منذ الأول من تشرين الأول الماضي، تعيش مدن العراق، العاصمة بغداد والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والبصرة وواسط والديوانية على وقع حراك احتجاجي هائل جداً وغير مسبوق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الأول من تشرين الأول الماضي. لكن عنف السلطة وقمعها السافر الذي أودى بحياة أكثر من 250 شهيداً، وأكثر من 11 ألف جريح وأعداد غير معروفة من المغيبين والمختطفين، حول مطالب الاحتجاج إلى مطالب سياسية صريحة: الشعب يريد إسقاط النظام!، ولتدخل الحركة الاحتجاجية في مسارات أكثر جدية وقدرة على المواجهة وتتسع مثل النار في الهشيم.
إن ما يحدث، الآن، في العراق تجاوز مرحلة الاحتجاج المطلبي المحصور في مطلب واحد أو عدة مطالب، ولم تعد قضية توفير فرص العمل ومكافحة فساد السلطة وقواها، وتوفير العيش الكريم لمن يقبعون تحت خط الفقر، قضية محورية رغم أهميتها، بل تجاوزها بمراحل متقدمة، تمس النظام السياسي وأسسه ودستوره والطبقة السياسية وقواها بشكل صريح، وطرح بدائل وتصورات كثيرة لم تختلف في مجمل ما تطرحه سوى بتفاصيل صغيرة، لكنها تتفق على أن النظام القائم والطبقة السياسية الحاكمة قد أصبحا عبئا ثقيلاً على العراق وتحولت ممارسات السلطة وفسادها إلى مآس مدمرة يمكن تلمس آثارها على حياة العراقيين وأوضاعهم وآمالهم. وأن التغيير الحقيقي لايكمن في تعديل وزاري هنا أو تعديل دستوري هناك أو فتح قاعات المحاكم لمقاضاة السراق ورؤوس الفساد من وزراء ونواب ومحافظين، ولا بإطلاق سلسلة وعود تشغيل ووظائف وبيوت سكنية ومشاريع عملاقة وملاحقات قضائية وحزم إصلاحية، بل بالتغيير الجذري للنظام القائم، فيما تحولت مطالب اصلاح النظام إلى أمر مثير للسخرية خصوصاً عندما تنطلق من القوى التي تساهم في ترسيخ هذا النظام وشريكة أساسية في السلطة الحاكمة!
الحراك الاحتجاجي الثوري الذي تطور بشكل لافت، وبات موضع احترام الجميع ويحصل على الدعم الشعبي الكبير شدد الضغظ على النظام السياسي والسلطة التي تغرق في ملفات فسادها وفساد أطرافها والشركاء في تأليفها وتثبيتها، وعمق من الشرخ الفاصل ما بين ملايين العراقيين، بهمومهم ومعاناتهم فقرهم وبطالتهم، من جهة، وبين السلطة والطبقة السياسية الحاكمة بنظامها ودستورها وطائفيتها وفسادها من جهة أخرى. لقد وصل هذا الشرخ حد القطيعة ولم يعد بإمكان أي قوة أو مشروع سلطوي أن يردمه. الثورة العفوية التي تجري وقائعها في بغداد والمدن الاخرى، هي إقرار بأن العراق مقبل على مرحلة جديدة، لكنها مرحلة محفوفة بالمخاطر بحكم وجود أطراف تواصل تدخلاتها وتدعم أطراف سياسية ومليشيات مسلحة لترسيخ نفوذها في العراق.
عندما نتحدث عن تطورات الاحتجاج التي وصلت إلى لحظة الثورة، فنحن نتحدث عن الاعتصامات والإضرابات العامة والعصيان المدني والتحركات الميدانية لقوى الاحتجاج من النشطاء والعمال الذين طوروا احتجاجتهم وأوصلوها إلى الموانيء وآبار النفط التي تشكل عصب حياة الدولة الريعية في العراق، بعد أن تم تدمير كل القطاعات والانشطة الصناعية والزراعية وتحول العراق إلى سوق ضخم لتصريف منتجات العالم! وكذلك نتحدث عن الفئات الاجتماعية التي ساهمت في الاحتجاجات منذ يومها الأول أو بعد أن تم الاعلان عن الإضرابات العامة والعصيان المدني، فالحديث عن " جيل البوبجي" وسواق التكتك، تحول الآن إلى حديث عن ثورة اجتماعية وطبقية صريحة تمكنت من جر الفئات الاجتماعية المختلفة إلى ساحاتها والانشغال بتفاصيلها وكيفية حمايتها وإدامة زخمها والآمال معقودة على مشاركة واسعة وجدية لعمال النفط وعمال القطاعات الاخرى.
إن ممارسات السلطة وأجهزتها الأمنية ومليشياتها وقمعها السافر ضد المحتجين، القتل العمد والرصاص الحي والقنص الغادر والقنابل المسيلة للدموع التي تخترق رؤوس المحتجين وتقتلهم، دفع بالملايين من العراقيين من موظفين وطلاب وعمال وأصحاب مهن حرة، للدخول إلى ساحة الاحتجاجات والاعتصامات والإعلان عن المشاركة الجدية والفاعلة فيها، فلم تعد القضية تتعلق بوعود سلطة كاذبة، ولا بملفات فساد لم يفتحها أحد، ولا بمئات المليارات من الدولارات التي نهبت، بل بمصير العراقيين جميعاً، وما يمكن أن يتعرضوا له، وأي جحيم سيضاف إلى جحيم حياتهم لو أن هذه السلطة والنظام القائم وأصلاً الحكم لسنوات اخرى!
منذ عقود طويلة من عمر الدولة العراقية كان العصيان المدني، والإضرابات العمالية والمهنية مغيباً وخارج حسابات السلطة والقوى الاجتماعية والسياسية إلا فيما ندر، لكنه تحول، وبحكم الواقع الاجتماعي الثوري الذي أفرزته حركة الاحتجاجات، وبفعل دعوات من المحتجين في ساحات الاعتصام، إلى ورقة قوية ضد السلطة والنظام القائم وضد قوانين وإجراءات تعود في مجملها لحقبة حكم حزب البعث وصدام حسين. لقد تحول العصيان المدني إلى مفردة ثورية يتغنى بها حتى الاطفال الصغار الذين يرفضون الذهاب إلى مدارسهم، في حين تواصل السلطة قتل المحتجين وخنقهم بالغازات السامة!
حتى هذه اللحظة، فإن الاحتجاج الثوري والحشود الجماهيرية التي غزت شوارع بغداد والمدن الأخرى أجبرت السلطة الحاكمة على تقديم تنازلات كبرى تمثلت بالإعلان عن حزم إصلاحية لم يسمع بها أحد من قبل، ووعود بتوفير فرص العمل والضمانات الاجتماعية والصحية ووو.الخ، وجاء اعتراف السلطة وعلى لسان رئيس مجلس الوزراء وقادة الاحزاب والكتل النيابية والرئاسات الثلاث بفشل النظام السياسي بدستوره ومحاصصته، ومساهمته في تدمير حياة العراقيين ودفعهم نحو حافة الفقر والبطالة، وضرورة إصلاح هذا النظام وتعديل دستوره والخروج من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية ليكون أكبر التنازلات التي نتحدث عنها!
ثمّة فئات كثيرة شاركت في الاحتجاج منذ بدايته، وأخرى شاركت بعد إعلان النقابات العمالية والمهنية، نقابة المعلمين والمحامين والمهندسين والأكاديميين واتحادات ونقابات العمال، عن الإضراب العام والعصيان المدني. لكن ما يجب الإشارة إليه في هذه المقاربة السريعة، أن الفئات المفقرة والمهمشة والمعطلة عن العمل، من أصحاب البسطات وباعة الارصفة وسواق التكتك والمعطلين عن العمل،هذه الفئات التي كانت تأكل كرامتها وفقرها لتبقى على قيد الحياة، هي القوى الاجتماعية الحقيقية التي أطلقت صرخة الاحتجاج الأولى وأعلنت أنه لم يعد لها شيئاً تخسره سوى كرامتها التي امتهنتها السلطة الحاكمة وأذلتها الاحزاب والمليشيات، حيث يعيش الكم الأكبر من هذه الفئة حد الكفاف، وينبشون في أكوام القمامة والنفايات ويعيشون في المجمعات السكنية العشوائية، حيث يتحول الأطفال إلى أصحاب عوائل ويتوجب عليهم توفير لقمة العيش للأم والأخت والأب العاجز الذي خرج من حرب الطوائف معاقاً، بينما يتحول توفير قوت العائلة إلى هم مخيف للمعطل عن العمل، ويجبره على العمل في مهن وظروف عمل لاإنسانية.
إن الفئات التي نتحدث عنها، هي الفئات التي يمكن تسميتها بالعمالة الهشة، التي تتحول، وبفعل النظام الاقتصادي القائم وممارسات السلطة إلى ظاهرة اجتماعية متزايدة ومثيرة للانتباه، لكنها تعكس صورة حقيقية عن الواقع الاقتصادي ومآلاته في دولة ريعية تعتاش على عوائد النفط، لكنها تتهرب من تحويل تلك العوائد إلى مشاريع اقتصادية، وتتعمد تدمير القطاعات الانتاجية والزراعية التي يمكنها أن تساهم في تشغيل المعطلين عن العمل، وتنصاع بسهولة لشروط صندوق النقد الدولي، وتتحول إلى دولة مدينة رغم ثوراتها الهائلة التي يتم الاستيلاء عليها من قبل الطبقة السياسية الحاكمة التي تحولت إلى أبرز طبقة فاسدة في العالم. فتصبح هذه الفئة خارج علاقات الانتاج.
إن العمالة الهشة خارج علاقات الانتاج ولا تستطيع بيع قوة عملها مع أن أفراد هذه الفئة يقفون كل يوم في طوابير ينتظرون من يشتري قوة عملهم، وتستهلك الكثير من الوقت والجهد والتعب في طرق أبواب الدولة مؤسساتها للبحث عن فرصة عمل أو توظيف في الجيش أو الشرطة أو المليشيات المسحلة مع أن الكثير من أفراد هذه الفئة فقدوا حياتهم في الحروب التي شهدها العراق خلال السنوات القريبة الماضية بعد فتح باب التطوع في صفوف الحشد الشعبي ومليشياته لكن سرعان ما تم التخلص منهم بعد انتهاء الحرب! وفي ظل وضع كهذا يصبح من المتعذر حصول هذه الفئة على أجر أو راتب أو ضمانات بطالة تمكنها من إدامة حياتها بشكل طبيعي أو روتيني أو العيش حد الكفاف الأمر الذي يحول أفرادها إلى فئات ساخطة ولاتتردد عن الاقدام على أعمال العنف للتعبير عن غضبها وحاجتها وفقرها وتهميشها المدَمر. وعندما انطلقوا في احتجاجتهم كانوا يصرخون بشعار عاطفي يائس: نريد وطن! شعار يجسد خيبتهم ومأسيهم وجوعهم، شعار لايمت إلى حقيقة أوضاعهم بشكل جدي، لكنهم يتمسكون به لأنهم ابناء هذه الدولة التي سحقتهم وأهملتهم وأذلتهم، بينما تقوم الطبقة السياسية وأحزابها ومليشياتها وزعامتها بنهب مقدرات الدولة علناً.