العراق: الحريق يهدد الحكم والسلطة الدينية وإيران

[الأول من نوفمبر تشرين الثاني، اعتصام على ضوء شموع ترمز الى الضحايا الذين سقطوا في المظاهرات في كربلاء] [الأول من نوفمبر تشرين الثاني، اعتصام على ضوء شموع ترمز الى الضحايا الذين سقطوا في المظاهرات في كربلاء]

العراق: الحريق يهدد الحكم والسلطة الدينية وإيران

By : Safaa Khalaf صفاء خلف

فجأة، يعود الى ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، الحراك الثوري العفوي بعد أعوامٍ من هيمنة أتباع مقتدى الصدر وجماعة الشيوعيين المتحالفين معهم بحكم الانتهازية السياسية، وتشتيت الحراك الشعبي المناهض للحكومة والنظام على مدى العامين السابقين. في الأول من تشرين الاول/ اكتوبر، بدأ حراكٌ “مستقل” للمرة الاولى منذ نشأة العراق الحديث قبل نحو 100 عام، فاجأ المتصارعين على السلطة فَصَمتوا، ولاذ الصدر بعباءة الاعتكاف بوصفه ضيفاً على طهران حينها، بعد أن ظهر عند قدميّ المرشد الايراني وإلى جانب الجنرال قاسم سليماني، كمن يتوسل الرضا عقب أعوام من الإبحار بعيداً عن الشواطئ الإيرانية راسياً بـ“قلقٍ” على البرّ السعودي. تظاهرات تشرين الأول/ اكتوبر 2019، تجيء مع الذكرى الاولى لتحطيم وتكسير انتفاضة البصرة 2018 التي كادت ان تُسقط النظام وقتها، فتدخل الإيرانيون كالعادة، وباشروا القمع عبر جماعاتهم المسلحة، وتجيء أيضاً مع مرور (85) عاماً على إعلان العراق كـ“دولة مستقلة” عن الانتداب البريطاني من طرف “عصبة الامم” العام 1932.

اندلاع الحريق

مضى صيف 2019 هادئاً، فموجة الغضب الشعبية التي اجتاحت البلاد في 2018 بدت وكأنها ذكرى مخيفة للسلطة، بينما الشارع كان يترقب هبّة جديدة في ظل حكومة ضعيفة لعادل عبد المهدي، رجل الولاءات المتقلبة. جاءت احتجاجات تشرين الاول/ أكتوبر ببغداد غير متوقعة، مع انتهاء موسم الاحتجاج الصيفي الموسمي، ففي الخريف يبدأ الدخول الدراسي، ويتقلص الضغط على الطاقة. لكنها هذه المرة خالفت التوقعات بفتيل شرارة أطلقها قبل 100 يومٍ اعتصام حَمَلة الشهادات العليا أمام مقر رئيس الحكومة البديل خارج المنطقة الخضراء، الذي فُض بعنف غير مبرر واعتداء جسدي ولفظي على المعتصمات، واستخدام خراطيم المياه الحارة والغازات الخانقة صبيحة 26 ايلول/ سبتمبر.

في 27 من ايلول/ سبتمبر، بعد يومٍ واحد، أعلن مكتب عبد المهدي بوصفه “قائداً عاماً للقوات المسلحة بحكم المنصب” عن إعفاء “الفريق عبد الوهاب الساعدي” القائد في جهاز مكافحة الارهاب المدعوم أميركياً، من مهامه وإحالته الى دائرة عزل القادة وتجميدهم عبر التقاعد بوزارة الدفاع.

قرار عبد المهدي، وقمع اعتصام حَمَلة الشهادات العليا، حفّزَ نشطاء الدعوة الى التظاهر في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر بساحة التحرير. لم تُعر السلطات الدعوة كبير اهتمام، كما أن الشارع الذي اعتاد مثل هذه الدعوات على الفضاء الإلكتروني لم يكن متحمساً.

الذهنية الأمنية

العقل الأمني يعتبر أي دعوة للتظاهر “مؤامرة”. وحين وصل النشطاء على قلة عددهم وهم عشرات الى ساحة التحرير، حوصروا بقوات مدججة بمعدات القمع، لحظات حتى اشتبكوا، فبدأت حفلة القتل من ذاك المساء بالغازات والرصاص الحيّ والدهس بالعربات ومن ثم القنص. كانت يومها البصرة، معقل الاحتجاج الدائم مشحونة ومتوترة لكنها صامتة، لكن مدينة الناصرية المجاورة انتفضت، تبعتها مدن قريبة أخرى، والمفاجأة كانت النجف، المدينة المقدسة التي يجلس فيها مراجع الشيعة الأكبر وبينهم السيستاني في منازلهم كالآلهة التي تنتظر النذر من الأتباع. شهدت النجف احتجاجات واسعة وقمعت أيضاً بعنف.

خلال السنوات الأربع الماضية، غالباً ما كانت التظاهرات تندلع من البصرة جنوب العراق، لكنها اندلعت هذه المرة من العاصمة بغداد وبتوقيت غير متوقع، ومن جماعات غير تقليدية، دون قيادة أو صلة بتنظيمات سياسية. فالعادة جرت بأن يقوم “سماسرة التظاهر” بالدعوة الى ساحة الاحتجاج. وهذه المرة اختفى السمامرة أمام صدق الغضب.

مؤشرات انفجار الاوضاع في العراق، باتت تتراكم منذ ان انحسر شبح التهديد الأمني من “القاعدة” و“داعش” وجماعات مسلحة إرهابية وميليشيات إجرامية، وبات العراقيون بمواجهة مخاطر أكثر فتكاً بهم، كانهيار بُنية الخدمات العامة، ونقص الطاقة، وتراجع القيمة الشرائية والتضخم، وتنامي عجز الموازنة العامة مع تراجع الإيرادات، وفشل مبيعات النفط بتغطية الفاتورة الضخمة للمعاشات الشهرية مقابل حقل الفساد المتسع، والاقتصاد الموازي للأحزاب والجماعات المسلحة.

الموت هرباً من الموت

الفكرة الأعمق، والتي يَصعُب على السلطة فهمها، هي أن العراق بلد فتيّ، وتركيبته السكانية شبابية متحركة لا ثبات لها، فمع تضاؤل نسبة كبار السن، ترتفع نسبة الشباب من الفئة العمرية 15 الى 30 عاماً. هذه الفئة نحو 80% منها تعاني من البطالة والعوز وتعيش حياة مظلمة بلا أفق، وهو ما يُفسر تنامي ظاهرة الانتحار على نحو متسارع كما لم تشهده البلاد من قبل.

بلغت أعداد المنتحرين من الشباب خلال الأشهر التسع الاولى من 2019، وفقاً لـ“مفوضية حقوق الانسان” نحو 275 منتحراً. لكن السلطة قتلت في شهر الاحتجاجات أكثر من 300 شاباً. بالطبع فأن أعداد المنتحرين هذه لا تمثل إحصاءً حقيقياً، لجهة أن العائلات ومراكز الشرطة – بتوجيه من السلطة – لا تُدَوّن اغلب الوفيات على أنها “انتحار”، إما خشية “العار الاجتماعي” بالنسبة للعائلات، أو للتغطية على الفشل الحكومي بالنسبة للسلطة.

التركيبة النفسية للعراقيين لا تتقبل الانتحار، لكنها خيار مجيد لأولئك الذين يهربون من الموت البطيء في ظل سلطة فاسدة. معادلة يأس اجتماعي تسحق الأمل بكل طاقَتِها. [الموت هرباً من الموت] معادلة باتت الان أكثراً وضوحاً. وإذا ما فُحِصت الفيديوهات من احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر – المستعرة الآن في العراق – رغم القمع الإعلامي الموازي الذي تقوم به السلطة للتغطية على الجرائم، فان تلك الفيديوهات تُظهر إصرار الشباب على مواجهة الرصاص الحي بشجاعة مخيفة.

قسوة القمع الأمني أسفرت خلال الأسبوع الأول (من 1 الى 7 تشرين الاول/ اكتوبر) عن مقتل 100 شاب وجرح 4000 آلاف آخرين، بعض الجراحات تُسبّب إعاقة دائمة. عاد الاحتجاج على نحو أقوى في 25 من الشهر نفسه. حصيلة 30 يوماً من الاحتجاج بلغت نحو 370 قتيلاً وأكثر من 10 الآف جريح. فثمة مجازر ارتكبت بوحشية في ميسان وكربلاء وبغداد. في النصف الأول من شهر الاحتجاج، أغرقت السلطة البلاد في الظلام. قطعت الإنترنت، عطّلت الاتصالات، عزلت العراق عن العالم تماماً، ومع اشتداد موجة القتل لوقف الاحتجاج، هاجمت ميليشيات السلطة مدعومة بعناصر إيرانية القنوات الفضائية ومكاتبها وشركات البث المباشر، وأحرقت عدداً منها.

لكن إزاء الرهان السلطوي على القتل لوقف الاحتجاجات التي تكاد تُسقط النظام، يُعاند الشُبان آلة الموت الهمجية، ويقفزون الى الساحات والشوارع والميادين، سلميين وعُزّل، فيما القنّاصة المنتشرون على أسطح المباني يحصدون حيواتهم واحلامهم بلا رحمة.

الحل الأمني الدامي

والتساؤل الذي يطغى على أي تعاطفٍ حين مشاهدة فيديوهات القتل هو : ِلمَ لا يتراجع هولاء الشُبان ويعودون الى منازلهم، طالما أن السلطة تقتلهم بشراسة بتوظيف جماعات وميليشيات غير عراقية، وطالما أن الشُبان أيضاً انعدمت لديهم الثقة بأن النظام سيستجيب لمطالبهم برحيله او حتى اصلاح بُنيته الفاسدة. إنه اليأس المتجذّر عميقاً. فإما الانتحار كطريقة احتجاج فردية، أو الاحتجاج كطريقة انتحار جماعية أمام قوة القمع وشراسة القتل وتعبير عن رفض استمرار النظام وتمسكه بالسلطة.

مع اشتداد حُمى الاحتجاج واتساعها لتشمل مدناً أخرى كالناصرية، النجف، وكربلاء، والى جوارها بابل والديوانية والمثنى وميسان وواسط والبصرة، بات الرعب يُحرك السلطة بدلاً من احتواء الموقف بإجراءات عاجلة بتقديم حيتان الفساد الى المحاكمات، وإطلاق حملة لمكافحة الجريمة الحزبية المنظمة وتطهير مؤسسات الحكومة من مافيات النهب العام، وإنزال الجيش الى الشارع لمنع أية تحركات مضادة لميليشيات الاحزاب وفصائل ما يُسمى بـ“الحشد الشعبي” المرتبطة بايران.

لكن الاستجابة جاءت باردة ومنفصلة عن الواقع تماماً، باللجوء الى الحل الامني الدموي، وخطب استفزازية لرئيس الحكومة عادل عبد المهدي وإصراره على عدم الاستقالة، وخُطب مماثلة أخرى من مرجعية الشيعية في النجف، لا تقل استفزازاً وانفصالاً عن الواقع.

المرجعية لاتمثلني

طيلة 16 عاماً مضت، كانت مرجعية النجف تحظى بالاحترام الذي بات يتضاءل عاماً بعد آخر، وفئة عمرية بعد أخرى، فالأتباع المؤمنون بالسيستاني تم دفعهم الى الخلف من قبل جيل جديد فتّي للغاية لا ينظر الى العمامة السوداء بقداسة، بل يعتبر ان تلك العمائم هي القلب الصُلب للنظام وفساده. فأطلق الشُبان وسماً (#المرجعية_لاتمثلني).

رفض الشُبان لمرجعية النجف، جاء مُربكاً وبتوقيت حرج. فقبل اندلاع (انتفاضة تشرين) بأسبوعين، قتل ٣٣ شخصا وجرح المئات - على الأقل - بتدافع عند مدخل مرقد “الحسين” في كربلاء أثناء شعائر عاشوراء.

اعتبرت السلطات الحكومية والدينية “التدافع” حادثاً، لكن مشاركين في المراسم، زعموا أن خسفاً أرضياً عند منطقة مدخل المرقد (باب الرجاء) تسبب بالكارثة، وبغض النظر عن كون الحادث “تدافعاً” او “خسفاً”، الأهم ان الجريمة مرّت بلا مساءلة.

كارثة تمر دون محاسبة

تستثمر المرجعيات الدينية في النجف على نحو غامض وبعيداً عن أي جهاز مراقبة حكومي، أموالاً هائلة في مشروعات اقتصادية وعقارية داخل العراق وخارجه، مرتبطة بتوسيع النفوذ المالي لها وتعزيز قوتها السياسية والتسليحية – فهي تمتلك فرقتين عسكريتين على الاقل - تدّعي أنها من “أموال الخُمس” الذي يقدمه الشيعة فقراء وأثرياء كهبة سنوية للتأكيد على الولاء والإيمان وحيازة الشفاعة بعد الموت.

لكن هذه الأموال، تُستثمر عبر هيئات اقتصادية وشركات ومجموعات عائلية، يذهب قسط منها لتوسعة المنطقة المقدسة للمراقد بانشاءات تحت/ على الأرض على غرار التوسعة الإيرانية، وأكبر الشركات المستثمرة هي “مجموعة خاتم الانبياء” الذراع الاستثماري للحرس الثوري الايراني.

مرّت كارثة باب الرجاء دون عقاب، أفلتت الهيئات الدينية من المحاسبة. لم يُفتح تحقيق، ولم تتحمل أي جهة مسؤولية الجريمة، ولم تتجرأ “الدولة” أو الحكومة على المساءلة، وبررت مرجعية السيستاني الحادث بأن موت الزائرين كان “شوق المحبين الى شفيعهم”! عقب خطب عبد المهدي والسيستاني للتهدئة – رغم إشارات عدم فتح النار على المحتجين -، فُتحت بوابات الجحيم على الشُبان المنتفضين، وازدادت وتيرة القتل على نحو جنوني، بنشر القناصين واستخدام القنابل اليدوية وقصف بعض الأحياء السكنية الفقيرة كمدينة “الصدر” بقذائف “المورتر”. حينها تدخل مقتدى الصدر لحماية أنصاره، وهدد النظام أنه سيستخدم ميليشياته إن استمر القتل ضد المحتجين.

فقدان الأهلية بإدارة البلاد

شرعية النظام انتهت في العراق. فالاحتجاجات الغاضبة التي باتت كحدث يومي، تؤشر أن النظام بات يشارف على الهزيمة والسقوط. فمع هذا الدم العراقي المُسال، فقد النظام شرعيته. وثمة مؤشرات مماثلة: ففي الانتخابات التشريعية 2018، قاد الشُبان حملة لمقاطعة الانتخابات، لم يشارك بالاقتراع سوى 32% فقط من المقترعين بعموم العراق، رغم إعلان مفوضية الانتخابات أن النسبة كانت 48%، لكنها نسبة مضللة لجهة احتساب نسبة تصويت الخارج، كنسبة موازية لنسبة تصويت الداخل، بمعنى احتساب 800 ألف صوت (الخارج) قبالة 8 ملايين صوت (الداخل)، فارتفعت نسبة المشاركة. لذا فلقد فشل النظام بالحفاظ على شرعيته عبر الممارسة الديمقراطية أولاً. المُلفت، أن اعترافاً خجولاً بإن النظام فقد الشرعية تماما، جاء من رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، الذي اقرّ بأن “الحكومة فقدت الأهلية بإدارة البلاد”. هذا الاعتراف يُفضي الى قناعة أن المجموعة الحاكمة تعي الرفض الشعبي، وأن النظام لا يمكنه أبداً مقاومة الموت السلمي للناس ببنادق الوحشية. تلقف مقتدى الصدر دماء الموتى ليُحيي تصفية حساباته مع خصومه، وليعلن تخليه عن حكومة عبد المهدي ومطالبته برحيلها، بعد أن عاد فجأة من طهران الغاضبة التي اعتبرت الاحتجاجات فتنة اميركية – صهيونية وأعمال شغب يجب ان تتوقف.

الفساد المستوطن

يكافح النظام في العراق المحتجين ولا يحاسب نفسه. فالمحتجون يطالبون بتطهير النظام من الفساد، وإعادة هيبة “الدولة” المفقودة جرّاء هيمنة الفصائل المسلحة (الحشد الشعبي) المرتبطة بالقرار الإيراني، وتمثيلهم القوي داخل مجلس النواب والحكومة الاتحادية والإدارات المحلية، فضلاً عن الأحزاب والتيارات الدينية التي تتحكم بالوزارات وتهدر المال العام لمنافعها الذاتية. يقدر حجم هدر المال العام – الفساد – بنحو 1000 مليار دولار منذ العام 2003، وهو ما يفسر الثراء الفاحش للأحزاب وأذرعها الاقتصادية ورسوخها القوي، قبالة حالة الفقر العامة التي يعاني منها الناس في العراق.

يواجه العراق صعوبة في تسديد الفاتورة السنوية لتمويل مؤسساته الحكومية المتخمة بالبطالة المُقنّعة وتعيينات الخريجين الجدد - وفق تقاسمات سياسية - بغاية احتواء الغضب الشعبي على الفشل الحكومي والغرق بالفساد واستنزاف الموارد بشكل متصاعد. سنوياً يزداد عجز الموازنة العامة طردياً مع زيادة المديونية. توقع صندوق النقد الدولي (2018) أن ترتفع ديون العراق إلى 132.4 مليار دولار لتصل ذروتها العام 2020 مع 138 مليار دولار. والعام المقبل 2020 سيعجز العراق عن تحقيق أية مشاريع تنموية أو تحديث البنية التحتية مع ارتفاع فاتورة المعاشات الى 60 مليار دولار. بينما مبيعات النفط قد لا تصل الى 90 مليار دولار سنوياً. أما العجز سيصل الى 45 مليار دولار.

تواجه الحكومة معدل بطالة بنسبة 16 في المئة من حجم السكان المتزايد، فيما نسب الفقر مرتفعة: 22.5 في المئة على المستوى الوطني، وأما في المحافظات التي تأثرت بـ“داعش” فتصل إلى 41.2 في المئة، والعراق مصنف بين البلدان الأكثر فساداً محتلاً المرتبة 169 من أصل 180 بلداً بحسب منظمة الشفافية العالمية.

المشكلة تكمن بطريقة تفكير السلطة، التي تحاول شراء التهدئة برشوة الفقراء بوعود مجانية. الفقراء يعرفون تماماً أن النظام غير قادر على تحقيق وعوده في ظل الاستنزاف المستمر للثروة، والحصانة الرهيبة لحيتان الفساد بعدم ملاحقتهم او محاسبتهم. الإجراءات الحكومية فاشلة تماماً في مكافحة الفساد وتخضع لابتزاز الميليشيات النافذة. وكخطوة يائسة مضافة أعلن رئيس الحكومة الحالي عادل عبد المهدي عن تشكيل ما سماه بـ“المجلس الأعلى لمكافحة الفساد” قبل نحو عام، وحتى اللحظة لم يُقدم فاسد واحد الى المحاكمة.

في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2018 اغتال مسلحون أزهر الياسري، مدير عام ديوان الرقابة المالية، الذي تسنّم المنصب خلفاً للمدير السابق إحسان كريم الذي اغتيل ايضاً أمام منزله في تموز/ يوليو 2018. هذان الحادثان يؤشران فقط على قوة الفساد أمام هُزال الدولة العراقية.

تعزيز الشبكة زبائنية

تجدد الاحتجاجات في العراق، بالاتساع والعفوية هذه، يعبر عن رفض حقيقي لبقاء النظام والسلطة الحاكمة، بعد أن فشل بتجربة الحكم طيلة ١٦ عاما، هذا الفشل بات معقدا ومركبا نتيجة تعقيد بنية الفساد وتعدد رؤوس نهب الثروة العراقية وإفقار الناس.

غياب أية محاولات حقيقية للإصلاح وإصرار السلطة الحاكمة من أحزاب وتيارات وميليشيات على تسويف المطالب وإهمال البلاد وتوجيه الموارد نحو خدمة إيران ونظام الأسد في دمشق، إضافة إلى تعزيز موقعها كقوة غاشمة بالداخل، رسخ الاعتقاد أن السلطة لا تريد تغييرا حقيقيا، بل تحاول ترسيخ شبكة زبائنية الفساد داخل المجتمع.

هذه الانتفاضة تعبر عن يأس عميق من قدرة هذا النظام على التغيير، وتعبر عن رغبة الناس بالانتحار الجماعي عبر التظاهر أمام قسوة وهمجية القمع بالرصاص الحي كموقف شجاع للخلاص من واقع مزري.

ما يميز هذه الاحتجاجات أنها انطلقت من مجموعات شبابية واعية من خريجي الجامعات وحملة الشهادات العليا، انضم إليها أطياف شبابية من العاطلين عن العمل اليائسين. الناس باتت على قناعة أن النظام لا يمكن إصلاحه، والجيل الجديد لا يمكنه أن يصدق شعارات الإصلاح وهو يشاهد فساد السلطة وأحزابها، لذا الوعود الجديدة، ستكون هي المحرقة التي ألقى النظام بنفسه فيها، وتوفر بالتالي العبور الى الجمهورية الجديدة.

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬