الصومال، بلد كل الأطماع

[2013 أحد شوارع موقديشيو] [2013 أحد شوارع موقديشيو]

الصومال، بلد كل الأطماع

By : Brendon Novel بريندون نوفيل

[ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي]

بين قطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة. خلال دورة جامعة الدول العربية التي نددت بتدخل تركيا في سوريا، لم يتحفظ حيال هذا التنديد سوى قطر والصومال. أصبح الصومال، هذا الإقليم الموجود في قلب منطقة جيوستراتيجية، محل مغازلة من طرف قوى عديدة لها أطماع شتى في المنطقة. ومن بين هذه القوى تبرز قطر والإمارات العربية، وكذلك تركيا، في صراع نفوذ ذي عواقب وخيمة على هذه البلاد التي تنخرها الحرب وينعدم فيها الأمن منذ ما يقارب الثلاثة عقود.

في يوم 22 جويلية/ تموز 2019 نشرت جريدة النيويورك تايمز محتوى مكالمة هاتفية يعود تاريخها إلى 18 مايو بين سفير قطر بمقديشو ورجل الأعمال القطري خليفة كايد المهندي، في إشارة إلى هجوم إرهابي حصل مؤخرا ببوصاصو (البونتلاند ـ أرض البنط) أكد هذا الأخير أنه يعرف منفذيه: “أصدقاؤنا وراء العملية الأخيرة”. “أتركوهم يطردون الإماراتيين حتى لا يجددوا عقدهم، وسآتي به هنا، إلى الدوحة”.

العملية الإرهابية التي تم تنفيذها قبل ذلك بأسبوع تم تبنيها من طرف فرع الدولة الإسلامية بالصومال. ولم تكن الدعاية الإماراتية بحاجة إلى أكثر من هذا للتحرك كما تشهد على ذلك تعاليق وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، الذي اعتبر بأن هذه المكالمة تؤكد علاقات الدوحة بالإرهاب الدولي.

وقد وجهت السلطات المستقلة ذاتيا للبونتلاد اتهاما للدوحة التي لم تنكر صحة المكالمة، ولكنها أنكرت أي تورط لها ونأت بنفسها عن المهندي. وبعد أيام قليلة من ذلك قال وزير الخارجية الصومالي أحمد عيسى عوض، أنه راض عن هذه التفسيرات مستبعدا بالتالي إمكانية فتح تحقيق فدرالي في الموضوع.

صراع على النفوذ بين الدوحة وأبو ظبي

منذ وصوله إلى الحكم في فبراير/ شباط 2017، عمق الرئيس محمد عبد الحق محمد (فرماجو) من حدة المأزق الدستوري الذي يوجد فيه النظام السياسي الصومالي منذ 2012. وهو بالفعل يسعى إلى مركزة السلطة بمقديشو متجاهلا مطالب الإدارات الإقليمية الخمس التي تريد المحافظة على استقلالها الذاتي وتوسيعه. ولم يسبق أن كان انعدام ثقتهم في مقديشو بهذا القدر. وفضلا عن ذلك، يتطلع الصوماليلاند (إقليم أرض الصومال) إلى سيادة كاملة وقد أعلن استقلاله. هذه الوضعية، المتشابكة أصلا، تزداد تدهورا تحت تأثير القوى الأجنبية وفي مقدمتها الإمارات وقطر.

ولا يُعد الاتهام الموجه إلى الدوحة بدعم الإرهاب في الصومال سوى الحلقة الأخيرة من مسلسل طويل يضاعف فيه المتنافسون، الإماراتيون والقطريون، المبادرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في بلد يستعمل فيه كثير من الفاعلين المحليين القوى الخارجية لتوسيع سلطتهم، مما يبعد أكثر فأكثر آفاق السلم والاستقرار الدائمين. بعد أن أهمله جيرانه الخليجيون منذ 1991 بشكل واضح، صار الصومال محط اهتمام متجدد ناجم عن الآثار المتراكمة للاضطرابات الجيوسياسية الإقليمية “للربيع العربي” وخاصة للحرب في اليمن. ويضاف إلى ذلك، ولو بشكل ثانوي، سعي المملكات البترولية إلى التنوع الاقتصادي الذي يحثهم على زيادة استثماراتهم في الخارج.

وغالبا ما يتم تقديم هذا النشاط الخليجي في الصومال على أنه جديد، لكن ذلك لا ينطبق على قطر التي كانت ماكينتها الدبلوماسية فاعلة منذ وصول اتحاد المحاكم الإسلامية إلى السلطة في مقديشو لمدة قصيرة (بين يونيو/حزيران وديسمبر/ كانون الأول 2006). في ذلك الوقت كانت الدوحة ترأس اللجنة الخاصة بالصومال في مجلس الأمن بالأمم المتحدة. بعد أن باشر الأمير حمد بن خليفة آل ثاني حوارا مع اتحاد المحاكم الإسلامية واجتمع برئيسه الشيخ شريف أحمد في سبتمبر/ أيلول 2006، قام بعدة محاولات للصلح بين مختلف الفصائل غداة سقوط حكم اتحاد المحاكم الإسلامية. إلا أن كل هذه المحاولات منيت بالفشل. في وقت لاحق من سنة 2009، تم انتخاب الشيخ شريف على رأس الحكومة الفدرالية الانتقالية. وبعد أن دُفع من طرف الدوحة للتحاور مع أصحاب التيار المتشدد، انتهى به الأمر باتهام القطريين بدعم نشطاء الشباب المتطرفين ولكنه عاد واعترف بعد أشهر من ذلك بقدرتهم على أن يكونوا وسطاء.

ساعدت قطر بعد ذلك في انتخاب الرئيسين، حسن شيخ محمود في 2012 وفرماجو في 2017. وقد لعب فهد ياسين حاج طاهر، مراسل قناة الجزيرة السابق بالصومال ومسؤول حملة فرماجو، دور الوسيط بين الرئيسين والدوحة من حيث كان يأتي بمبالغ مالية هامة. وقد تم تعيينه في 2018 نائبا لرئيس مصالح المخابرات، وهو صهر سفير الصومال بقطر عبد الرزاق فارح علي التي رفضت الرياض مؤخرا اعتماده كسفير جديد لدى المملكة بسبب قربه من الدوحة. وهكذا اكتملت الحلقة.

رهان التحكم في الموانئ

المجال الذي تحتله كل من الدوحة وأنقرة في مقديشو (وقد طورت أنقرة هي الأخرى علاقات مميزة مع السلطة المركزية) دفع بأبو ظبي، شريكة الرياض في حرب اليمن منذ 2015 ، إلى الاستثمار بالصوماليلاند ومقاطعات الحكم الذاتي قصد التموقع في مجال جيوستراتيجي بالغ الأهمية. وقد دفع ذلك بالمقابل السلطات الصومالية إلى تعزيز علاقاتها بتركيا وقطر بشكل أكبر. انتزع الإماراتيون، الذين يتعاملون مع سلطات البونتلاند منذ 2010 في إطار تكوين قوات الشرطة المحلية، في أبريل/ نيسان 2017، حق تسيير ميناء بوصاصو. وكان من المنتظر أن تستثمر شركة P&O Ports (التي تم شراؤها من طرف الشركة العمومية موانئ دبي في سنة 2006 ) وفقا للاتفاق 336 مليون دولار. ولكن الإماراتيين اقتربوا أكثر من الصوماليلاند (أرض الصومال). فإذا كانت موانئ دبي قد تحصلت على امتياز تسيير ميناء مدينة بربرة، فإن أبو ظبي قد تحصلت على حق إنشاء قاعدة عسكرية بعد أشهر من ذلك فقط.

كما تتطلع هرجيسا (عاصمة الصوماليلاند) الموجودة خارج نفوذ مقديشو منذ 30 سنة إلى الاعتراف الدولي وتسعى إلى توسيع علاقاتها الدبلوماسية. وقد ساهم الإماراتيون في ثرائها بصفة كبيرة مما دعم على نحو أكبر التوجه الاستقلالي لإقليم أرض الصومال.

منذ وصول الرئيس الجديد إلى الحكم في 2017، ازداد التوتر مع أبو ظبي. وبالفعل فإن الشهية الجيوسياسية للإمارات تصطدم بشكل مباشر بفرماجو الذي يريد مركزة السلطة على حساب الأقاليم المستقلة ذاتيا. وهكذا قامت السلطات الصومالية في أبريل/ نيسان 2018 بحجز 9,6 مليون دولار بمطار مقديشو مصدرها أبو ظبي. حسب الإمارات كان هذا المبلغ مخصص للجيش الصومالي إلا أن الحكومة الفدرالية اعتبرت أن فيه احتيال، دون أن تعطي أي تفسيرات. ونتيجة ذلك أعلن وزير الدفاع الصومالي وضع حد للاتفاق العسكري الذي كان قد أبرم بين البلدين في 2014 قبل أن تقرر الإمارات رسميأ وقف برنامج التدريب في موقاديشيو، مع المحافظة على تعاونهم مع بلاد البنط. بعد ذلك بأيام، توجه رئيس بلاد البنط عبد الولي محمد علي غاز الى أبو ظبي لزيارة دامت أسبوعاً. فيما اعتبر صفعة جديدة لسلطة الحكومة الفدرالية. وجدير بالذكر أن فرماجو كان ينوي زيارة الإمارات في الصيف المنصرم. وهي الزيارة التي لم تتم في نهاية المطاف.

تبدو الحكومة الصومالية ميالة جدا إلى الدوحة حيث تم الإعلان في أوت/ أغسطس 2019 عن بناء ميناء جديد في مدينة هوبيا (في الإقليم الأوسط لغامدوغ) من طرف الشركة القطرية لإدارة الموانئ. وقد تم ذلك بعد زيارة الوزير القطري للشؤون الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني.

لم يتم الكشف عن مبلغ الاستثمار. ويهدف المشروع رسميا إلى تعزيز العلاقات الثنائية. ولكن قطر ليست أول بلد يوقع هذا النوع من الاتفاقات حيث أن مشاريع الموانئ تضاعفت في السنوات الأخيرة. فإذا كانت الإمارات قد وضعت يدها على موانئ بربرة وبوصاصو، فإن تركيا تتحكم في ميناء مقديشو والشركة الصينية للهندسة المدنية (الموجودة بقوة في منطقة البونتلاند) وقعت هي الأخرى اتفاقا في جوان/ يونيو 2019 مع السلطات المحلية قصد بناء ميناء بمدينة /أيل/ المطلة على المحيط الهندي.

وساطات وراءها مصالح

على عكس ما توحي به كل هذه المشاريع، من غير المحتمل أن تتحول الصومال إلى مركز موانئ هام في المستقبل القريب أو المتوسط. فبالرغم من الهالة الإعلامية المحيطة بها فلن ترى كثير من مشاريع الاستثمارات هذه النور على الأرجح. فالوضع الأمني غير المستقر (لا بد من التذكير باغتيال مدير شركة P&O Ports ببوصاصو في فبراير 2019) وغياب البنى التحتية وكذلك الأسواق الداخلية ومنافسة موانئ إقليمية أخرى كل ذلك يجعل من المستبعد تحقيقها. بعد “نجاح” الوساطة السعودية الإماراتية بين إثيوبيا وإريتريا في 2018، تبدو أبوظبي عازمة على لعب دور الوسيط في القرن الإفريقي لتخلف قطر في هذا الدور. ففي سنة 1999 قامت الدوحة بأول وساطة لها بين الخرطوم وأسمرا. وقد تمكنت الإمارة البترولية القطرية في 2010 من جعل إريتريا وجيبوتي توقعان على اتفاق لحل للنزاع، وقامت بنشر جنود في المنطقة المتنازع عليها من طرف البلدين. كما أدارت الدوحة أيضا محادثات بين 2008 و2016 بين الخرطوم وجماعات متمردة بدارفور. وعلى الرغم من أن القطريين أبدوا مؤخرا اهتماما بتهدئة النزاع بين مقديشو ونيروبي بخصوص رسم حدودهما البحرية، فإن دور الوسيط هذا قد تراجع بشكل ملحوظ لصالح أبو ظبي، خاصة بعد أزمة الخليج بين الدوحة وجيرانها والمستمرة منذ يونيو/حزيران 2017.

تهدف الإمارات إلى إقامة “سلام عربي” إقليمي. ويمكنها أن تبني على علاقاتها الجيدة مع الصوماليلاند والبونتلاند قصد الحد من التوترات الحدودية بينهما. ففي أفريل/ نيسان 2019 قام كل من موسى بيهي عبدي وسعيد عبد الله دني، رئيسا الإقليمين (أو الدولتين حسب وجهات النظر)، بزيارات متزامنة للإمارات حيث كان لقاؤهما ممكناً. ولكن هذه الوساطة ليست لها فرصا كبيرة للنجاح بسبب التنافس القديم القائم بينهما والذي تتم تغذيته بانتظام بخطاب عدائي يؤدي إلى اشتباكات بين قواتهما المسلحة من حين لآخر.

الثمن الأغلى

على الرغم من أن بلدان الخليج ليست مسؤولة عن الانقسامات بين مقديشو ومقاطعاتها الخمس المستقلة ذاتيا والصوماليلاند، فهي دون شك قد ساهمت في تفاقمها. وهكذا ففي الأشهر التي تلت بداية الحظر على قطر اتخذ كل من البونتلاند والغامدوغ والهيرشابيل ودولة الجنوب الغربي موقفا داعما لخصوم الدوحة وكانوا بذلك يتعارضون مع موقف مقديشو التي اختارت الحياد. وكانت ولاية /جوبا لاند/ الوحيدة التي لم تعرب عن موقف في الموضوع، وإن كان رئيسها أحمد محمد إسلام “مدوبي” معروف بقربه من الإمارات.

أحيت هذه الخصومة بين قطر وجيرانها الخليجيين مرة أخرى المشكل المستعصي لتقاسم السلطات بين العاصمة والولايات الفدرالية ولاسيما في مجال السياسة الخارجية. ويتجلى في مناطق أخرى من القرن الإفريقي (إريتريا، جيبوتي، إثيوبيا، كينيا والسودان) التنافس بين الخليجيين لكن الصومال هو من يدفع الثمن الأعلى دون شك. حيث يساهم هذا التنافس في زيادة استقلالية مغامرين سياسيين انتهازيين وعنيفين (مثل الشباب) وهامش تحركهم وهم أكثر المستفيدين من الانقسامات الداخلية. أما الصومال فهو الذي يدفع الثمن الأغلى.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬