علي عبد الرءوف: شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع
المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، ٢٠١٩
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
كانت ثورة 25 يناير حدثا فارقا وكانت مصدر فخر غير مسبوق لكل وطني مصري مخلص وكان ميدان التحرير قلبها النابض. من المهم في هذا السياق توضيح أن الحديث عن ميدان التحرير وعلاقته بالثورة المصرية كفراغ مادي احتوى جموع الثوار لم يتم تناوله في بعض ما كتب عن ثورة 25 يناير 2011 أو أن التناول كان محدودا ومقيدا بمحدودية الفترة الزمنية من الحدث الى النشر. فبمراجعة الأدبيات المنشورة حتى تاريخ نشر هذا الكتاب تأكدت الحاجة إلى جهد لإلقاء الضوء على فصولاً جديدة من قيمة ثورة 25 يناير وقيمة الفضاء العمراني الذي احتضنها. ففي معظم تلك الكتابات كان التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة يمثل المحور الفقري لتلك الكتابات. فعلى الرغم من تعدد الدراسات التي تناولت ميدان التحرير فان معظمها تعامل فقط مع الثمانية عشر يوما الاكثر اهمية في تاريخ مصر المعاصر. كما أن الإشكالية الكبرى لمعظم تلك المؤلفات أنها تمت على عجل شديد واعتمدت على تقديم قراءات صحفية مطابقة لما قدمته الجرائد اليومية، أكثر منها تحليلاً عميقًا واستشرافًا للثورة وأسبابها ومستقبلها. ولذا تبلورت فكرة الكتاب لتقديم قصة الميدان والشعب والمدينة منذ انطلاق الثورة وحتى اللحظة المعاصرة.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
في هذا الكتاب أركز على تحليل الثورة المصرية، وقلبها المكاني النابض ميدان التحرير من منظور المصري الوطني، المعماري العمراني المخطط/المصمم الذي وجد العديد من الإشارات والدلالات التي تستحق المراجعة والتحليل. والطرح المقدم أركز فيه بصورة خاصة على مستقبل الميدان كونه نموذجًا فريدًا للفضاء العام في مصر. في الفصل الأول المعنون "الميدان: الروح والفضاء العام" اأحلل لقيمة الأكبر للفضاء الحضري العام في سياق نسيج المدينة، وأوضّح علاقة هذا المكوِّن الجوهري بقيم الانتماء وحرية التعبير الجماعي وإثراء روح المجتمع. وينتهي بإبانة أن ميدان التحرير هو بالفعل ميدان عام (وظيفيًا وعمرانيًا)، مورس فيه نشاط مجتمعي محدَّد، لكن مع حدود قصوى من الفوضى والقمع؛ ما أدى بالضرورة إلى قيام ثورة 25 يناير، أي نضال شعب عبر الميدان. في الفصل الثاني "قصة الميدان والشعب"، أقدم مراجعة تاريخ هذا الميدان، ولا سيما تاريخه في التعبير النضالي، وتفسّر القيمة الرمزية التي جعلت ثوار 25 يناير يختارونه مسرحًا لبطولاتهم التاريخية غير المسبوقة، ويجعلونه محور اهتمام العالم في أطول ثمانية عشر يومًا (25 كانون الثاني/ يناير 2011 يوم انطلاق الثورة - 11 شباط/ فبراير 2011 يوم تنحّي حسني مبارك) في حياة الشعب المصري وأكثرها قيمة وأهمية. بناء على ذلك، حاولت أن أقدّم فهمًا لتاريخ البنية الفضائية والعمرانية لميدان التحرير، من خلال سياق القاهرة وبنيتها العمرانية وتحولاتها، ومن خلال تحليل السياق العمراني والمعماري للميدان، ثم صياغة مساهمة وإدراك أوسع في فهم التاريخ النضالي لفضاء ميدان التّحرير، حيث أقدّم تفسيرًا للعوامل التي حولت الميدان إلى الفضاء الأكثر استقطابًا واستقبالًا لمحاولات الشعب المصري في الثورة والاحتجاج والاعتراض.
في الفصل الثالث، "ثورة ميدان: الميلاد الجديد للفضاء العام"، وانطلاقًا من تسبّب صفحة على موقع فيسبوك في إطلاق شرارة ثورة 25 يناير في مصر، تجسّدت في الفضاءات الافتراضية وفي الشوارع على حدّ سواء، أنّ وسائل التواصل الاجتماعي كانت بمنزلة ساحة للتحرير، بل كانت تعمل أيضًا بوصفها ساحة تتنافس فيها القوى المختلفة على جذب عقول الشباب. أقدم هنا رؤى لفهم نوعية الكفاح الجديد المستمر بين الشعب والسلطة في العصر الرقمي، وفي المكان أو الفضاء العام. كما أحلل علاقة المجتمع بالفضاء العام، وأختبر دور التقنيات الرقمية وآليات التواصل الاجتماعي في توليد زخم جديد نحو إعادة امتلاك الفضاءات العامة في المدينة. أمّا الفصل الرابع، "البداية الجديدة للميدان: رؤى واستشراف"، فمثل مجالًا لمناقشة حالة ميدان التحرير الذهنية الجديدة التي أنتجتها ثورة 25 يناير، فضلًا عن مناقشة دور المجتمع المصري في رسم ملامح مستقبل هذ الميدان، ويبلور تحديات صوغ رؤية مستقبلية للميدان، ومنهجية تأكيد قيمته بوصفه رمزًا للحرية وميدانًا للشعب. وينتهي الفصل باختبار الموقف المحلي والإقليمي والعالمي للميدان، والطرح المعماري والعمراني لتشكيل مستقبله، خصوصًا من شباب المعماريين والعمرانيين الذين شارك بعضهم في الثورة فعلًا.
يختتم الكتاب بالفصل الخامس والأخير، "تحولات الصورة البصرية والذهنية لميدان التحرير من المقدَّس الى المدنَّس"، بالتعامل مع فرضية جوهرية قوامها أنّ التحوّل التدريجي، على مدار الأعوام الماضية، في الصورة الذهنية والبصرية والوجدانية لميدان التحرير من فراغ مقدَّس إلى فراغ مدنَّس، هو مشروع متعمَّد بهدف إهدار الطاقة الثورية وتشتيتها، وإجهاض دور الفضاء العام في مصر. كما يوضح أنّ تدمير القيمة المعنوية والرمزية، بل والمادية، لميدان التحرير، وبصورة تدريجية حتى اللحظة المعاصرة، جرى بأعلى درجات الإدراك من المجلس العسكري والنظام الحاكم، هذه الحالة الإدراكية التي استوعبت تمامًا أنّ إسقاط قيمة ميدان التحرير من الوعي الجمعي للشعب المصري، وما صاحب ذلك من تشويه كامل لصورته الذهنية واليوتوبية، هما الفعل الأقدر على سحق المدّ الثوري.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
أعتقد أن التحدي الاكبر في الكتابة عن ميدان التحرير هو التناقضات والقفزات التي حدثت في مواقف الكثير من المؤلفين والمفكرين بسبب الضغوط المباشرة والغير مباشرة التي وقعت عليهم والتي تجعلك كباحث منتبه الى رصد التحولات في القيم والمبادئ والادراك لنفس المفكر أو المؤلف أو الأكاديمي أو حتى الناشط. كما واجهت تحدي جوهري اضافي وهو ما هو مصير مؤلف يطرح هذه الافكار المعمارية والعمرانية ولكنها ايضا الثورية والنضالية ومعني بإثراء الوعي الجمعي في أهمية استعادة قيمة الفضاء العام؟
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
يقدّم الكتاب القصة الإنسانية المكانية العمرانية المعمارية لميدان التحرير، ويستشرف منها فهمًا جديدًا لمدينة القاهرة، وتفسيرًا مغايرًا لعلاقة المجتمع، أو الشعب المصري، بالميدان، ملقيًا الضوء على قدرة هذا الميدان المكانية في استيعاب الثوار، وتحوله من فضاء رسمي بارد إلى فضاء شعبي تملكه الجماعة الإنسانية. ومن ثم فان الكتاب في مجمله وطرحه يمثل أضافة جديدة في الادبيات المهتمة بفحص العلاقة بين المجتمعات الإنسانية وبين الصياغات البنائية والفضاءات العمرانية التي تستوعبها وتستوطنها. كما ان الكتاب يمثل بادرة غير مسبوقة لربط الابعاد السياسية والاجتماعية والثقافية مع التحليلات المعمارية والعمرانية والتخطيطية لسياق مدينة مهمة بقيمة مدينة القاهرة وأحد أهم فضاءاتها العمرانية وهو ميدان التحرير.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
دائما ما أحرص في كتاباتي باللغة العربية على ان يكون هدفي الأهم هو مخاطبة المجتمع وليس فقط من ينتمون الى مجال تخصصي من معماريين وعمرانيين. أيضا انا أشعر تماما بالفجوة المعرفية الناتجة عن قلة الالتزام من قبل الباحثين العرب في النشر باللغة العربية وخاصة في مجالات العمارة والعمران وأدبيات المدن. من جهة اخرى فان كل كتبي تنتمي للنقد العمراني المعماري الاجتماعي السياسي المركب ومتعدد الاوجه، ومن هنا فان مشروعي الفكري منصب على القاء الضوء على إعادة تفكيك علاقة الانسان بالمكان في السياق الشرق أوسطي. من هنا أجد كتابي الاخير عن ميدان التحرير مكملا للخط النقدي التحليلي الذي تبنيته في كتابي من مكة الى لاس فيجاس: اطروحات في العمارة والقداسة الصادر عام 2014 أو كتاب النقد المعماري ودوره في تطوير العمارة المعاصرة 2014، و كتاب مدن العرب في رواياتهم الصادر عام 2016، وكتاب مدونات معمارية عمرانية (2017)، وكتاب التنمية العمرانية المرتكزة على المعرفة في الشرق الاوسط (2018).
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
المجموعة المستهدفة في هذا الكتاب هي الانسان المصري والعربي الذي اهتزت قيمه بعمق وتشتت إدراكه وتحول من النقيض الى النقيض في علاقته بحدث الثورة وفضاء الميدان. كتابي يخاطب الانسان العربي ليعيد اليه الثقة في قيمة الثورة وطاقتها الايجابية التي تخلق حالة فريدة من الانتماء والولاء الذي يتجاوز الابعاد القبلية والعقيدية. أتمنى ان يكون الكتاب وسيلة لإحداث نوع من الاستفاقة والتنبيه واثراء الوعي بان نكون أكثر عمقا في تحليلنا وان ننتبه الى ان الصورة التي تتشكل امامنا وتدعمها الادوات الاعلامية والمؤسسات، قد تكون احيانا شديدة الزيف. هذا بالضبط ما حدث مع الميدان الذي كما كتبت في سرديتي تحول من مكان مقدس الى مكان مدنس بفعل اجهزة اعلامية وعقول قبلت تزييف وعي الامة لإجهاض طاقة الثورة.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
عندي مشروعان رئيسيان أعمل عليهما الآن؛ الاول، وهو كتاب العلاقة بين العمارة والعمران والسينما كما أبلور مشروعا للكتابة عن علاقة المدينة بالطفل وكيف تكون المدينة بعمارتها وعمرانها، وسيلة ولتحفيزه واستفزاز قدراته الفكرية والابداعية والادراكية.
***
" الحالة الذهنية الجديدة لميدان التحرير: أصبح ميدان التحرير رمزا لطاقة الشعوب الفريدة في الإصرار على الحرية وتقديم الحياة ثمنا لها كما فعل زهرة الشباب المصري خلال أيام الثورة العظيمة. فالثورة حدثا مولدا لطاقة ايجابية فريدة لا يماثلها إلا الطاقة التي يولدها الدين في عقول وقلوب المؤمنين، تلك الطاقة التي تشترك فيها الثورة مع الدين هي الأقدر على تغيير المجتمعات وتوجيه حركة التاريخ، كما يربط بين الثورة والدين في اشتراكهما في القدرة على توليد نوع من "النشوة الوجدانية" التي تتخطى الواقع والممكن وهو ما يفسر قدرة الصمود المذهلة، وتحقيق ما اتفق الكثيرين على استحالة حتى مجرد التفكير فيه كموضوع إسقاط النظام المصري. والاهم أن هذا التكثيف العاطفي يخلق روابط إنسانية وتلاحم اجتماعي عميق تحتضنه، في الثورات كما في الاحتفالات الدينية والطقوس الشعبية، الفضاءات والميادين والساحات العامة حيث إمكانية التعبير عن الشخصية الجماعية والإرادة الكلية. كما طرحنا سابقا هناك عدة دلائل على أن روح المكان في ميدان التحرير في الثمانية عشر يوما الأولى كانت أقرب إلى حالة المدينة الفاضلة خاصة أنها لم تشهد ملامح الانحطاط الأخلاقي الذي اتفق الكثيرين، وأهمهم جلال أمين على إنها أصبحت السمة الرئيسية لثقافة الجماعة في مصر، فلم تشهد تلك الأيام أي تحرش أو اغتصاب او سرقات كما ابتعدت كليا عن همجية ثقافة الزحام على الرغم من وجود الملايين بصورة يومية. كما تبارى الكتاب والمحللين في التعليق على مشهد تنظيف الميدان بداية من يوم 12 فبراير 2011. حيث اعتبر هذا المشهد الدليل الدامغ على موقف حضاري يؤكد قيمة الانسان المصري ونقاوة معدنه. والتعامل المستقبلي مع الميدان، الذي ولدت فيه أهم ثورات العالم العربي بل العالم كله قياسا بحجم النظام الديكتاتوري الذي أسقطته، يتطلب بالقطع ما يتجاوز المداخل التقليدية للتطوير المعماري والعمراني للفراغات العامة. بمعنى أخر لا يمكن أن نفسر اللامنطق والعفوي واللامتوقع بالمنطقي والمنتظم والمتوقع. ومن ثم فان النظريات العمرانية المعاصرة بكل أدواتها في تحليل وفهم الفضاءات العامة قد لا تنطبق أو لا يجوز فرض تطبيقها على الميدان. على سبيل المثال فقد استنكرت شخصيا في مداخلتي بندوات المجلس الاعلى للثقافة (لجنة العمارة)، وجهاز التنسيق الحضاري بعنوان ميدان التحرير المنعقدة في شهر ابريل 2011، فكرة تحويل الميدان الى متنزه حضري تبعا لنظريات التخطيط الغربية متسائلا عن مدى ملائمة مثل هذا التوجه للطبيعة الثورية الخاصة لميدان التحرير. حيث استخدم الكثير من المثقفين واساتذة العمارة والتخطيط نموذج حديقة "الهايد بارك" في مدينة لندن العاصمة البريطانية، كمستقبل لميدان التحرير منطلقين من فكرة حرية التحدث في الحديقة. والواقع ان هذا تصور أحادي الابعاد ليطبق على ميدان يمتد تاريخه العمراني والنضالي والثوري والانساني لقرون من تاريخ القاهرة. الأحرى أن نتفرغ لحالة ممتدة من التحليل والتفكر والتعلم من الميدان وما حدث به وله لتكوين رؤى أكثر مصداقية وملائمة وعدالة في التعامل ليس فقط مع التحرير بل قد تمتد لتشمل كل الفضاءات العامة في مدن مصر. إن التحولات المعاصرة في مصر ترتبط ارتباطا وثيقا بالرغبة المتصاعدة في المشاركة الجماعية المجتمعية في عملية اتخاذ القرارات في كل المجالات ورفض التهميش ومن ضمن هذه القرارات ما يخص العمارة والعمران والتخطيط. فبالقطع لا يوجد أسوأ من تهميش الإنسان المنتمي لوطن ما أو لمجتمع ما في اختياراته الخاصة بوجوده وجود عائلته وجماعته القريبة المتفاعلة معه. فعلى سبيل المثال فإن مشروعات التطوير العمراني وخاصة في المناطق العشوائية تحتاج إلى مراجعة كبيرة حتى تسمح لمشاركة حقيقية ومؤثرة للسكان المواطنين ولا تتحول إلى إجراءا شكليا لإرضاء الجهات المانحة التي تشترط مشاركة وتداخل كل الأطراف للموافقة على تمويل المشروعات. قيمة ميدان التحرير الحقيقية الآن في الطاقة البشرية الخلاقة التي تجاوزت قيمة المباني وتاريخ الميدان إلى قدرة الإنسان على إعادة صياغة المكان وتطويعه لأرادته ليقدم معطيات جديدة ويشير لتحولات غير مسبوقة فميدان التحرير هو مهد الثورة، ومن ثم فهو يستحق ان يكون مهد لحقبة حضارية مصرية جديدة تتجاوز الكثير من ثوابت وجمود الماضي. ان الشواهد تؤكد والقرائن ساطعة على إننا مقبلون على حقبة جديدة يتوارى فيها دور متخذ القرار الفوقي الديكتاتوري في شئون الحياة عامة وفي العمارة والعمران. لقد جاءت الثورة ضد القرارات الفوقية الأحادية التي يفرضها فرد واحد في غياب مؤسسات مجتمع مدني حقيقي وشراكة مجتمعية فاعلة. حقا إن الثورة المصرية هي فرصة وثورة لإعادة ترتيب ثقافة المجتمع وأولوياته، وسنبدأ حقبة جديدة لكل مواطن فيها رأي وتصور لعلاقته بالمكان سواء هذا المكان مسكن يضم أحلامه او مبنى عام أو فراغ جماعي مفتوح يرى فيه قوة مجتمعه وتماسكه وقدرته على التعبير والرفض والقبول بل والوجود."