إن الحديث عن الاحتجاجات المتواصلة في العراق، سيكون منقوصاً، إذ يتعذر الحديث عنها بصورة شاملة عن كل ما حدث أو سيحدث، فهذه مهمة صعبة وشاقة أصلاً. لكن هذه الاحتجاجات أفرزت الكثير حتى هذه اللحظة، وستفرز الكثير من الظواهر، الاجتماعية والثقافية والسياسية، خلال الأيام القادمة. النظام السياسي القائم والحاكم في العراق وصل إلى مرحلة الانسداد التام والمطبق، بمعنى أنه فقد القدرة على تلبية احتياجات الناس أوالرد على مطالباتهم. غرق في مستنقع الفساد ولم يعد له منفذ سوى القمع والقتل لإثبات وجوده.
قبل أيام معدودات كتبت هنا عن جيل «البوبجي» الذي شاع في العراق وتحول إلى ظاهرة سياسية واجتماعية تنتهك سلطة المجتمع التقليدية وثقافة لم تتعود على المخاطرة والانزلاق في متغيرات عالم اليوم. واليوم، سأتحدث عن مكون من مكونات هذا الجيل، الجيل الذي وجد نفسه خارج أسوار المدرسة نتيجة الفقر واليتم وتخلف النظام التعليمي وانحيازه الطبقي الواضح. وكذلك ابتعاده عن العلم وقواعد التربية الرسمية. الجيل الذي لفظته الدولة والمؤسسات الرسمية والقوانين السائدة وهيمنة أحزاب الإسلام السياسي التي تنتظر منه أن يكون شهيداً ومجاهداً، مع أنها القوى التي قادت والده إلى حافة القبر وكتبت على شاهدة قبره: الشهيد السعيد!
سأكتب عن الملحمة البطولية التي خاضها سواق التكتك، هؤلاء الذين تحولوا، وفي لحظة تاريخية آنية وحاسمة من تاريخ العراق إلى أبطال سيذكرهم التاريخ وسيتركون أثرهم في كل السرديات التي تكتب عن احتجاجات تطالب بالحقوق والحرية والكرامة. لم يذكرهم أحد سابقاً سوى أنهم يسببون الازدحام والضجيج ونثر معاكسات على النسوة في شوارع بغداد والمدن التي تنتشر فيها ظاهرة التكتك. ما بين ساحة التحرير وكل الشوارع المحيطة بها كان الميدان لهؤلاء الذين لم ينصفهم المجتمع، بل كان قاسياً عليهم في أحكامه وتصنيفاته وتجريمه، لكنهم، تحولوا إلى أيقونة الاحتجاج الذي يتواصل في العراق.
تكفيك مشاهدة ما يفعله هؤلاء الفتية في ساحات الاحتجاج: الإسعافات السريعة المبهرة، نقل الجرحى بفعل الرصاص الحي أوالقنابل المسيلة للدموع التي تصيب رأس المتظاهر حد الموت فتزهق روحه بدل تعطيله عن الاحتجاج وكأنها تقول له: اخرس إلى الأبد!! برعوا وحتى هذه اللحظة في نقل الإمدادات الغذائية والماء والمشروبات الغازية التي تساعد على التخلص من تأثيرات الغازات المسيلة للدموع التي ثبت أنها فاقدة للصلاحية!
القسم الأكبرمن سواق التكتك لم يحصل على التعليم الذي يؤهله للعمل في مؤسسات الدولة، ولا في أبسط مشاريع القطاع الخاص، فتحول الجميع إلى مشروع بطالة، وجثث قابلة للاحتراق في مشاريع الجهاد والموت في حروب وصراعات الطائفة القادمة، على الرغم من أن أكبرهم لم يبلغ من العمر سوى سن المراهقةّ!
القسم الأعظم من هؤلاء، ومع أنهم يصنفون ضمن البروليتريا، دون علمهم، لم يقرأوا ماركس، ولم يقرأوغيره أصلاً، حتى يدركوا معنى الصراع الطبقي. لم يقرأوا ماركس حتى يدلهم على الفرق بين الظلم وبين العدالة، وما بين الحق وبين العبودية، وقائع كهذه ليست بحاجة إلى تنظيرات ماركس وتمثلات صراع الطبقات حتى تُفهم. الشعور بالظلم والإجحاف والامتهان الذي وصل حده في العراق، تجسيد صريح لمعنى الصراع الطبقي حتى لو غلف بألف علبة مزيفة. والجميع يتحدثون عن النظام الفاسد والظلم والفقرالذي ينخر المجتمع ويفرز المآسي المتلاحقة، لكن الجميع يهرب من تسمية ما يحدث أو توصيفه: صراع طبقي!.
سواق التكتك الذين يسطرون أروع ملحمة بطولية، لم يأتوا من فراغ. بل هم عصارة الفقر والظلم في مجتمع مضطرب وموبوء بالحروب والصراعات والموت المجاني. كلهم من قاع المجتمعات وهامشها الموبوء بالفقر والبطالة، وكلهم في أعمار صغيرة، وفي سن المراهقة لكنهم تحولوا إلى أصحاب عوائل! موت الاب وفقدان المعيل، يدفعهم لترك كل شيء والتفرغ للعمل والبحث عن مصدر رزق يسد رمق العائلة في دولة تعوم على بحيرات هائلة من النفط. لا علاقة لهم بتمايزات اجتماعية وطبقية بين الغني وبين الفقير، أو بين المُضطهِد وبين المُضطًهد، لأنهم لايدركون أبعادها الاجتماعية بحكم أعمارهم. لكنهم، جميعا في صف البروليتاريا التي يتم استغلالها وفق النظام السائد، ويتم تكبيلها بقيود الاستعباد والقهر، الديني والقومي، حتى يتم استنزاف قدراتها ووجودها وتحويلها إلى طبقة مُستعبدة وغير قادرة على طرح سؤال وحيد: لماذا؟
سواق التكتك لم يقرأوا ماركس، إلا انهم بروليتاريا صريحة تتعرض للظلم الطبقي في عراق اليوم، وبممارساتهم البطولية يزيحون الغلاف عن محتوى النظام القائم ورطانة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويتجرأون على طرح سؤال الظلم والاجحاف الطبقي على أشده في العراق، والتعبير عن احتجاهم بوضوح شديد!