لبنان : انتفاضة فاجأت الجميع ضد بناء ينخره الفساد

[أكتوبر 18 مظاهرة أمام مبنى السرايا في بيروت] [أكتوبر 18 مظاهرة أمام مبنى السرايا في بيروت]

لبنان : انتفاضة فاجأت الجميع ضد بناء ينخره الفساد

By : Doha Chams ضحى شمس

لم يتوقع أحد من الشباب الذين نزلوا عفوياً عصر ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، للاحتجاج على نية الحكومة فرض ضرائب جديدة منها ضريبة على خدمة الواتسآب، أن عشرات الآلاف سوف تتبعهم، وبهذه السرعة القياسية. وأنهم سيطلقون أكبر احتجاج شعبي ضد “المنظومة اللبنانية” تشهده البلاد منذ عشر سنوات، احتجاجاً لا يبدو أنه سيتوقف بمجرد سماع خطاب رئيس الوزراء سعد الحريري يوم الإثنين وما حمله من وعود بالإصلاح.

يقف الشاب العشريني العاري الصدر أمام الكاميرا التلفزيونية وهو يصرخ فرحاً ومذهولاً في ميكروفون صحافي «انظري كم أصبحنا؟ كنا ١١ شابا فقط، هل تصدقين؟». يقول ذلك وهو يشير الى الآلاف المؤلفة التي انحشرت حوله، بين سد من رجال الأمن المدججين بكامل عتادهم اسفل مبنى السراي الحكومي وسط بيروت، وبين ساحة الشهداء التي تقع على بعد مئات الأمتار منها. لم يتوقف تدفق الناس حتى ساعة متأخرة من الليل، ومعظمهم من الشباب، بالرغم من أن معظم الطرقات قطعت بالدواليب المشتعلة. كانوا يصلون مشياً من أماكن بعيدة. تظاهرات «طيارة» أخرى اندلعت، كالنار في الهشيم، في مختلف ضواحي الفقر. وسرعان ما التحقت الأطراف الأشد بؤساً كطرابلس، المدينة المصنفة الأفقر في حوض البحر الابيض المتوسط، وعكار وريفها في الشمال، وصيدا في الجنوب وبعلبك في البقاع، من دون أدنى تنسيق، ما شكل عنصر قوة للانتفاضة التي طال انتظارها ومنحها مناعة على القمع الفعال. كأن اللبنانيين كانوا ينتظرون من يشجعهم على النزول والاحتجاج، او كأن القهر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، الذي ساوى بين غالبية المواطنين على اختلاف طوائفهم، انفجر في الوقت ذاته.

أرض خصبة

والأرضية كانت حاضرة منذ زمن بعيد، لكن اللمسات الأخيرة أنجزتها عدة أحداث متلاحقة: قرارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، التي سحبت الدولار من أيدي اللبنانيين، ما أثر على سعر الصرف واستقرار (مفتعل بالأصل) العملة الوطنية، ثم ما فعلته المصارف التي أخذت ترفض تزويد زبائنها به، ولو كانت حساباتهم بالدولار! كل هذا في بلد يستورد تجاره وصناعييه بالدولار ويستوفون بالليرة اللبنانية، ما خلق أزمة اقتصادية رهيبة، زادت اللبنانيين إرهاقاً اقتصاديا واجتماعيا. ثم جاء أداء الحكومة الرهيب بدرجة تقصيره، عند وقوع كارثة الحرائق التي شبت في أحراج لبنان في آن، فألتهمت ملايين الأمتار من الثروة الحرجية في مشهد موجع للقلوب.

ثم...إعلان الحكومة نيتها فرض ضرائب جديدة على التبغ والبنزين و... خدمة الواتسآب المجانية! أي المنافذ الثلاثة التي كان فقراء لبنان لا زالوا يتنفسون، او ينفسون، عن قهرهم بواسطتها.

هكذا، اشتعلت التظاهرات في اليوم التالي، وانتشرت على كافة مساحة الخارطة، بشكل أشبه بانتشار الحرائق التي شاهدها المواطنون بلوّعة على الشاشات منذ أيام. الا أن أكثر ما لفت الانتباه وأعطى جرعة من الأمل، كان نزول الناس من مناطق لم تعتد الاحتجاج الاجتماعي، كمدينة جونية الساحلية الشهيرة بملاهيها مثلا، أو زغرتا في الشمال، أو قرى المتن وساحلها، وهي مناطق القاعدة الشعبية لأحزاب السلطة المسيحية.

لقد وحدت السياسات الاقتصادية والهندسات المالية المتماهية مع طلبات البنك الدولي لحاكم مصرف لبنان، اللبنانيين خارج العصب الطائفي والحزبي. فنزلوا وهتفوا ضد حاكمه رياض سلامة، وضد زعمائهم الطائفيين، في مناطقهم، وبالإسم.

كان هناك شيء شديد الصدق في تعبير الناس عن وجع حقيقي وعميق لم يعد ممكناً احتماله. هكذا، كانت الهتافات غاضبة وعفوية: سيل من الشتائم والسباب المقذع. كما لو كان ذلك السباب حفلة جماعية للتطهر من ولاءات الماضي الخادعة، أو نوع من بطاقة حسن نوايا يقدمها المتظاهرون لبعضهم، لإخوتهم في القهر المعيشي.

السياسيون في حالة إنكار

وفي البداية بدا وكأن الطبقة الحاكمة لم تفهم أن هذه الانتفاضة لم تكن بسبب الواتسآب، ولا بسبب بضع ليرات زادت على سعر علب السجائر التي يدخنوها بشراهة، ولا حتى على البنزين، بقدر ما كانت تراكما لعقود من خيبات الأمل. يقول احد الشبان المتظاهرين ل «أوريانت ٢١»: «هم يظنون أننا نحتج على الواتساب والدخان؟ ولا حتى على الرغيف. نحن لن نقبل بعد اليوم أن تحكمنا هذه الطبقة الطفيلية التي افقرتنا ووضعتنا تحت نير دين عام وبنك دولي وتنوي أن تواصل الاستدانة من «سيدر» وغيرها». يتدخل شاب آخر «من رئيس الجمهوية وبالنازل ما بدنا حدا منهم. خلص. يرحلوا». أما الفتاة التي جاءت من منطقة نائية من عكار فقالت «أنا خريجة ادارة اعمال، مجبرة كغالبية جيلي ان نشتغل بأشغال لا علاقة لها باختصاصنا، هذا إن وجدنا عملا. نعمل اكثر من عشر ساعات بدون حقوق، إنهم يذلونا. لا أريد أن أهاجر اريد وطني لبنان»، ثم تضيف ودموع غاضبة تلتمع في عينيها «بدلا من تدريسنا تاريخ الحرب العالمية، فليدرسونا عن الحرب الأهلية التي تسببوا بها وشاركوا فيها، ثم توجوا أنفسهم علينا. لا نريد ان يستقيلوا فقط، نريد ان نستعيد ما نهبوه».

من يمنع الإصلاحات؟

الا أن الناس في واد والطبقة السياسية في واد آخر. هكذا، خرج وزير الاتصالات محمد شقير في اليوم التالي ليعلن أنه وبناء على اقتراح رئيس الحكومة فقد قرر سحب «اقتراح» الرسم على خدمة الواتساب المجانية. لكن، المتظاهرين الذين سمعوا الخبر ، ردوا في الساحات بسباب مقذع بحق الوزير الذي يمتلك سلسلة محلات شوكولا، قام بعضهم، في مدينة طرابلس شمال البلاد، بتكسيرها ونهب محتوياتها و.. توزيعها على المتظاهرين الفقراء.

كما وثقوا تلك «الغزوة» على الواتسآب ونشروها على شبكات التواصل، مع «تاغ» للوزير الذي اشتهر ببلادة حسه الاجتماعي وقلة كفاءته فضلا عن فساده، في تحد واضح من قبل من لم يعودوا يملكون اي شيء.

سرعان ما خرج بعده رئيس الحكومة شخصيا ليتبرأ من الأزمة آولاً، وملمحاً، ثانياً، الى أن «شركاء في الحكومة» يعيقون إقرار اصلاحات مؤتمر «سيدر» التي من المفترض أن تؤمن١١ مليار دولار كقروض، ستضاف لا شك الى العبء الذي يثقل كاهل اللبنانيين!

ثم أمهل الحريري اولئك الشركاء (إقرأ تيار الرئيس ميشال عون وتحالف أمل/حزب الله) ٧٢ ساعة ليقروا ورقة الإصلاحات تلك وإلا، مهددا ضمنيا بالاستقالة.

ثم كانت مداخلة للرئيس ميشال عون بعد تظاهرة حاشدة أمام قصر بعبدا الرئاسي، محاولاً تهدئة خواطر المتظاهرين دون جدوى، فأفعال وزير خارجيته جبران باسيل، المكروه شعبياً، لعنصريته وفساده، والذي يتحضر لوراثة الرئاسة عن عمه والد زوجته، كانت أكبر من اي تطييب خاطر.

قاعدة حزب الله تشارك في الحراك

تلت مداخلة رئيس الجمهورية، عدة ظهورات تلفزيونية لزعماء مشاركين في الحكومة كوليد جنبلاط، الذي حاول التماهي مع الشارع وكأنه ليس جزءا أساسيا من الفساد المستشري منذ الحرب الأهلية التي كان أحد أمرائها، ومن رموز النظام الطائفي، ما أوضح، بما لا يقبل الشك للرأي العام، أن الطبقة السياسية في حالة إنكار تام.

ولم يفلح ظهور الأمين العام لحزب الله في مداخلة تلفزيونية كانت مبرمجة مسبقاً لمناسبة دينية، في التحكم بشارعه، للمرة الأولى. فقد شارك هذا الشارع في التظاهرات بقوة. خاصة في الجنوب، معقل تحالفه مع نبيه بري رئيس حركة أمل والمجلس النيابي منذ ٢٧ عاماً، وممثل «حصة» الشيعة الرسمي في السلطة!. فقد أخذ عليه محازبوه مشاركته حكومة فاسدة، وتأخر نوابه في فضح هذا الفساد على الرغم من جهرهم بامتلاك وثائق تثبت تورط العديد من أهل الحكم في قضايا نهب اموال عامة وإثراء غير مشروع.

وبالفعل،كان متوقعاً لهذا التحالف مع حركة أمل، والذي كان الهدف منه حماية مشروعية سلاح المقاومة بجهة رسمية، أن يحرج الحزب يوماً ما نظراً للفساد المستشري في هذه الحركة. إلا ان أولويات نصرالله بداية، كانت التركيز علي نشاط المقاومة نفسه ضد العدو الاسرائيلي، مع تعاطٍ ضئيل في الأمور الحكومية، تاركاً الامور في يد حليفه. لكن الأمر تغير مع تشكيل الحكومة الأخيرة السنة الماضية. هكذا، خرج نصرالله ليعلن عن نية حزبه محاربة الفساد، وايجاد دولة لا تتكل على الاقتصاد الريعي والمضاربات المالية بل على الاقتصاد المنتج.

كان ذلك تحولا كبيرا. وبالفعل بدأ نوابه ووزرائه بالتدقيق وفضح التلاعب بارقام الميزانيات منذ العام ١٩٩٢، حيث اتهموا رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة باختلاس ١١ مليار من ميزانيات الدولة خلال توليه المسؤولية، الأمر الذي اعتبره مفتي السنّة، المذهب الذي ينتمي إليه السنيورة، خطاً أحمر وعطل ملاحقته في بلاد ذات حساسيات طائفية.

نبيه بري، الثابت في كرسيه

لكن ماذا قال نصرالله في مداخلته؟ أهم ما قاله إن «الوضع الاقتصادي والمالي ليس وليد العهد الجديد بل نتيجة تراكم عشرات السنين». لكنه رأى أن إسقاط الحكومة «غير مناسب في هذا التوقيت لأن أي حكومة جديدة ستأتي من التشكيلة نفسها» مشدداً على أن العهد. اي حليفه رئيس الجمهورية، لن يسقط.

أما الصامت الاكبر، فقد كان رئيس مجلس النواب نبيه بري، الثابت في كرسيه1 والذي طال السباب في الشوارع زوجته، التي يتهمها الناس بمشاركة فعالة في الفساد والسمسرات والإثراء غير المشروع. الا أن اتباعه عوضوا هذا الصمت.. بضرب المتظاهرين والاعتداء عليهم بعنف وعلانية، إن كان في معقله الرئيسي جنوباً في صور، وبنت جبيل والنبطية، أو في بيروت حيث التظاهرة المركزية، بواسطة … حرس مجلس النواب الذي يرأسه! هكذا رشق هؤلاء، مع قوات مكافحة الشغب، المتظاهرين بقنابل مسيلة للدموع واعتقلوا اكثر من ٧٠ شخصا في الليلة الأولى، ضربوا قبل إطلاق سراحهم الأحد الماضي. الإ أن كل ذلك لم يمنع المتظاهرين لا من التجمع ولا من التظاهر، ولا حتى من السخرية ممن يرموهم بقنابل تبين أنها منتهية الصلاحية قائلين: «فرقونا على الاقل بقنبلة صالحة للاستعمال وليست مثلكم منتهية الصلاحية»!.

«كلن يعني كلن»

وقد حاول العديد من النواب والنواب السابقين المشاركة في التظاهرات، لكن تم طردهم وشتمهم ورشقوا بقناني المياه. هكذا طرد نائب كتائبي نزل للمشاركة في بيروت من قبل المعتصمين، كما طرد نائب سابق في طرابلس، الا ان حراس الأخير أطلقوا النار على المتظاهرين، فقتل شخص وجرح ٧ اشخاص، ما دفع بعض المتظاهرين الى الانتقام من النائب بتحطيم مكتبه، وشركة نقل تابعة له.

وفي الحقيقة أن طرابلس، التي وصل الفقر والبطالة فيها، كما الغنى، الى مستويات غير مسبوقة2 ، كانت قد أعطت إنذارا شديد التعبير طبقياً، قبل بدء الاحتجاجات في العاصمة بأسبوعين تقريباً. فقد حاصر متظاهرون فقراء منزل رئيس الحكومة السابق الملياردير نجيب ميقاتي ليلا، بتظاهرة سلمية، ودعوه عبر مكبرات الصوت لأن يستثمر ثروته الهائلة في المدينة - وهو ما لا يفعله- أو يرحل عنها.

كما ترددت اشاعات في اليومين الماضيين أنه يستعد لمغادرة لبنان، تماما مثل رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، المتهم بالإثراء غير المشروع، ما جعل الحراك يرفع شعارات تطالب بمنعهم من السفر، ومحاسبتهم واستعادة الأموال المنهوبة منهم والتي تكفي لتسديد الدين العام الضخم للبلاد. لا بل أن البعض لم يتردد في الدعوة إلى إلقاء القبض على كل ناهبي الأموال العامة، وحبسهم في فندق على طريقة «الريتز كارلتون»3

وحتى كتابة هذه السطور لم تتوقف محاولات الحكومة لفض التظاهرة التي حشدت عشرات الآلاف او ربما أكثر في بيروت وحدها، وجموعاً مماثلة في مختلف المناطق على الخارطة اللبنانية. هكذا أعلن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وهو الآخر من رموز الحرب الأهلية، عن سحب وزرائه من الحكومة الحالية، الأمر الذي لم يهز شعرة في رأس أي متظاهر. أما أهم تلك المحاولات، فقد كان البيان الذي أصدره وزير المال علي حسن خليل ليل السبت، إثر اجتماعه مع رئيس الحكومة، والذي قال فيه إنه اتفق مع رئيس الحكومة على «انجاز الموازنة بدون أي ضريبة أو رسم جديد وإلغاء كل المشاريع المقدمة بهذا الخصوص من أي طرف وإقرار خطوات إصلاحية جدية مع مساهمة من القطاع المصرفي وغيره بما لا يطال الناس بأي شكل ولا يحملهم أي ضريبة مهما كانت صغيرة».

الا أن هذا «التنازل الكبير» من قبل السلطة، لم يلق الا أذنا طرشاء من قبل المواطنين، الذين واصلوا التظاهر اليوم معلنين أنهم غير مهتمين بنهاية المهلة التي حددها رئىس الحكومة لإيجاد حلول ترضيهم، وانهم سيواصلون احتلال الشوارع حتى إسقاط هذه الحكومة، وإجراء انتخابات وفق قانون انتخاب جديد خارج القيد الطائفي، كما نص اتفاق الطائف. طبعاً، هذا يعني أنهم يريدون إسقاط النظام. وهي معركة وجود، يعلمون أنها لن تكون سهلة بتاتاً، ومع ذلك يبدو أنهم مصممون على خوضها، تماما كما يبدو أن أهل النظام مصممين على إطالة حياته ولو على حساب حياة شعب، بات أكثر من ربعه، يعيش بصعوبة تحت خط الفقر.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • في وداع طلال سلمان: "سفير" لبنان والوطن العربي

      في وداع طلال سلمان: "سفير" لبنان والوطن العربي

      توفي مؤسس وصاحب جريدة "السفير" اليسارية القومية طلال سلمان في 25 أغسطس/آب 2023. في هذه الشهادة التي يختلط فيها الشخصي بالمهني، تسترجع ضحى شمس التي عملت سابقًا في "السفير"، مسيرة "الأستاذ" الذي أراد أن تكون القضية الفلسطينية وفكرة الوطن العربي في قلب مشروعه.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬