أشرف زياد الرحباني في التسعينيّات على إصدار عدة أسطوانات لفيروز قسَّمها تبعًا للملحّن: «فيروز تغنّي زكي ناصيف»، «فيروز تغنّي فيلمون»، «فيروز تغنّي زياد الرحباني». وبذا كان الملحّن هو العنصر الأبرز في فرادة الأغاني، بعد صوت فيروز طبعًا. ربّما كان زياد هو السبب الأبرز في هذا التّقسيم، إذ يمكن لنا تقسيم أغاني فيروز بحسب شعرائها أيضًا: سعيد عقل، جوزيف حرب، وزياد نفسه طبعًا (ولعلّ هذا سيكون محور مقالات قادمة). ولكن، في واقع الحال، ليس الأمر زياديًا بالضّرورة، لأنّ أوّل ما تلتقطه الأذن عمومًا هو اللحن لا الكلمات. يصدق هذا بقوّة على أغاني أم كلثوم مثلًا، إذ يمكننا تمييز ألحان السنباطي عن ألحان عبد الوهاب، بينما قد يختلط علينا الأمر في حالة الشّعراء. ولكن هناك استثناءات دومًا، ومحمد منير أحد أبرز تلك الاستثناءات، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. فما تُميّزه الأذن – بعد صوت منير – هو الكلمة لا اللحن. سيستعصي علينا تقسيم مسيرة منير الغنائيّة (الممتدّة على مسيرة 43 عامًا حتى الآن) تبعًا للملحّنين الكثيرين الذين تعاونوا معه، بينما سيكون الأمر أسهل وأدق لو تتبّعنا الأغاني وفقًا لشاعرها. لا أعلم ما السر هنا. وأعجز عن تحديد ما إذا كان الموضوع موضوعيًا أم ذاتيًا. أعني ما إذا كان هذا التّقسيم حقيقيًا، أم أنّه مرتبط بذائقتي الشخصيّة الميّالة عمومًا إلى التقاط الكلمة أكثر من اللحن.
الزّمن هو المحكّ الأكثر موضوعيّة في الفن. والزّمن يعني بالضّرورة امتداداته أمامًا وخلفًا، مستقبلًا وماضيًا. وبما أنّ التنبّؤ عصيٌّ علينا نحن البشر، فلنلجأ إلى الزمن الماضي، إلى الذاكرة. أظنّ أنّ أول أغنية سمعتُها لمنير كانت «علّي صوتك» (1997)، بحكم انتشارها السّاحق آنذاك بسبب فيلم «المصير» ليوسف شاهين. ولعلّها كانت أول أغنية لمنير سمعها أبناء جيلي كلّهم، ومن ثمّ سمعنا الأغاني الأكثر رواجًا لمنير: «شجر الليمون»، «ربّك لمّا يريد»، «خايف»، «إقرار»، «أنا قلبي مساكن شعبيّة»، «برج حمام»، «يونس» وغيرها، إلى أن جاءت المفاجأة الصاعقة مع «سو يا سو» (2001). كانت إحدى أكثر الأغاني «الراقصة» رواجًا، إضافة إلى الڨيديو كليب المُتخَم بالفتيات الجميلات الراقصات، ووسطهم منير ببدلته البرتقاليّة الغريبة. كان التّوزيع الموسيقيّ والحضور الأنثويّ الصارخان طاغيين جدًا إلى درجة وقفتُ فيها حائرًا أمام المطرب الذي يغنّي «سو يا سو» و«برج حمام» أو «علّي صوتك». لم أكن في عمر وخبرة تجعلني أدرك فرادة منير الذي ربّما يكون أشدّ المطربين جرأة في تاريخ الأغنية العربيّة في اختياره للكلمة واللحن، لذا بقيتُ في حالة ذهولٍ أقرب إلى النّفور منه، مكتفيًا بالأغاني التي أحبّها وأعرفها إلى أن جرّبت سماع «سو يا سو» مرةً أخرى بلا إبهار الڨيديو كليب، واكتشفتُ البُعد السياسيّ فيها، لتبدأ مرحلة افتتاني بمنير ومن ثمّ بكوثر مصطفى التي شكّلت بصمةً متفرّدةً مع منير، وفي كتابة الأغنية عمومًا. صرتُ أسمع أغانٍ عشوائيّة لمنير لأجرّب حظّي معها كما فعلتُ مع فيروز وأم كلثوم. بقي افتتاني بأم كلثوم سنباطيًا إذ كانت معظم الأغاني التي أحبّها من ألحانه كما عرفتُ لاحقًا. مع فيروز، كنتُ ميّالًا أكثر إلى سعيد عقل، ولاحقًا إلى زياد. وتكرّرت الحالة مع منير، ولكنْ الافتتان كان بسبب الكلمات في أغانٍ عشقتُها - وما زلت - لأكتشف لاحقًا أنّها لكوثر مصطفى: «أُخرج من البيبان»، «يا بنت ياللي»، «بنات»، وبالطبع «علّي صوتك» و«سو يا سو».
بدأت كوثر مصطفى تعاونها مع منير في الفترة التي يسمّيها متابعو مسيرة منير الفنيّة: «المرحلة الوسطى»، أي المرحلة التي بدأت منتصف التّسعينيّات تقريبًا؛ واستمرّ التعاون إلى اليوم، على امتداد ربع قرن، ليشمل 28 أغنية (بحسب حوار أُجري مع كوثر مصطفى، ولكنّني عجزتُ عن إيجاد أكثر من 24 أغنية). سأحاول تناول تجربة التعاون بين كوثر ومنير في مقالتين، مستثنيًا أغنيتَيْ شارة مسلسل الأطفال «بكّار» (1998)، وأغنية «مدد يا رسول الله» (2002)، بسبب طبيعتها الخاصة وجوّها المختلف عن عالم كوثر مصطفى عمومًا. يمكن لنا تقسيم تلك الأغاني زمنيًا إلى قسمين: أغاني التسعينيّات (12 أغنية)، وأغاني الألفينات (9 أغانٍ). وسأكتفي بالحديث (في هذه المقالة) عن 12 أغنية، هي أغاني التّسعينيّات، تبدأ بـ «ساح يا بداح» (1994)، وصولًا إلى «ومين يهمّه» (2000).
يختلف متابعو تجربتَيْ منير وكوثر مصطفى بشأن الأغنية الأولى التي كتبتها كوثر لمنير: هل هي «ساح يا بداح» أم «حَطّ الدِّبلة وحَطّ الساعة»؟ لا يمكن لنا الجزم بشأن تاريخ الكتابة لأنّ منير غنّى 7 قصائد لكوثر بين عامي 1994 و1995، ولكنّ إصدار الأغاني بدأ بأغنيتَيْ «ساح يا بداح» و«يابا يابا» في ألبوم «افتح قلبك» (1994)، من دون أن يعني هذا بالضّرورة أنّهما أول أغنيتين كتبتهما كوثر لمنير. تتوزّع الأغاني السّبع الأولى على ألبومين وفيلم: ألبوم «افتح قلبك» (1994): «ساح يا بداح»، «يابا يابا»؛ ألبوم «ممكن» (1995): «أجمل حكاية»، «شتا»، «يا بنت ياللي»؛ فيلم «البحث عن توت عنخ آمون» (1995): «ليلة واحدة»، «النيل». قدّمت هذه الأغاني السّبع انطلاقةً مختلفةً لمنير عن مرحلة الثمانينيّات، علاوةً على تقديمها عالم كوثر مصطفى بثيماته المتمحورة حول الشّجن والحلم والأنثى، ودخول مفردات في أغاني منير ستتكرّر في أعماله اللاحقة أكانت من كتابة كوثر مصطفى أو كتابة غيرها، وإنْ كانت ستأخذ بعدًا ومعنى خاصّين في عالم كوثر مصطفى المدهش. تبدأ رحلة منير مع كوثر من أغنية «ساح يا بداح» بعنوانها الغريب الذي يتكشّف شيئًا فشيئًا مع تتالي سطور الأغنية التي تُقدّم صورة عالمٍ مكرورٍ خانق يسيطر عليه العسكر حيث حضورهم يعني تلاشي الحلم بالضّرورة أو ضيقه على الأقل. استُعيدت الأغنية بعد عودة حُكم العسكر في مصر عام 2013، مع تركيز على مقطع: «طول العُمر العسكر عسكر/ بس النّاس كات ناس/ وكان الحلم قُبالي براح» الذي يوزّع مسؤوليّة قتل الحلم بالتّساوي على العسكر وعلى رضوخ الناس. لا يمكن اختصار الأغنية الجميلة إلى هذا المقطع فقط بكل تأكيد، لأنّ عالم الأغنية يتّسع ليشمل أحلام الناس كلّها، صغيرةً أم كبيرة، أحلام وقعت في أسر الرّتابة الخانقة، حيث لا معنى للزّمن في دوراته المتماثلة، ولا معنى لحياة البشر أو حتّى البشر أنفسهم إذ علقوا في الدوامة ذاتها. تتشابك «ساح يا بداح» مع «يابا يابا» في الألبوم ذاته، لتقدّما مرآتين متوازيتين للثّيمة ذاتها، عن انسحاق الأحلام، وعن «الناس الناس فتافيت الماس/ الناس الناس وأحلام الناس»، ولتقدّما في الوقت ذاته مجموعة مفردات ستميّز قصائد كوثر مصطفى المنيريّة لاحقًا: ملضوم، حلم، انطفى، ما بلّش الريق، فتافيت، ليلة. ولد مع هاتين الأغنيتين عالمٌ يحتفي بالليل والأحلام والتّفاصيل المنمنمة التي تماثل الجواهر، حيث لن يبقى معنى للحياة حين تُسحَق وتنكسر.
شكَّل ألبوم «ممكن» عام 1995 علاوةً فارقةً في تجربتَيْ منير وكوثر في آن. كتبت كوثر ثلاث أغانٍ من بين الأغاني الثّمان في الألبوم الذي بقيت معظم أغانيه على ألقها إلى اليوم، مثل «حواديت»، «برج حمام»، و«الليلة ديّه»، إضافةً إلى قصائد كوثر الثّلاث: «أجمل حكاية»، و«شتا»، و«يا بنت ياللي». في هذه الأغاني الثّلاث أعادت كوثر التّأكيد على عالمها الذي قدّمته في السّنة التي سبقتها، ولكنْ بدفقة جمال أعلى، بل ربّما كانت أعلى درجة جمال في تجربة كوثر مصطفى بحيث صارت الأغاني اللاحقة كلّها أصداءً لهذه الأغاني الثّلاث، إضافة إلى الأغنيتين اللتين كتبتهما لفيلم «توت عنخ آمون» في العام ذاته. نرى هنا مفردات كوثر الأثيرة: الرسم، الحلم، لمسة، الحرّاس، ليالي، غنوة، تغزلي؛ ولكن بعد إدخالها في عالمٍ فريدٍ يقارب الحُلم من دون أن ينسف الواقع تمامًا. بات الحلم هنا مرادفًا للأنثى بوصفها الدفء والأمل وراسمة الأحلام التي تقاوم السُّلطة وحرّاسها. الحب عند كوثر مصطفى ليس كليشيه رومانسيًا بقدر ما هو الحياة بذاتها: الحب يعني عيش الحياة ببساطتها وتفاصيلها وأحلامها وأغانيها، حيث الغناء يعني بالضرورة مقاومة الصّمت الخانق. وفي الوقت ذاته لا تميل كوثر إلى «نسويّة» فاقعة في قصائدها، بل إلى حضور أنثويٍّ شفيف يؤكّد حضور الذّكر ويُكمله بحيث يشكّلان حكاية أو أغنية ليليّةً تحمل كلّ ارتباك البدايات وسذاجتها وبراءتها وبريقها. الحب في أغاني كوثر بدايةٌ دائمةٌ تحاول تعزيز بريقها كي تخفّف وطأة النّهاية القادمة حتمًا. في «أجمل حكاية»، تتماهى الحكاية مع الأنثى بحيث تصبح الأنثى هي خالقة العالم القادم الذي لا يشبه العالم الإلهيّ، بل هو أقرب إلى الصورة البشريّة بهشاشتها وخوفها، ولكن أيضًا بجمالها وعنادها وعشقها للعيش: «راسمة إيه حبيبتي في صفحة الكرّاس/ راسمة بنت حلوة بتجري من الحرّاس/ راسمة إيه حبيبتي في دفتر الأحلام/ راسمة قلب نونو بيعشق الأيّام». في «يا بنت ياللي»، تقدّم كوثر رؤيةً جديدةً لقصة فولكلوريّة تجمعها تفاصيل مشتركة كثيرة مع «أوذيسيا» هوميروس، وپنيلوپي التي تغزل الوقت في خيوط الرّداء ثمّ تحلّها ثمّ تُعيد غزلها كي تتملّص من الوقت وكي تقهره في آن، انتظارًا لأوذيسيوس. لعلّ البنت في «يا بنت ياللي» لا تملك دهاء پنيلوپي في وعيها، ولكنّها – وشاعرتها - لا تكترثان لمدى التّطابق مع الأسطورة أو الفولكلور، إذ تحاولان تقديم قصتها هي لا قصة بنتٍ غيرها. هي «الغنوة اللي خايفة تغنّي»، هي البنت التي تشبه بناتنا وأيامنا الحلوة البريئة التي سيدهمها الوقت بتعقيده وبحساباته التي لا ترحم. تقدّم كوثر مصطفى هنا معنى الزّمن والانتظار، ومعنى الأنوثة التي تُراقِص الوقت كي تهزمه. أما في أغنية «شتا» (أو «حط الدبلة وحط الساعة» كما راج عنوانها الآخر)، لا تكتفي كوثر مصطفى بتكثيف لقصة بنت أو بنات، بل تُكثّف قصّة بشريّة بأكملها. نتعرّف هنا للمرة الأولى إلى البرد الذي تخشاه كوثر دومًا، وهو المُعادِل للعسكر والحرّاس والقهر والموت والرتابة والواقع. نرى سعي البشر منذ الولادة؛ لا نرى الموت ولكنّنا نلمسه حين يخترقنا برد الرّتابة التي ما هي إلا موتٌ بطيء، حيث لا حلم ولا ابتسامة ولا حب، وحيث كلّنا بلا استثناء سنذوق البرد ذاته بصرف النّظر عن اختلافاتنا ووجهات نظرنا حيال الحياة: «اللي قضّى العمر هزار/ واللي قضّى العمر بجد/ شدّ لحاف الشّتا من البرد». ولكن برغم الصورة التي تبدو مظلمةً للوهلة الأولى، إلا أنّ عالم كوثر مصطفى لا يعترف باليأس. صحيح أنّ البرد سيكسرنا ويقهرنا، ولكن تبقى إمكانيّة الحلم هي التي تمنحنا قابليّة العيش: «حط الدبلة وحط الساعة/ حط سجايره والولاعة/ علَّق حلمه على الشمّاعة»؛ ولكنّ المعنى الضمنيّ هنا هي أنّنا سنستيقظ ليومٍ جديد، ننفض عنّا لحاف الشّتاء، ونرتدي حلمنا من جديد قبل انكسار آخر.
في فيلم «البحث عن توت عنخ آمون» قدّمت كوثر مصطفى أغنيتين متباينتين ظاهريًا، ولكنّهما لا تخرجان عن عالم أغانيها السابقة. في «ليلة وحدة» نرى أكثر أغاني كوثر (ومنير) جرأةً من الناحية الإيروتيكيّة. لم تعد الأنثى هنا بعيدةً كما كانت في الأغاني القديمة، ولكنّ الشوق ما يزال هو ذاته، بل لعله ازداد لأنّ اللقاء تمّ. اللوعة صارخةٌ هنا لأنّ الوصال كان سريعًا عابرًا محكومًا بالوقت وبالبعد وبالفراق. تستعيد كوثر مفردات من قصائدها القديمة: شارد، ليلة، مفروط، ملضوم، بنبلّ الريق؛ ولكنّ العالم تحوّل من المجرّد إلى الملموس، من الخيال إلى الحواس، مع عدم نسيان جريان الوقت في دقائقه وثوانيه بوصفه الخصم اللدود الدائم في عالم كوثر: «دي ليلة وحدة ما تكفّيش»، حيث اللذة لا تكتمل في لقاء واحد، وحيث الاكتمال حلم مستحيل دومًا: «دي ألف ليلة ما تكفّيش»، في استعادةٍ بارعة لـ «ألف ليلة وليلة» لا بمعنى تناسل الحكايات من اللذة والجنس فقط، بل أيضًا بمعنى تضادّ الزمن والحب. نرى هنا للمرة الأولى توصيفًا تفصيليًا حلَّ محلّ الإلماحات والسكتشات السريعة التي اكتفت كوثر بها في أغانيها القديمة، حين كانت البنت هي كلّ بنت، بينما نجدها هنا رمزًا للذّةٍ ملموسةٍ محكومةٍ بالنّقص دومًا: «شفيف حريرك دفّاني/ برقوق شفايفك كفّاني/ تمرك وطعمه الحيّاني/ الشّهد كان ملو الإبريق/ ويا دوب يا دوب بنبلّ الريق/ زعق الوابور وأخدني طريق/ دي ألف ليلة متكفّيش». يتواصل الدّفق في أغنية «النّيل» وإن كان ماء اللذّة قد صار هنا ماء حياة كاملة، ولكنّها حياة تشبه بشرها: بشر يولدون محمّلين بأسئلة لا تنتهي ولا سبيل إلى إجابة شافية لها. كلّ ما يمكن للحياة والنّهر والبشر أن يفعلوه هو مواصلة العناد في وجه الحرّاس ووقع حوافر خيولهم التي تدهس الأحلام والقلوب. البشر هنا (البنات على الأخص) هم مفتاح الحياة في وجه الحرّاس وكلامهم الأوحد، حيث لا مفرّ إلا بالسّهر والغناء ومحاولة لملمة ما سُحق من أحلام. النيل مثل ناسه: «لسه بيجري ويعافر/ ولسه عيونه بتسافر/ ولسه قلبه لم يتعب من المشاوير»، وهو مثل الحياة: «لا بيوصل ولا بيتوه ولا بيرجع ولا بيغيب/ النيل سؤال وما زال ما جاش عليه الرد/ من قدّ إيه ولفين ما قالش عمره لحد».
في أغنية «قلب الحياة» (في ألبوم «من أول لمسة» - 1996)، تنتقل كوثر مصطفى من مفتاح الحياة إلى قلب الحياة، أو إلى سرّها فعليًا. يتحوّل النّهر إلى بحر، ولكنّ العطش على حاله، عطش للرقص والغناء اللذين يشكّلان الشّرطين الجوهريّين للعيش من دون التخلّي عن أهميّة الحلم والحب، وإن كانت أحلامًا صغيرة وكلمات حب تتخفّى داخلنا بانتظار من يحرّض نطقها. لا يكون التّحريض إلا جماعةً، «أنا وانتي»، حيث الحب هو القلب ونبضه، وحيث تسير الحياة وتكتمل بهذا النّبض ولو تعثّرت. فالحياة ستبقى ما بقي ناسها وجراحهم وأفراحهم: «مش كل شيء بيفوت في عمرنا بيجرح/ قلب الحياة مليان حاجات وبتفرّح». ولكنّ هذا الفرح ليس تفاؤلًا ساذجًا أو تبشيرًا بأيام نقيّة لا آلام فيها، بل هو إيماءةٌ شفيفة إلى التّفاصيل الصغيرة التي نمرّ بها مرورًا عابرًا ولكنّها هي التي تعطي لحياتنا معناها.
غابت كوثر مصطفى عن ألبومَيْ «الفرحة» (1999)، و«في عشق البنات» (2000) اللذين ختما مرحلة التّسعينيّات عند منير، ولكنّها كتبت له أربع أغانٍ بين عامي 1997 و2000: الأغنية الأشهر «علّي صوتك» في فيلم «المصير» (1997) ليوسف شاهين، وأغنيتَيْ «نبض الأرض» و«في الوقت ده» في فيلم «الكافير» (1999) لعلي عبد الخالق، وأغنية «ومين يهمّه» في فيلم «العاصفة» (2000) لخالد يوسف. واصلت كوثر مصطفى في أغانيها الأربع هذه تركيزها الجديد على البعد الجمعيّ للحياة، حيث الهم واحد والأحلام واحدة والخلاص واحد، بعد أن كانت أغانيها الأقدم ميّالةً أكثر إلى التّفاصيل الفرديّة، أو إلى تكثيف الجمع في مفرد يكون أنثى في الغالب. ولكنْ – على الأرجح – كان هذا التوجّه مرتبطًا بموضوعات الأفلام التي كُتبت الأغاني من أجلها، أكثر من كونه طريقًا جديدة تشقّها كوثر مصطفى في الكتابة لأنّها عادت إلى عالمها القديم في معظم أغاني الألفينات. وفي الوقت ذاته، لم تتخلّ عن مفرداتها الأثيرة القديمة من ناحية التّركيز على الحلم والغناء مفتاحين لعالم الخلاص من جحيم الرّتابة وأسر الوقت. ففي أغنية منير الأشهر «علّي صوتك»، كانت الرسالة في أوضح صورها من دون الوقوع في المباشرة التي وقع فيها كثيرون، إلى درجة أنّ بعض جمل هذه الأغنية باتت شعارات أو اقتباسات تُردَّد في سياقات اليأس ووجوب نبش الأمل من كومة التّفاصيل الصغيرة التي تُشكّل حيواتنا وترسم مسارها: «لسه الأغاني ممكنة»، «لازم تقوم واقف كما/ النّخل باصص للسما»، «ولا حلم نابت في الخلا»، «غنوتك وسط الجموع/ تهزّ قلب الليل فرح/ تداوي جرح اللي انجرح». وبالطبع، لا تكتمل أيّة قصيدة من قصائد كوثر مصطفى من دون التّشديد على الحلم؛ الفارق هنا أنّ الحياة، حياة الجموع، تتشكّل من اجتماع أحلام كلّ فردٍ من أفرادها: «ينشبك حلمك في حلمي». في أغنية «في الوقت ده»، قدّمت كوثر مصطفى للمرة الأولى أغنية وطنيّة بالمعنى الدّقيق للكلمة، وبذا كانت الأغنية «الأغرب» ضمن عالمها البعيد من «القضايا الكبرى»، وتفضيلها عمومًا للهموم الصغيرة، أكانت فرديّة أو جمعيّة. وحده صوت منير هنا يذكّرنا بأنّنا لسنا في عالم الأغنية الوطنيّة المباشرة، ولكنّ اللحن والكلمات والجوّ العام لا يترك لنا مجالًا للاستمتاع بالصوت لأنّ الكلمات لا تختلف كثيرًا عن كلمات الأغاني الوطنيّة الأخرى، وإنْ حاولت كوثر هنا إنقاذ الأغنية من شِراك الوطنيّة من خلال استعارة صور من عالمها القديم، بحيث يبقى التأويل مفتوحًا بصرف النّظر عن موضوع الأغنية: «في الوقت ده حنشوف بجد/ لو صحيح الضلمة باقية في سمانا/ ولّا نور بُكرانا جاي». اللافت في أغنية «نبض الأرض» أنّ عنوانها الأقرب إلى الموضوع الوطنيّ مقارنةً بالأغنية السابقة لا يمنح الأغنية بعدًا وطنيًا كبيرًا، إذ نستعيد هنا عالم كوثر القديم بتفاصيله المنمنمة التي تُشكّل باجتماعها مصائر الأفراد التي تُشكّل باجتماعها – بدورها – المصير الجمعيّ للمصريّين، وللبشر عمومًا، برغم اللحن الذي يحاول جذب الأغنية إلى عالم الأغنية الوطنيّة الضيّق بالمقارنة مع الأغنية «الكونيّة» الأرحب. تعود العناصر الجوهريّة القديمة لتغيّر تركيبة الأغنية الوطنيّة: الغنوة، الجرح، العطش، الحلم، الضيّ. يعود بهاء قصائد كوثر القديم ليشدّد على العنصر البشريّ بوصفه سرّ عيش الحياة بتناقضاتها من دون أسطرة هذا البشريّة التي تميّزنا عن سوانا من الكائنات: «إيه نعطش نهون/ أو ع الطريق نتعثّر/ محناش فَراش حيموت/ ولا قِزاز يتكسّر».
دخلت كوثر مصطفى إلى عالم محمد منير الغنائيّ عام 1994، ولم تغادره إلى اليوم. يمكن لنا القول إنّ مرحلة منير «الوسطى» تلوّنت بألوان كوثر مصطفى أكثر من أيّ شاعر آخر (كما كان الراحل عبد الرحيم منصور هو الشاعر الأبرز في عالم منير الغنائيّ في السبعينيّات والثمانينيّات)، حيث منحته نكهةً أنثويّةً مميّزة كانت تفتقدها أغانيه. تشبّعت أغاني منير بمزاج قصائد كوثر بدرجةٍ كبيرة حتّى حين تعاون مع شعراء آخرين، بل تبدّى الفارق أكثر حين تعاون منير مع شاعرة ثانية هي هند القاضي في أغنية «عنقود العنب» (1999) التي بقيت – على جمالها – غريبةً عن عالم منير عمومًا، وكأنّما انحصر الجانب الأنثويّ في أغاني منير بقصائد كوثر وحدها. اللافت أنّ تأثير قصائد كوثر مصطفى في التّسعينيّات امتدّ إلى قصائدها في الألفينات، بحيث تكاد معظم القصائد لا تبدو أكثر من أصداء خافتة لسابقاتها، مع استثناءات قليلة مثل «أُخرج من البيبان»، و«بنات» و«ليالي». بل ربّما تألّقت هذه الاستثناءات لأنّها تشبه أغاني التّسعينيّات أكثر من أغاني منير في الألفينات، بحيث بدت مثل استعادة حلم أو همسة من أيام قديمة أجمل حتمًا.