بداية يمكن للمرء أن يقارن بين الجملتين التاليتين:
- "كان شارلمان حاكماً أوروبياً مهماً من عصر مملكة تانج".
- "كان هارون الرشيد حاكماً شرق-أوسطياً مهماً في فترة العصور الوسطى".
كلتا الجملتين صحيحتان على حد سواء. فعهد شارلمان (768 – 814م.) يعود في الواقع إلى عهد أسرة تانج الصينية (618 – 907م.)، ولا يختلف الأمر بالنسبة لعهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (786 – 809م.)، الذي وضع تحت مسمى عصر يُعرف في أُورُبّا بحقبة "العصور الوسطى"، وإن شئنا الدقة: "العصور الوسطى المبكرة". ومع ذلك لا يمكن وصف شارلمان بأنه حاكم من عصر مملكة تانج (والأمر نفسه بالنسبة للرشيد). فعصر مملكة تانج فيما يبدو لم يتجاوز حدود الصين. وحيث لم توجد علاقات حقيقية - مباشرة أو غير مباشرة - مع مملكة تانج فمن المنطقي ألا نستخدام مصطلحاً من قبيل "العصر التانجي".
رغم هذا يتم التعامل مع مصطلح "العصور الوسطى" بشكل مختلف تماماً. فهو بداية محدد ثقافياً، حيث يصف حقبة التاريخ الأُورُبّي التي تمتد من نهاية العصور العتيقة (Antike) وحتى العصر الحديث. ولكنه يُستخدم أيضاً - قليلاً أو كثيراً - لتسمية الحقب المتزامنة لتاريخ الشرق الأدنى[1] (وأحياناً وإن بشكل نادر لتاريخ شرق أسيا أيضاً). ولهذا على سبيل المثال يحتوي مجلد "حكام العصور الوسطى" (Herrscher des Mittelalters) في سلسلة الكتب المعروفة "50 كلاسيكياً"، على صور قلمية قصيرة لكل من "هارون الرشيد" الذي سبق ذكره، و"صلاح الدين" (ت. 1193م) و"محمد الفاتح" (ت. 1481م)[2]. وبالمناسبة لا يوجد أي إمبراطور صيني في هذا المجلد. أي مؤرخ من العالم الإسلامي، سيدهش ولا ريب من وضع خليفة من العصر العباسي الأول مثل هارون الرشيد مع السلطان العثماني محمد الفاتح في الحقبة التاريخية نفسها. أما بالنسبة لمؤلف مجلد الخمسين حاكماً وللعديد من زملائه أيضاً فلا توجد أي مشكلة في هذا. هم ينطلقون بالطبع، مثل كثير من علماء الإسلاميات في الواقع، من افتراض يبدو طبيعياً بوجود "عصور وسطى إسلامية"، وأنه من المنطقي استخدام مصطلح "العصور الوسطى" لوصف الثقافة والأدب والعلوم والأوضاع الاجتماعية في العالم الإسلامي من موريتانيا وحتى الهند. هذا هو السبب في أن يُعد الرشيد حاكماً من "العصور الوسطى"، ولكنه - مثل شارلمان بالضبط - ليس من عصر مملكة تانج.
مما يجعل الإشكالية واضحة للعيان، أن استخدام مصطلح "العصور الوسطى" لوصف المجتمعات الإسلامية، لم يُطرح للنقاش من قبل العلماء الأُورُبّيين إلا عرضياً، وهو أمر نادر جداً عند العلماء الأمريكيين وعند العلماء العرب أيضاً، ولذا لا نكاد نصادفه في المنشورات العلمية العامة. وفيما يلي خمسة أسباب تدعو إلى تجنب استخدام مصطلح "العصور الوسطى"، على الأقل فيما يتعلق بالمجتمعات الإسلامية. ويوجد سبب سادس سيتبين عندما يُسئل في الفصل الثاني، عما إذا وجد في القرون الأولى مما يسمى بـ "العصور الوسطى" ما يكفي من أوجه التشابه بين الظروف الحياتية في كل من أُورُبّا والشرق الأدنى، التي تسمح بتبرير وضعهما في حقبة واحدة:
عدم الدقة
كلما وجه المرء نقداً لمصطلح "العصور الوسطى" يتلقى في الغالب إجابة من نوعية: أن المصطلح ليس مثالياً بالفعل، ولكنه عملي للغاية. زد على ذلك أنه انتشر وترسخ، ومن يستخدمه يعرف بالضبط ما يعنيه. نحن نعرف بالفعل عما نتحدث عندما نقول "العصور الوسطى"!
لكن هل نعرف ذلك حقا؟ هل نعرف بالفعل متى تبدأ العصور الوسطى؟ فنهاية الإمبراطورية الرومانية الغربية (سنة 476 م) لا يمكن أن تصبح حداً تحقيبياً للعالم كله. هكذا تنفتح مساحات لمناقشات لا تنتهي. على سبيل المثال: متى تبدأ العصور الوسطى في دمشق؟ المقترح المعتاد هو الفتح العربي سنة 635م. أي بعد قرن ونصف من سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. ومتى تتوقف الإمبراطورية الرومانية الشرقية عن كونها رومانية لتصبح "بيزنطية" وبالتالي قروسطية؟ وهل كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية اسرع في "القروسطية" من دمشق التي كانت جزءًا منها؟ وهكذا كلما اتجهنا ناحية الشرق، كلما صعُـب العثور على إجابة ولو شبه معقولة. وكذلك السؤال عن "نهاية العصور الوسطى" ليس من السهل الإجابة عنه أيضاً. على سبيل المثال جاك لوجوف (Jacques Le Goff) لا يرغب في اعتبار عصر النهضة والعصر الحديث المبكر حقبتين منفصلتين، وينادي بدلاً من ذلك بعصور وسطى أطول تستمر حتى منتصف القرن الثامن عشر[3].
هذه كلها مقدمات وافتراضات سيئة ولا تبشر بالوضوح. وهذا مثال لذلك: في العالم الناطق بالإنجليزية لا يكاد يوجد ناشر سيسمح بوضع عنوان طويل ضخم مثل: (History of Medicine in Islamicate Societies before 1600)[4] لمدخل عام ميسر حول تاريخ الطب في المجتمعات ذات الصبغة الإسلامية. وبشكل عام سيكون المتوقع عنواناً مثل: (Medieval Islamic Medicine). ويوجد كتاب ممتاز بهذا العنوان بالفعل. وعلى العموم لا ينبغي للمرء أن يضطهد مؤلفاً بسبب العنوان[5]. ومع ذلك، فالأمر يستحق معالجة ألزم وأقرب. بداية فإن ما يسمى بالطب "الإسلامي" هو الاستمرار المباشر لطب العصور العتيقة. فالأطباء لابد وأن يعرفوا أهم أعمال جالينوس، بل كان عليهم أيضاً أداء قسم أبقراط وليس القسم على القرآن على سبيل المثال. فجالنيوس هو المؤسس الحقيقي للطب "الإسلامي"، وهو يُعد - بجانب أرسطوطاليس - المؤلِّف اليوناني الأكثر دراسةً من قبل العرب والفرس. وبعض أعماله لم تعد موجودة إلا في ترجمتها العربية فقط. وقد عاش جالينوس في الفترة من سنة 129 إلى سنة 216 م. أي قبل فترة طويلة من أي عصور وسطى. ولكن بالطبع لابد وأن تكون له مساحة واسعة في أي كتاب عن الطب "الإسلامي". فيما بعد تلقى المؤلفون العرب تأثيرات فارسية وهندية أيضاً، ولكن ظل طبهم في جوهره تطويراً مثابراً للطب الجالنيوسي. وهذا ينطبق أيضاً على داود الأنطاكي، وهو طبيب أعمى مشهور وفيلسوف من مدينة أنطاكية، كان يعرف اليونانية والكُتاب اليونانيين، وقد توفي في مكة سنة 1599 م. هو أيضاً لا ينبغي إغفاله في أي من كتب "تاريخ الطب الإسلامي في العصور الوسطى". لكن أي عصور وسطى هذه التي تمتد من سنة 200 حتى سنة 1600؟ فمصطلح "العصور الوسطى" لا يؤدي هنا إلى أي وضوح.
أما كلمة "إسلامي" فإنها تتسبب في مزيد من الغموض. فكثير من الأطباء "المسلمين" لم يكونوا مسلمي الديانة، وإنما كانوا مسيحيين ويهوداً، وبعيداً عن التقاليد الشفائية الشائعة لما يسمى بالطب النبوي، فما يسمى بالطب "الإسلامي" لم يكن به في حد ذاته أي شيء إسلامي. حقيقة أن الثقافة "الإسلامية" هي الوحيدة التي لم تُسمَ تبعاً لمنطقة جغرافية، (لأنها تمتد على مساحة جغرافية ضخمة من الصعب الإحاطة بها)، أصبحت في حد ذاتها مصدراً للاضطراب والبلبلة. ولهذا تحديداً قدم مارشال هودجسون (Hodgson) (1922 - 1968) مصطلحاً جديداً بالإنجليزية، هو "إسلامكيت" (islamicate)، ليعبر به عن ظواهر العالم الإسلامي التي لم ترتبط بالدين بشكل مباشر[6]. ولكن للأسف تصعب ترجمة هذا المصطلح بشكل مقبول إلى الألمانية، وعلى كل فالمصطلح لم ينتشر في الإنجليزية حتى الآن إلا في الدوائر الأكاديمية فقط.
وكذلك فإن التجاور بين مصطلحي "إسلامي" و"العصور الوسطى" يشبه تفجيراً مزدوجاً. فمن المعتقد به بشكل عام، أن العصور الوسطى كانت حقبة شديدة التدين، وأنها أصبحت وبشكل مطرد حقبة للتعصب الديني. وفي ظل كل هذه المقدمات، يصعب تخيل "الطب الإسلامي القروسطي" بوصفه خطاباً طبياً تقدمياً بل وعلمانياً، رغم أنه كان هكذا بالفعل[7]. فإذا كنت المفاهيم تأخذ على محمل الجد، فلابد وأن يدرك المرء أن ما يسمى بـ "الطب الإسلامي القروسطي" لم يكن قروسطياً ولا إسلامياً. والخلاصة: مصطلح العصور الوسطى لا يساهم في إضفاء الوضوح، بل هو على العكس من هذا تماماً.
[من كتاب صدر عن منشورات الجمل بترجمة: د. عبدالسلام حيدر. ينشر بالاتفاق مع الناشر]
هوامش
[1] الكاتب يستعمل هنا المصطلح الألماني (Naher Osten) ويعني به، كما أخبرني كتابياً، المنطقة التي تضم فلسطين وسوريا وتركيا والعراق وإيران أي أنه لا يتطابق ومصطلح "الشرق الأوسط" وهو بالألمانية (Mittlerer Osten) ويضم بالإضافة لما سبق مصر وشبه الجزيرة العربية، وهذا ما يشير إليه المؤلف تقريباً في بداية الفصل الثاني من هذا الكتاب (المترجم).
[2] انظر: (David Fraesdorff: Herrscher des Mittelalters: Von Karl dem Großen bis Isabella von Kastilien)، هيلدسهايم 2008.
[3] راجع: (Jacques Le Goff: Geschichte ohne Epochen?). ملحوظة للمترجم: الأصل الفرنسي لهذا الكتاب عنوانه: (Faut-il vraiment découper l'histoire en tranches?) وقد ترجم حديثاً إلى العربية بعنوان مقارب: "هل يجب حقّاً تقطيع التاريخ شرائح؟" (ترجمة: الهادي التيمومي)، ونشرته هيئة البحرين للثقافة والآثار 2018، لم اطلع عليه للأسف (المترجم).
[4] أي "تاريخ الطب في المجتمعات الإسلامية قبل القرن السادس عشر" (المترجم).
[5] انظر: (Peter E. Pormann, Emilie Savage-Smith: Medieval Islamic Medicine)، واشنطن دي سي 2007.
[6] انظر: (Marshall Hodgson: The Venture of Islam)، 1/56 – 60.
[7] قارن أيضاً (Bauer: Die Kultur der Ambiguität) (ص 196 – 198)، الترجمة العربية: ثقافة الإلتباس، منشورات الجمل 2017، ص 223 وما بعدها.