[ترجمة: أسامة إسبر]
في سنة 1989 صادقَ نوّابُ آخر برلمانٍ لبناني مُنْتخبٍ على اتفاق الطائف (الذي سُمِّيَ رسمياً ”وثيقة المصالحة الوطنية“). وُقّعَ الاتفاق في مدينة الطائف السعودية، ومَكَّنتْ له وفرضَتْه إرادةٌ وحوافز سياسيةٌ واقتصادية دولية وإقليمية، وأبقاه عائماً إعياءُ الشعب الذي تحمّل 15 سنة من الحرب. ثم جرى إدراجه في الدستور اللبناني سنة 1990. وقد مرَّ اليوم ثلاثون عاماً على توقيعه في 22 تشرين الأول\أكتوبر سنة 1989، لكنه لم يُطبَّق حتى الآن بشكل كامل.
قتلت الفصائل المتحاربة للحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) نحو مائة وخمسين ألف شخص، معظمهم من المدنيين، وأقعدت عدداً أكبر من ذلك، وسببت مستويات هائلة من النزوح والهجرة. إذ هاجر ثلاثون بالمائة (حوالى 800,772 شخص) من سكان ما قبل الحرب الذين بلغ عددهم مليونين وخمسمائة وستة وسبعين ألفاً، ونزح في الداخل نحو ثلاثة وثلاثين بالمائة آخرين (تقريباً 850,080).
وقدرت مجموعات البحث المستقلة أن 4٪ من السكان، أي 103,40 آخرين جُرحوا، وأن حوالى 19,300 اختفوا قسراً أثناء الحرب الأهلية. وفي الحقيقة، ربما كان الدرس الأقوى لاتفاق الطائف هو أنه إذا طال أمد الحروب طويلاً بما يكفي، كل شيء يمكن أن يُساوم عليه أو تُعقد صفقة حوله مقابل نهاية بسيطة للحرب. وما يظن الأجانب أنه “دعم“ لاستقرار هذا النظام أو ذاك هو في الحقيقة رغبة بالأمان ولكن هذا غير قابل للتعميم، وفقط قلة من الأشخاص العاديين من أولئك الذين عاشوا ظروف الحرب الأهلية يستطيعون فهمه. إذ غالباً ما تبدأ الحروب بدوي طلقة مسدس أو قذيفة هاون وتنتهي بتذمر الناس الذين يعيشون في ظل هذا المسدس ومدفع الهاون.
رسّخ اتفاق الطائف، ولو أنه لم ينشئ، ما يمكن أن ندعوه زمنية المؤقت. وكمصطلح، تجذب الزمنية الانتباه إلى العمل الإيديولوجي والسياسي لكل من التجربة العاطفية للفترة والطرق الرسمية في تمرير الوقت. وفي كلٍّ من عامي 1926 و1989، العام الذي تم فيه تبني الدستور اللبناني لأول مرة، والعام الذي جرى فيه إدراج اتفاق الطائف جزئياً في ذلك الدستور، صُقلتْ الطائفية (الطائفية السياسية) كإطار مؤقت، ويجب أن تُفهم هذه الطبيعة ”المؤقتة“ المفترضة للطائفية السياسية، كما أقول في أبحاثي، بأنها تؤمن العمل الليبرالي والتعويضي والتربوي للدولة اللبنانية، وكذلك مستقبلها. باختصار، تعاود بفعالية إنتاج الزمن المستقبلي للدولة لأنها تبقي المواطنين معلقين داخل زمنية المؤقت، مدعومين بالخوف من ”طغيان الأغلبية“ إذا انتهت الطائفية السياسية قبل أن يتم النجاح في صناعة المواطنين الوطنيين من المواطنين الطائفيين. وبحسب هذا المنطق، لا تنتهي الطائفية السياسية إلا حين يتحرر المواطنون من الطائفية، لكن إنهاءها ”بشكل فوري“ مظلل بتهديدات للعلمانية والليبرالية والتزام لبنان بالتعددية. وكي أكون واضحة، إن تهديد الديمقراطية المباشرة موزع بشكل غير متساو على المسلمين، الذين يشكلون أغلبية ديموغرافية، وخاصة اللبنانيين الشيعة، الذين يُعتبر خطابهم الكلاسيكي والطائفي مديناً بشكل خاص لقادة دينيين وطائفيين بطركيين ومسيطراً عليه من قبلهم.
ينطوي هذا المنطق على تناقض جوهريّ، وهو أن سياسيين يدينون بمقاعدهم لنظام طائفي سياسي سيعملون بفعالية على تفكيكه وتفكيك الشبكات الاجتماعية والقانونية التي تسهّله ( ويجب أن يتم هذا مترافقاً مع تغيير أذهان وقلوب المواطنين أنفسهم). إن زمنية المؤقت هذه متأصلة في منطق الانتداب والاستعمار، بمعنى أن مجموعة من الناس يجب أن تُحْكم إلى أن تُجْعَل ”جاهزة ” للحرية والمساواة، وتُعْلَن كمواطنين في دولة مستقلة، ومواطنين في ديموقراطية ليبرالية مباشرة. ووُصف حكم الانتداب في الشرق الأوسط ووسيطه، الدولة الاستعمارية، هكذا بأنهما يقومان بمهمة تحضير. وورثت الدولة القومية المستقلة عمارة وإيديولوجية هذا المهمة التحضيرية من خلال زمنية المؤقت.
وفاقمت قراءةٌ ماكرة وتطبيقٌ جزئي لاتفاق الطائف هذا التناقض الجوهري بين (1) صقل الطائفية مؤسساتياً واقتصادياً وبيروقراطياً من أجل تبرير الطائفية السياسية ك“انعكاس“ سيء ولكن ضروري للواقع، و(2) توكيل الطائفية السياسية بمهمة إنهاء الطائفية، في النهاية. وترافقت الطائفية السياسية أيضاً مع الفساد وقطاع عام مصاب بالتضخم، ومع سياسيين يسيطرون على الأموال العامة والمدخل إلى خدمات الدولة، بما فيه التوظيف، ويعيدون توجيهها إلى شبكاتهم الطائفية. لا تتضايق معظم الديمقراطيات التوافقية من منطق المؤقت، فهي لا تعد بمستقبل غير توافقي. ما العمل الذي تقوم به زمنية هذا المؤقت في الحياة السياسية للبنان؟
نسيان العفو، نسيان العنف الجنسي
ما يتضمنه اتفاق الطائف وما لا يتضمنه مهم لأن صفقات السلام أدائية، فحين تكون ناجحة، تنتج غالباً وترعى سرديات تاريخية مهيمنة للحروب تصوغها حتى النهاية، وتقدم خريطة طريق لإصلاح سياسي مطلوب.
سهّل قانون العفو العام لسنة 1991 تطبيق اتفاق الطائف. فقد عفا الاتفاق عن ”كل الجرائم المرتكبة أثناء الحرب الأهلية من 1975 حتى 1990“. وعلى نحو محدد، عفا قانون العفو العام عن جميع الأفعال التي عُرِّفتْ كجرائم في قانون العقوبات اللبناني، وقانون العقوبات العسكري، وقانون الذخائر والمتفجرات. بهذه الطريقة، عفا قانون العفو عن انتهاكات كل من الأحزاب السياسية والقادة وقت الحرب وعفا عن جرائم الاغتصاب والقتل والتعذيب والاختفاء القسري التي ارتكبها الأفراد وأعضاء الميليشيات. لكنه لم يعْف عن جميع الجرائم، إذ لم يشمل العفو أشخاصاً مثل الذين زوّروا عملةً، أو تاجروا بالآثار مثلاً. عُفيَ عن منفذي الاغتيالات السياسية، لكن العفو لم يشمل جرائم ومجازر ارتُكبت ضد السكان المدنيين في وقت الحرب. يقول كثيرون إن قوانين العفو جوهرية لضمان إنهاء الحروب الأهلية وتمثل ”شراء“ سياسياً لحقبة ما بعد الحرب. لكن قوانين العفو الخاصة بالحرب الأهلية تصبح أكثر فعالية حين تُسن وتُمرر مترافقة مع لجان تقصي حقائق وسيرورات عامة في الإصلاح. وهي نادراً ما تكون شاملة هكذا.
كان للعفو الذي شمل، بشكل خاص، جميع جرائم العنف الجنسي أثناء الحرب الأهلية تأثيرات نادراً ما حُللت، هذا إذا اعتُرف بها، على مستوى السياسة أو التحليل السياسي. ولكن حين لا يُعْترف بالعنف الجنسي الذي يمارسه المتحاربون كشكل من أشكال العنف السياسي أثناء الحرب الأهلية، لا يتلقى الضحايا تقريباً أبداً خدمات اجتماعية أو طبية، أو حتى اعترافاً بسيطاً بمصابهم. وحين لا يتناول المصلحون والمحللون ما بعد الحرب العنف الجنسي بوضوح فهم يتواطأون بفعالية في إسكات العنف الجنسي وجعله طبيعياً في كلٍّ من الماضي والحاضر. يمكن ألا تكون هذه التواطآت مقصودة، لكنها دليل على هيمنة التحليل السياسي الذكوري في لبنان في الحرب وبعدها. وليس من غير المألوف إطلاقاً، مثلاً، أن تدرس المؤتمراتُ والمشاغلُ ومجموعاتُ السياسة الطائفيةَ والطائفيةَ السياسية بشكل شامل دون أن تأخذ في الحسبان الحقيقة البسيطة بأن المواطنين الطائفيين لا ينبتون كالفطر من الأرض، بل يُنتجهم نظام بيوسياسي (بيولوجي سياسي) يشدد على التناسل، والإرث البطركي، وقوننة الجنسانية بقانون أحوال شخصية ديني ومؤسسات دولة علمانية.
حين يُمنح العنف الجنسي عفواً شاملاً، تُختزل الحرب إلى سردية حول ما يفعله المسلحون لبعضهم بعضاً و\أو إلى سرديات غامضة حول مآسي حصلت للمدنيين أثناء الحرب. ويمكن أن يقول البعض إن الصمت المحيط بالعنف الجنسي أثناء وقت الحرب لا يحترم الضحايا والحساسيات الثقافية، لكن هذا الخط أصبح متعباً لأن البحث لم يدعمه أبداً. وإذا حدث أي شيء، صار عذراً لعدم التفكير حول الموضوع، أو إدخال العنف الجنسي في تواريخ أو تحليلات أو سياسات موجهة إلى الحروب الأهلية وحقب ما بعد الحرب في المنطقة. وتحتل المجازر وعمليات التهجير والتعجيز حيزاً أكبر في الخيال العام عن الحرب الأهلية اللبنانية أكثر من الاغتصاب والتحرش والهجوم أو الإكراه الجنسي، لكن هل يصدق أحد أنه كونك تعرضت للاغتصاب على حاجز لأنك امرأة أو فلسطينية هو شكل من العنف السياسي أخفّ من كونك ضُربت أو اختفيت على حاجز لأنك من الطائفة الخطأ أو لأنك لاجئ فلسطيني؟ هل يعتقد أحد أن الاغتصاب من قبل أفراد الميليشيا هو أذى أخف من الابتزاز الاقتصادي؟ لا يقدم هذا النسيان الإرادي التسويغ للعنف الجنسي أثناء وقت الحرب فحسب، بل يجعله حتمياً أيضاً.
صار كثير من قادة لبنان في وقت الحرب قادة سياسيين بعد الحرب كنتيجة مباشرة لقانون العفو، وبقوا هم (أو أقرباؤهم) هكذا. وكان هؤلاء هم الرجال الذين أُوكلت إليهم مهمات تطبيق اتفاق الطائف، ولهذا ربما لم يكن من المستغرب أنه لم يُطرح أي برنامج للأم الجراح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للحرب. ولم تحدث مصالحة رسمية، ولم تُشكَّل لجان تقصي حقائق، أو تُعقد ندوات لتعويض المدنيين، ولم يحدث إصلاح تربوي شامل. وما تزال كتب التاريخ التي تُدرس في المدارس العامة، مثلاً، تنتهي في 1975. وبعيداً عن سن سلسلة قوانين وإنشاء برامج لإلغاء الطائفية السياسية كما ينص اتفاق الطائف، استثمر أمراء الحرب السياسيون اللبنانيون في الحفاظ على وفي توسيع رأس مال المحسوبيات والطائفية وشبكات نيوليبرالية سيطروا من خلالها على المدخل إلى الدولة. ربما يتعلق هذا جزئياً ببنية ”الديمقراطيات التوافقية“ نفسها، التي قال بعض الباحثين إنه من المحتمل أكثر أنها تقود إلى فساد وجمود سياسي.
حروب داخل الحروب: الاقتصاد، الفساد، والمساءلة
أشار عدد من الباحثين إلى الطرق التي كان فيها اتفاق الطائف، والتعديلات الدستورية المتعلقة به، اللحظة التكوينية للفساد المستشري وإعادة الهيكلة النيوليبرالية للبنان ما بعد الحرب. وكان هذا جزئياً ناجماً عن استنساخ الاتفاق لمأزق الحرب الأهلية، مانعاً أي مجموعة محلية من الهيمنة على العملية السياسية. وكان هذا ناجماً أيضاً عن حقيقة أن النظام السياسي الذي أعيدت هيكلته منح الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النوب سلطات متماثلة تقريباً. إن الجمود المؤسساتي الناتج لا يمكن أن يُنهى إلا إذا عُقدت الصفقات بين ”الرؤساء الثلاثة“ أو التحالفات الأوسع للسياسيين. وفي هذا السياق، بزغت سياسة المحاصصة، والتي تُعرف بتقاسم ”مغانم السلطة، والامتيازات والموارد“، إذا استخدمنا كلمات رينود ليندرز. فضلاً عن ذلك، إن عدم حدوث مساءلة للفساد السياسي يجب أن يُربط بغياب المساءلة على المشاركة في الحرب الأهلية. وفي النهاية ساعد اتفاق الطائف في تحول أمراء الحرب إلى رجال دولة. فالذين دمروا ونهبوا مؤسسات وموارد ما قبل الحرب وشكلوا كانتونات سياسية واقتصادية واجتماعية بديلة أوكلت لهم في حقبة ما بعد الحرب مهمة تقوية وتدعيم الوحدة الوطنية، ومؤسسات الدولة، والتنمية الاقتصادية. فضلاً عن ذلك، لم يعالج اتفاق الطائف، على غرار جميع صفقات السلام، الأسباب الاقتصادية للحرب الأهلية وتأثيراتها. إذا لم ينه اللامساواة السياسية التي وُجدت في لبنان قبل الحرب وتفاقمت أثناءها. كان فعلُ هذا يقتضي أيضاً معالجة الثروات الهائلة التي راكمتْها فصائل الحرب. بدلاً من ذلك، إن سلسلة الإصلاحات النيوليبرالية التي طبقتها حكومات ما بعد الحرب كحكومة رئيس الوزراء رفيق الحريري فاقمت فحسب اللامساواة في الثروة ودمرت أكثر الطبقة الوسطى وشجعت على ملاحقة السلطة من قبل أغلبية في البلاد. وزادت مضاربات الأراضي، وعقود الحكومة، ودورات التضخم من غنى شبكة من النخب بينما في الوقت نفسه خَصَتْ وأضعفت الطبقتين الوسطى والعمالية. ويجب أن يضيف المرء إلى هذه الدينامية الربح المفرط اللاعقلاني للنظام السوري، وللجيش والاستخبارات أثناء تلك العملية حتى عام 2005. وفي الأعوام الثلاثين التي تلت نهاية الحرب الأهلية، تواصلت ”الحرب الاقتصادية داخل الحرب“، كما عبّر رولف ترويللو Rolph Trouillot، واستعرت بعد توقيع اتفاق الطائف. ربما كان هذا غير مفاجئ في سياق نُص فيه على السوق الحرة والملكية الخاصة في الدستور، لكن لم يُنص على الحق بالوظيفة، والرفاه الاجتماعي، وتأمين السكن، أو حياة محترمة. وبحسب ليديا أسود Lydia Assouad تتركز الثروة في لبنان حالياً ” بشكل كبير في يد العشرة الأوائل ويسيطر 1٪ من السكان البالغين اللبنانيين تقريباً على 45٪ و70٪ من الثروة الشخصية الكلية على التعاقب. إن هذه المستويات هي جوهرياً أعلى مما هو الأمر في الصين وفرنسا وأعلى قليلاً مما هو في روسيا والولايات المتحدة في الفترة الأخيرة“. ويمتلك لبنان إحدى أعلى النسب من أصحاب البلايين بالنسبة لعدد السكان في العالم، وأعلى دين عام بالنسبة لنسب الناتج المحلي الإجمالي في العالم. وبينما يمتلك قطاع المصارف معظم هذا الدين، فإن السياسيين وحلفاءهم بشكل مباشر وغير مباشر يهيمنون على قطاع المصارف، مما يعني أن السلالات السياسية والاقتصادية تستفيد بشكل مباشر وتربح من الدين العام وخدمته المطولة تحت شروط تفضيلية. يجب ألا يفاجئنا بالتالي أن الذين حصلوا على العفو عن جريمة إصدار أمر أو تنفيذ المجازر وجرائم الحرب ، مثلاً، أخذوا هذا الإحساس بالاستحقاق والمناعة معهم إلى حكومات ما بعد الحرب. وفي 2019 أفشل هذا الإحساس بالاستحقاق المفاوضات على ميزانية تقشف حيث، كما قال سامي عطا الله:”رفض مجلس النواب مقترحات لفرض الضرائب على رواتب وفوائد ومعاشات تقاعد السياسيين الحاليين والسابقين وكذلك تعديلات لزيادة الأجور على السيارات المفيّمة وتراخيص حمل المسدسات المستخدمة من قبل حاشيتهم الأمنية“. ورُفضت بشكل مشابه أفكار لفرض ضريبة على الثروات أو ضريبة على المضاربات العقارية.
وصعّب قانون العفو المعالجة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحرب الأهلية. إن إسكات الحرب الأهلية فعال بقدر ما هو إيديولوجي. وفي بداية 2019 عوقب عضو في مجلس النواب لأنه أشار إلى حقيقة تاريخية بأن الرئيس المنتخب بشير الجميل وصل إلى السلطة من خلال تحالف في وقت الحرب مع دولة إسرائيل. قيل هذا رداً على حقيقة أخرى، هي أن الرئيس ميشيل عون تمكن من الوصول إلى السلطة من خلال تحالف مع حزب الله. واعتُبر التعليق على الرئيس السابق بشير الجميل ”غير مقبول“ من قبل ابن أخيه وابنه، وكلاهما عضو في البرلمان. وانتقد حزب الله بعنف البرلماني المذكور. وما كان غير مقبول لأعضاء مجلس النواب اللبناني وما اقتضى اعتذاراً رسمياً لم يكن تحالفاً من زمن الحرب مع إسرائيل، بل بالأحرى كان حديثاً عن ذلك التحالف في زمن الحرب.
المؤقت الأبدي
تعهد اتفاق الطائف أن“إلغاء الطائفية السياسية يجب أن يكون هدفاً وطنياً، ويجب أن يتم وفق خطة مرحلية“ وأنه ”لن تكون هناك شرعية دستورية لأية سلطة تناقض عهد الميثاق المشترك“. ووعدَ الاتفاق، والتعديلات الدستورية التي عكسها، بمستقبل سياسي لن يُنتخب فيه أعضاء البرلمان من قبل نظام انتخابي طائفي أو مناطقي. أولاً، كان يجب أن يُنتخب مجلس نواب جديد، وتجتمع حكومة جديدة، هذه المرة على مبدأ التمثيل المتساوي للمسلمين والمسيحيين، وإصلاح نظام فضّل سابقاً المسيحيين. إن هذا المجلس المُصحّح حديثاً، والموزّع بشكل متساو، وهذه الحكومة، سيعملان على إلغاء النظام الانتخابي الذي جلبهما إلى السلطة، الطائفية السياسية والتمثيل المناطقي. وحالما يحدث هذا، سيُشكل مجلس شيوخ بسلطة محدودة ” تُمثل فيه جميع الجماعات الدينية“. لا توجد كلمات مثل ”ماروني“ و“سني“ أو ”شيعي“ لا في اتفاق الطائف ولا في الدستور اللبناني. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، يفترض كثيرون أن نظام الترويكا، والذي بمقتضاه يجب أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً، شرط دستوري. بدلاً من ذلك، يحتوي الدستور فقط على كلمتيْ مسلم أو مسيحي أربع مرات في 24 صفحة، عثر على اثنتين منهما في النص الحالي للمادة 95، وهو تعديل لاتفاق الطائف:
إن مجلس النواب الذي يُنتخب على أساس المساواة بين المسلمين والمسيحيين سيتخد الإجراءات التي تلغي الطائفية السياسية بحسب خطة انتقالية. وستتشكل لجنة وطنية يرأسها رئيس الجمهورية، تتضمن، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، المفكرين السياسيين البارزين والشخصيات الاجتماعية. وستشمل مهمة هذه اللجنة دراسة واقتراح الوسائل لضمان إلغاء الطائفية، واقتراحها على مجلس النواب ومجلس الوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة الانتقالية. وفسّر السياسيون اللبنانيون المادة 95 من الدستور كتناقض ملائم: ماذا إذا أضر إلغاء الطائفية السياسية (في الحال) باتفاق العيش المشترك والسلمي؟ إن اتفاق الطائف لم يحدد أي إطار زمني لتطبيقه، وكذلك الدستور. بدلاً من ذلك، تبقى الوثيقتان مجمدتين في الزمن الحاضر ل“تعهد“ و“التزام“ بمستقبل غير طائفي مختلف دوماً وغير محدد. وفي الحقيقة، إن المطالبة بالتطبيق الفوري لصفقة سلام عمرها 30 سنة فُهم كتهديد لحقبة ما بعد الحرب، كما لو أن هناك افتراضاً أنه إذا نُظمت الانتخابات المباشرة غداً، فإن الناس سيظلون يصوتون بهوياتهم الطائفية سامحين لرعب الديموغرافيا بأن يحكم. إن تهديد الديمقراطية المباشرة والفورية موزع بشكل غير متساو على المواطنين المسلمين، الذين هم (وسيواصلون أن يكونوا) أغلبية ضخمة، ولأنه لا اتفاق الطائف ولا الدستور يتضمنان إطاراً زمنياً لإلغاء الطائفية السياسية، لا يوجد حكومة قائمة يمكن أن تخضع للمساءلة لعدم تحركها الحثيث نحو هذا الهدف.
فضلاً عن ذلك، بدلاً من تمرير سلسلة من القوانين الإجرائية العملية والفعالة وتشكيل اللجان لتطبيق الأجزاء المختلفة من اتفاق الطائف (ليس فقط إعادة التوزيع السياسي بدلاً من إنهاء الطائفية السياسية)، فقد جرى إدراجه في الدستور اللبناني ورفعه إلى مستوى الإيديولوجية الوطنية وجعل من المستحيل تعديله أكثر أو مجادلته دون إحداث أزمة دستورية. إن زمنية الطائف هي المؤقت إلى الأبد، مما يسمح بمأسسة حاضر طائفي من أجل تسهيل الانتقال إلى مستقبل مؤجل أبداً غير طائفي. إنها زمنية الزنزانة المُحتجزة، افتداء الحاضر بمستقبل يمكن ألا يصل أبداً وقلة منا يمكن بالفعل أن تشاهده. إنها زمنية التفاؤل الوحشي المدعومة بتهديد الحرب، يجب أن نتحمل الحاضر خدمة لمستقبل عظيم، لكن كل يوم يصل المستقبل، ويبدو شبيهاً جداً بالماضي. وقال لنا قادتنا السيساسيون باستمرار إن الشيء الوحيد الذي يؤجل الحرب الأهلية هو التمسك المتواصل باتفاق طائف محقق جزئياً وحاضره الذي بلا حدود.
سحر العيش المشترك
بُرر رهاب الأجانب والعنف وخطاب الكراهية، والطبقية والشعبوية اليمينية الموجهة ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان، لوقت طويل بمخاوف التجنيس والدعوات لحماية التركيبة السكانية الطائفية الهشة للبنان. وصُورت نسب ولادة وخصوبة اللاجئين السوريين، الذين معظمهم سنة، كتهديد للطائف ورؤيته ”للعيش المشترك“. وكان تحطيم الأرقام الطائفية أيضاً سبباً لماذا النساء اللبنانيات لا يمتلكن الحق بمنح المواطنة لأزواجهن وأولادهن. هكذا، تمت إعادة تعبئة انتهاك حقوق اللاجئين السوريين والنساء اللبنانيات كبضاعة عامة: في خدمة العيش المشترك، وفي خدمة اتفاق الطائف. وهنا يكمن تناقض آخر: إن العيش المشترك السلمي يتطلب استقراراً ينهي الخلاف السياسي، ويقتضي مجموعات مختلفة ترى العيش المشترك كإنجاز يجب أن يُراقب باستمرار ويُحسَّن ويُقاس ويُعالج ويُثار. وهذا لا يقتضي مثلاً الوجود السلمي للدولة اللبنانية مثلاً، بل يتطلب ويطبق ويقتضي نوعاً معيناً من العيش المشترك، شكلاً خاصاً من الاختلاف السياسي الذي يجب أن ”يتعايش“ (أو بصيغة أخرى)، يتطلب نوعاً طائفياً. ويمكن أن تُرى الطبيعة المهيمنة لروح الطائف من خلال كلٍّ من سلطته الرمزية والطرق المتناقضة التافهة التي يمكن أن تُعبأ بها السلطة الرمزية. مؤخراً، هيمن رئيس بلدية حدث، وهي ضاحية مدينية تابعة لبيروت، على عناوين الصحف حين جاهر علناً بسر معروف جيداً: إن شراء وبيع وتأجير العقارات كان ولا يزال تقنية للتقسيم الطائفي في لبنان بعد الحرب. إن بلدية الحدث، كأي بلدية من بلديات البلاد الكثيرة، تنتهج سياسة عدم التشجيع على تأجير أو بيع الشقق التي يملكها مسيحيون لمسلمين. (بالمصادفة، إن الحرم الجامعي الرئيسي لجامعة البلاد العامة الوحيدة، الجامعة اللبنانية، هو في الحدث. إن تأثير هذه السياسات على الكتلة الطلابية والتعليم العام لم يعالج بعد في المجال العام). وحين عرض المستأجرون المحتملون تجربتهم في أنهم رُفضوا ولم يتمكنوا من السكن في الحدث بسبب دينهم، دافع رئيس البلدية جورج عون علناً وبصوت مرتفع عن سياسة البلدية. واتهمت وزير الداخلية ريا الحسن رئيس البلدية بانتهاك اتفاق الطائف والدستور اللبناني، الذي يعد المواطنين اللبنانيين بالحق في أن يعيشوا في أي مكان في البلاد. بدوره قال رئيس البلدية إنه لن يغير أبداً السياسة وإنه في الحقيقة الفصل الطائفي و“الحماية“ الديموغرافية هما اللذان ضمنا ”العيش المشترك“، الكأس المقدسة لاتفاق الطائف. وُضعَ مبدآن دستوريان،كان كل منهما تعديلاً للطائف، ضد بعضهما بعضاً:
ط- أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين· فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين·
ي - لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
إذا كان الجدل حول استخدام العقارات كأداة لرسم الخطوط الحمر الطائفية في لبنان قد كشف أي شيء، فهو الطبيعة المهيمنة المبتذلة والمرنة والمتناقضة لاتفاق الطائف. ففي بلاد مكرسة للعيش المشترك بين الجماعات الطائفية، يجب على المرء أن يمتلك ويحافظ على ويدعم جماعات طائفية معرّفة جيداً، وهذه عملية يكون فيها نظام الأحوال الشخصية محورياً. وحتى إذا منح الدستور اللبناني المواطنين الحق بأن يعيشوا أينما أرادوا وقال إنه ضد فكرة الفرز على أساس الانتماء، يمكن أن تكون هناك حاجة لرسم الخطوط الحمر الطائفية لتدعيم الجماعات التي تجرب تغيراً ديموغرافياً في ”مناطقهم“ ومن المحتمل أن ”يخفف“ صوتها في نظام من الانتخابات المناطقية. في النهاية، إن عدم الحماية من التدهور الديمغرافي الطائفي بفعالية سينتهك وعد الدستور بالعيش المشترك. هذه بالضبط هي الحجة التي طرحها جورج عون في الفيديو أعلاه. فضلاً عن ذلك، إن رئيس الوزراء سعد الحريري (والذي هو ابن رئيس وزراء سابق) قال إن الأزمة البيئية والصحية العامة ناجمة عن حقيقة أنه ”لا المسلم مستعد أن يستقبل نفايات المسيحي ولا المسيحي كذلك.“ حتى القمامة تُمنح قدرة على ضرب استقرار العيش المشترك، فقد حاول السياسيون مؤخراً صبغ نيران تشرين الأول 2019 بتهديد وتخويف طائفي.
واليوم يبدو أن اتفاق الطائف يمكن أن يكون أي شيء يريده السياسيون، إذ يمكن أن يحول العنصرية والتمييز الجنسي والفصل إلى سلع عامة مغلفة ببلاغة “العيش المشترك”، ويمكن أن يُستخدم للمحاججة من أجل وضد حرية التنقل والسفر داخل البلاد من قبل السياسيين، ويمكن أن يرهن حاضرنا لتهديد حروب مستقبلية. ويمكن أن يُستخدم مع وضد توظيف موظفين مدنيين نجحوا في اختبار حكومي منذ سنوات لكن ليسوا “متنوعين” بما يكفي كي لا يخلوا بالتوازن في صفوف الخدمة المدنية. ويمكن أن يستخدم اتفاق الطائف كعذر من أجل عدم الاستئصال بشكل كامل وفوري للفساد المزمن ومعالجته من قبل سياسيين منتخبين ومسؤولي الدولة. إن حقيقة أن كل أطراف الحجة يغطون أنفسهم بالقوة الرمزية للطائف تتحدث كثيراً عن أهميته في مواصلة تعريف وتحديد مصطلحات الجدل السياسي في لبنان، بعد ثلاثين سنة من نهاية الحرب الأهلية.
أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية وقدم خريطة طريق لمستقبل سياسي مختلف ولو أنه مُتصور على نحو ضيق. وتحول إلى قفص على يد أولئك الذين استفادوا مباشرة من تطبيقه الجزئي ومن تقديس اتفاق سلام بدلاً من تطبيقه. وقيل لنا إن هذا القفص، زمنية المؤقت هذه، هي أكثر أماناً من البدائل: حرب أهلية أخرى، وهيمنة طائفية ودينية على البلاد، وديمقراطية مباشرة في بلاد غير “مستعدة” لها، أو مزيج ما من كل هذا. سنفعل جيداً لو تذكرنا كلمات الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن الذي كتب في رسالته من سجن برمنغهام أن الليبراليين البيض، الذين يستفيدون مباشرة من العنصرية، والذين كانوا سعداء في القول لناشطي الحقوق المدنية ”انتظروا“ حتى يصبح الجزء الأكبر من السكان جاهزين للمساواة السلالية خوفاً من رد الفعل العنيف. قال إن كلمة ”انتظروا“ عنت دوماً أن ”هذا لن يحدث أبداً“.
علمونا أن نخاف من بعضنا بعضاً أكثر من النظام الذي ينتج الاختلاف السياسي الطائفي ويحافظ عليه كمنطق له. طُلب منا أن نضحي بالمساواة بين الجنسين، وبحقوق اللاجئين و واللامساواة الاقتصادية المشلة، والفساد، وفهماً لتاريخنا الخاص على مذبح “العيش المشترك”. والذين يتفوهون بهذه الأكاذيب، الذين يبقوننا في هذه الزنزانة المحتجزة من الحاضر السياسي يستفيدون مباشرة من عدم تطبيق اتفاق الطائف، وطول الوقت يقومون بخدمات لفظية له.
أفكار ختامية
ما هو النظام؟ إنه إيديولوجيا حاكمة، ومنطق سياسي، وبنية محفزة تجري عبر الأذرع المختلفة للسلطة الرسمية وغير الرسمية وتوحدها. لقد تشكل نظام الوضع القائم في لبنان من خلال اتفاق الطائف، وهذا النظام، كما أقول أنا وآخرون طائفي وذكوري ونيوليبرالي ومؤقت ويشمل في داخله وصاية غياب للمساءلة وإسكاتاً للماضي. وقبل كل شيء يدعمه الخوف بينما هو في الوقت نفسه مرن وقابل للتكيف. وأصبح اتفاق الطائف مبرراً لعدم الفعل والورقة الأخيرة التي يستخدمها السياسيون لتأمين الدعم. وبالنسبة لهم، يجب أن يحافظ اللبنانيون على خلاف وتمثيل سياسي طائفي من أجل الحفاظ على وحدة ووعد البلاد، يحتاجون للخلاف السياسي الطائفي كي يكونوا دولة حيث تلك الاختلافات “تعيش بشكل مشترك” تماماً كما الحسابات المصرفية المتنامية للقادة البطركيين الذين يقودون تلك الطوائف كي تعيش معاً. وفي وقت نشر هذه المقالة خرج مليون شخص إلى شوارع لبنان في مدن وبلدات مختلفة مطالبين باستقالة الحكومة. لكن هذا ليس كل شيء. إنهم يطالبون، بطرق مختلفة، أيضاً بمحاسبة الفاسدين وإعادة هيكلة الأنظمة المالية والميزانية من أجل إعادة توزيع عادلة للثروة. استجابت الحكومة حتى الآن بقائمة من الإصلاحات الاقتصادية التي تفعل كل شيء عدا الاعتراف بإهمالها السابق لواجباتها العامة. كثيرون يدعون أيضاً إلى إنهاء الطائفية السياسية وإلى تبني قانون انتخابي تصبح فيه البلاد مقاطعة انتخابية واحدة بشكل فعال. لقد حان الوقت ليس فقط للتطبيق النهائي للطائف، بل أيضاً كي تتجاوز خيالاتنا السياسية اتفاق الطائف والحرب التي هدف إلى تحسينها والحروب داخل الحروب التي أصمتها بشكل فعال.
كم هو جميل الشعور باحتمال نهاية اتفاق الطائف في ذكراه.
[كُتبت هذا المقال للإشارة إلى الذكرى الثلاثين لاتفاق الطائف قبل نشوب الانتفاضة في لبنان. وعُدِّل كي يظهر بعض الصلات بين اتفاق الطائف وديناميات الاحتجاج الحالية.]
للمقال باللغة الانجيليزية، اضغظ/ي هنا.