبفعل مآثر هذا الجيل، أتمسك بالأمل، وأضع قلبي على كل خطوة يخطوها شبابنا من أجل حقوقهم وكرامتهم، في بغداد الناصرية والعمارة والبصرة ووكل مدينة عراقية عاشت قبح نظام المحاصصة الطائفية واستهتار قواه ومليشياته.