القمع، الدَّيْن والإصلاح الاقتصادي: تحليل نظام السيسي

People walking on Muizz street, Cairo (2017). Image by aaelrahman89 via Shutterstock. People walking on Muizz street, Cairo (2017). Image by aaelrahman89 via Shutterstock.

القمع، الدَّيْن والإصلاح الاقتصادي: تحليل نظام السيسي

By : Abdel-Fattah Barayez عبد الفتاح برايز

كشفتْ التطورات التي شهدتْها مصر في أيلول\سبتمبر مزيجاً غريباً من القمع الشديد وعنف الدولة من ناحية وهشاشة واضحة للنظام من ناحية أخرى. وظهر الممثل والمقاول محمد علي، الذي انقلب إلى ثوري، في سلسلة من الفيديوهات على اليوتيوب فضح فيها ما زعم أنها صفقات فاسدة تورّط فيها مسؤولون عسكريون كبار في نظام عبد الفتاح السيسي. وقد حظيتْ الفيديوهات بمشاهدات واسعة وغذَّتْ الجدل السياسي بين المصريين، والذي تمحورَ حول الدور الاقتصادي للجيش والفساد، وسوء إدارة الأموال العامة. ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى علّق السيسي على هذه المزاعم، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، مؤكِّداً كثيراً منها ومعترفاً ببناء القصور الرئاسية، والتي اعتبرها نوعاً ما لصالح مصر ومن أجلها. وبعد أسبوع، خرجت تظاهرات نادرة معادية للنظام في عدد من المدن بينها القاهرة. وكان رد فعل النظام قاسياً واعتقلَ المئات من المحتجين، هذا إذا لم يكن الآلاف (وعلى ما يبدو اعتقل عابري السبيل أيضاً). واشتدّتْ الحملة وتوسَّعت كي تشمل عشرات الناشطين وأعضاء الأحزاب المعارضة وأساتذة الجامعات. وبعد أسبوع، وبالرغم من دعوات محمد علي لمزيد من المظاهرات، لم يخرج أحد تقريباً. انجلت العاصفة وخرج النظام على ما يبدو سالماً، لكن هل فعلاً خرج سالماً؟

أقول إن أحداث أيلول\سبتمبر 2019 كشفتْ تماماً عجز النظام عن مأسسة سلطته بالرغم من مرور ست سنوات على وجوده في السلطة، وبالرغم من جميع المحاولات السابقة لجعل حكمه طبيعياً من خلال إصدار دستور ثم تعديله، وتشكيل برلمان والقيام بحملتين انتخابيتين للرئاسة (ولو أنهما كانتا تحت السيطرة إلى حد كبير). ولم يخدم القمع الشديد وعنف الدولة في أعقاب انقلاب 2013 كوضعين ضرورين لتأسيس نظام استبدادي جديد بعد فترة من الجيشان والفوضى الثورية. وبعد مرور ست سنوات لم يتمأسس النظام ولم تصبح الحياة طبيعية في ظل حكمه. ذلك أن القمع الشديد وواسع الانتشار وضْعٌ ضروري للاشتغال الروتيني للنظام.  إلا أن القمع وعنف الدولة لم يكونا أوضاعاً تأسيسية، بل تحوّلا إلى أوضاع يومية للحكم كما أشار جوشوا ستاتشر Joshua Stacher في مقال نشره في 2015. وفي الحقيقة، ما حصل هو أن القمع لم يشتدّ فحسب، بل اتسع نطاقه أيضاً مع مرور الوقت. وما بدأ في البداية كإجراءات ضد منظمات وشبكات المعارضة السياسية (على نحو رئيسي الإخوان المسلمون وحلفاؤهم) توسع في الحال كي يشمل جماعات المجتمع المدني والإعلام الخاص والمستقل والمجال العام، وليس المجال السياسي فحسب.

صار القمع مفيداً بعد فرض إجراءات التقشف، وخاصة بعد تبني البرنامج الذي يُشرف عليه صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني\نوفمبر 2016. وتمكّنت الحكومة من تنفيذ دورات خفض الدعم على الوقود والغذاء، ورفع أسعار الخدمات العامة وفرض ضرائب استهلاك من خلال توظيف الآلة القمعية ذات الفعالية العالية ضد دوائر اجتماعية أكبر لم يكن معظمها سياسياً، أو معارضاً للنظام. وشمل القمع كثيراً من ميادين السياسة بما فيه الاقتصاد وحتى السياسة الخارجية (مثلاً التنازل عن جزيرتيْ البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية في 2015) وهدف أيضاً إلى إخضاع مجموعات اجتماعية أحدث وأكبر. وبعد البدء بإعادة الهيكلة الاقتصادية استهدف عنف الدولة فقراء المدن والطبقات الوسطى المُفْقَرة من أجل تحطيم مقاومتهم وللتحكم بأي عمل جماعي محتمل. وتجلّى هذا لأول مرة في رفع أسعار مترو القاهرة في أيار\مايو 2018، الذي أثار بعض الاحتجاج وجُوبِه بنشر الشرطة في محطات مترو أساسية. حمل هذا التوظيف للعنف طابعاً سياسياً كما حدث بعد تمرير قوانين التقشف غير الشعبية. ويجب التفريق بينه وبين القمع الاجتماعي الذي كانت الدولة منخرطة فيه عادة في مصر ضد الجماعات الريفية والمدينية المهمشة كجزء من إعادة تدعيم الهرمية الاجتماعية والنظام العام. على العكس، إن القمع السياسي يستهدف معارضة أفعال الدولة بشكل علني (أو غياب الفعل لديها)، وهذا عنصر غائب بشكل كبير في القمع الاجتماعي. وإذا عبّرنا عن الأمر ببساطة، صار قمع الدولة على نحو متزايد النوع الجديد من العلاقات بين الدولة والمجتمع في ظل النظام الحالي. وتعكس مركزية القمع والعنف المأْسَسَة السطحية للنظام. ويشيرُ مصطلح المأسسة، كما يُعَرَّف في أدبيات العلوم السياسية للتيار السائد، إلى سيرورة لوضع قواعد رسمية وغير رسمية لممارسة السلطة داخل أجهزة الدولة وكذلك بين الدولة والمجموعات الاجتماعية. واعتُقِد أن المأسَسة ستجعل ممارسة السلطة أمراً روتينياً وطبيعياً، وتقود تحويل القوة السياسية إلى سلطة، والتي تعمل بسلاسة أكبر ولجوء أقل إلى القوة. وكما قال نيكولو مكيافيلي منذ قرون كثيرة في كتابه الأمير إن الأفعال الأولية للعنف واغتصاب السلطة والجريمة وأفعال القوة الأخرى تضع الأسس للفعل الاستبدادي. ففي الفصل الثامن الذي يحمل عنوان "حول أولئك الذين حصلوا على الأمارة من خلال الخبث والشر"، كتب ماكيافيلي:

وهنا يجب أن نشير أنه حين يقوم المغتصب بالاستيلاء على دولة يجب عليه أن يدرس بدقة كل تلك الإصابات التي من الضروري بالنسبة له أن يُحدثها، وأن يحدثها كلها في ضربة واحدة كي لا يضطر إلى أن يكررها كل يوم، وهكذا إذا لم يزعزع الرجال لن يتمكن من أن يطمئنهم، ويربحهم من خلال الفوائد.  إن من يتصرف بخلاف هذا، إما بسبب الجبن أو النصيحة الشريرة، مجبر دوماً على إبقاء السكين في يده، ولا يستطيع أن يعتمد على أتباعه ولا يستطيعون هم ربط أنفسهم به، بسبب أخطائهم المتواصلة والمتكررة.

جرتْ العادة أن يكون التحدي الرئيسي هو تحويل القوة إلى أشكال أكثر "شرعية" من السلطة من شأنها أن تجيز استخدام القوة كاستثناء وليس كقاعدة في الممارسة اللاحقة للسلطة. ويبدو أن النظام في مصر لم يصل إلى هذه النقطة. ومن غير المحتمل أيضاً أن يصل إليها في أي وقت في القريب العاجل بسبب الديناميات الاقتصادية والسياسية العاملة. فقد كشفت الأزمة الأخيرة هذا بشكل واضح تماماً. ولا يبدو أن هناك وسطاء فاعلين أو شبكات أو آليات في حالة عمل كي توجّه رسائل أو موارد مادية لدوائر اجتماعية كبيرة. وكان البرلمان غائباً من المشهد أثناء الأزمة. وكان مفتاح بقاء النظام هو التلاحم الشديد المتواصل بين أجهزة الدولة القمعية المسؤولة عن ممارسة العنف، وعادة كان يتم هذا في انتهاك صارخ لأي مظهر لحكم القانون أو لأي إجراء قانوني. ومن المثير للاهتمام أنه حين بدت الأمور مضطربة تماماً بعد أسبوع من مظاهرات يوم الجمعة، ظهر السيسي مع بضعة داعمين قائلاً أنه لا شيء يستدعي القلق، وأنه إذا استدعى الأمر سيطلب من المصريين أن يخرجوا إلى الشوارع كي يمنحوه تفويضاً آخر. كان السيسي يشير إلى التفويض الأول  في تموز\يوليو 2013، مباشرة بعد الانقلاب، حين تظاهر ملايين المصريين دعماً له ضد "إرهاب محتمل" من داعمي الإخوان المسلمين. إن ذكر السيسي لأداة من خارج المؤسسة والدستور بعد ست سنوات كمصدر مطلق للسلطة في أوقات التهديد المتفاقم، يكشف تماماً الفشل في مأسسة النظام على الأقل بطريقتين:

أولاً، جاءت هذه الدعوة بالرغم من حقيقة أن السيسي انتُخِبَ مرتين وقام بتعديل الدستور من خلال استفتاء "عام" وأغلبية ساحقة في البرلمان كي يتمكن من تمديد حكمه أكثر من فترتين رئاسيتين. إن الملاحظة الأخرى ذات الصلة هي أن الدعوة إلى مظاهرات حاشدة بدت كأنها تنتمي إلى فترة أسبق ويمكن حتى أن تكون مناقضة للجهود المعتبرة والمتواصلة التي بذلها التحالف الحالي لأجهزة الدولة القمعية من أجل تفريغ مجال الفضاء العام وجوه وإبعاد السكان عن السياسة بدلاً من تعبئتهم لصالحها.

لا يمتلك النظام إيديولوجيا، ولا حتى خطاباً متماسكاً حول السلطة العامة أو الأمن القومي. ذلك أنه خلق فراغاً وحرسه بغيرةٍ ممارساً القمع شديد وملاحقاً أي صوت آخر مختلف من الإعلاميين المستقلين والسياسيين (كثيرون منهم كانوا داعمين للنظام لكن لا يمكن اختزالهم إلى أبواق له) وشمل هذا أيضاً مستخدمي الفيس بوك الذين لهم أكثر من 5000 متابع.

ما من انفتاح سياسي محتمل


إن تحول مركزية العنف المتفاقم إلى وظيفة للنظام، وليس إلى مجرد أداة لبقائه في أوقات التهديد المتفاقم، يعرقل فرصاً جدية للانفتاح السياسي الجزئي. ذلك أن التحرير السياسي، مهما كان جزئياً أو تزيينياً، يتطلب مستوى من مأسسة الاستبداد يفتقر إليه الوضع الحالي في مصر. فالسلطة الحاكمة لا تملك القنوات المؤسساتية لتمثيل المصالح الاجتماعية بعامة. واتخذت بوعي قرارها بألا تحيي حزب دولة عمل منذ زمن جمال عبد الناصر كصلة بين البيروقراطية والمجموعات الاجتماعية المختلفة، مما أدى  إلى ازدياد علاقات المحسوبية والزبائنية وإنشاء وسطاء بين القيادة السياسية والمجتمع. وقد أظهر العقد الأخير من حكم مبارك مشكلة متزايدة في جذب هؤلاء الوسطاء وإبقائهم قيد الفحص. وشهد الحزب الوطني الديمقراطي تفككاً كبيراً قبل سنوات من ثورة 2011. ويبقى من الصعب جداً للنظام الحالي أن يجد أشخاصاً يملأون صفوف حزب دولة آخر بينما يبقيهم في الصف وينسق مصالحهم. إن التحدي الآخر هو العثور على موارد كافية للحفاظ على شبكات المحسوبية في حال إنشاء وسطاء كهؤلاء. ذلك أن المصادر المتاحة، والتي هي أكثر ندرة بكل تأكيد مما كانت عليه في العقد الأخير من حكم مبارك، وُضعت في خدمة تمتين التحالف الحاكم، داخل وبين أجهزة الدولة القمعية. وعنى هذا غالباً  حصة أكبر لأجهزة الدولة تلك، وأولئك المحسوبين عليها رسمياً وبشكل غير رسمي، من الكعكة الصغيرة (بسبب التقشف وانخفاض قيمة العملة والأزمات المالية المزمنة)، والتي صارت عنصراً إضافياً في الخلاف كما كشفت الأزمة الأخيرة التي أثارها محمد علي. إن العائق السابق مؤسساتي يتعلق بالخيارات التي اتُخذَتْ في منعطفات سابقة حاسمة وجعلت هذا النظام يبدو بشكل متزايد مشابهاً لأنظمة أميركا اللاتينية (قصيرة العمر غالباً) البيروقراطية والاستبدادية في الستينيات والسبعينيات. ثمة عائق وظيفي آخر يتواشج مع الاستخدامات المتعددة للقمع يجعل من الصعب جداً الآن التكيف سياسياً واقتصادياً مع جرعات أصغر أو ممارسة للقمع مكبوحة أكثر. المثال على ذلك هو إعادة إدماج مصر في الاقتصاد العالمي من خلال ديون خارجية كبيرة منذ 2016. بدأت مصر تسلك هذا الطريق بعد صفقة صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني\نوفمبر 2016، التي قدمت لمصر قرضاً من 12  بليون دولار كجزء من حزمة تمويل تبلغ 21 بليون دولار في غضون ثلاث سنوات. سيقوم النظام المصري بتأمين استقرار للاقتصاد الكلي من خلال إدخال إجراءات غير شعبية تتضمن خفض الدعم، وتجميد أجور القطاع العام، وخفض قيمة الجنيه المصري، ورفع ضرائب الاستهلاك وخصخصة المرافق العامة. كانت هذه الإجراءات التي اشترطها صندوق النقد الدولي جوهرية لرفع الدَّيْن في الأسواق المالية العالمية. دعم صندوق النقد الدولي "الإصلاحات السياسية" المصرية، التي ترجمتها وكالتا موديز وإس آند بي (ستنادارد أند بورز)، وآخرون إلى تصنيف أفضل نسبياً من ناحية القدرة على التسديد بطريقة خفضت كلفة الاقتراض للدولارات التي هناك حاجة ماسة إليها. أرسلت هاتان الوكالتان الإشارات الصحيحة إلى المستثمرين الخاصين في الأسهم، والراغبين بالقيام بالمجازفة المحسوبة بالاستثمار في دين مصر الخارجي المتنامي من خلال شراء عقود وفواتير حكومية، صادرة بالدولار وأحياناً بالجنيهات المصرية. وكان حجر أساس هذه الدورة الكاملة هو القدرة المتواصلة للنظام على تمرير ودعم إجراءات تقشف غير شعبية، وهذا لا يمكن أن يُنجز إلا من خلال إعادة توظيف القمع في مجالات السياسة الاقتصادية ضد دوائر اجتماعية أوسع كما شرحنا سابقاً. وهذه الصيغة لم تعمل في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى الأقل استبدادية مثل الأردن والمغرب، ناهيك عن ذكر تونس.

إن الانتعاش الاقتصادي المصري المعتمد على الديون لا يعني فقط أن القمع وسيلة للاستقرار الأمني للنظام (لكن ليس المأسسة) بل يعني أيضاً أنه شرط لإعادة تعريف موقع مصر في الاقتصاد العالمي. كان الدين الخارجي يتنامى بنسب عالية جداً في الأعوام الثلاثة الماضية. وجذبت مؤشرات الاقتصاد الكلي الأفضل ديوناً أكثر من الاستثمار الخارجي المباشر، والذي لم يصل أبداً إلى مستويات ما قبل 2008. وليس من قبيل المبالغة القول أنه على عكس العقد الأخير من حكم مبارك وفريقه الاقتصادي النيوليبرالي، تم إعادة إدماج مصر من خلال الديون وليس من خلال الاستثمار الأجنبي. وهذا نقيض كامل ودقيق للفترة المبكرة الأولى (2004-2009).  فقد كان الدين الأجنبي راكداً في ظل مبارك ولوحظ انحدار للناتج الإجمالي المحلي بينما حلق صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات لا مثيل لها في تاريخ مصر الاقتصادي المعاصر. وكان يحدث عكس ذلك منذ 2016. إن القمع جوهري جداً لإبقاء كلفة الاقتراض منخفضة ولضمان المدخل إلى الاقتراض من أجل تلك المسألة. وهذا عائق وظيفي في وجه أي انفتاح سياسي، حتى لو كان جزئياً وتجميلياً. فضلاً عن ذلك، يزيد من العجز عن المأْسَسة الذي عانى منه النظام منذ محاولته للقيام بذلك في منتصف 2013.

أختتم بالقول إن عنف وقمع الدولة في مصر برهنا أنهما ليسا أداتين تأسيسيين لنظام استبدادي جديد. بل صارا أداتين لتشغيل النظام. وازداد نطاق ووزن ووظائف القمع فحسب في الأعوام الستة الماضية. وتطور هذا بشكل مترافق مع عجز النظام عن مأسسة قوته، داخل بيروقراطية الدولة الواسعة وأيضاً في إدارة علاقات المجتمع والدولة. إن الخيارات التي اتُخذتْ في 2013 و2014 استجابة للتحديات والفرص جعلت بالتالي القمع أكثر مركزية  ليس فقط للتماسك الداخلي للنظام من خلال تحالف محكم وصغير من الأجهزة القمعية، بل أيضاً لإعادة إدماج اقتصاد مصر في الأسواق المالية العالمية من خلال الديون. تمخّض هذا بدوره عن عوائق مؤسساتية ووظيفية في وجه أي انفتاح سياسي جزئي يمكن أن يمكّن النظام من احتواء التوتر الاجتماعي السياسي المتصاعد أو إدخال المزيد من التعددية.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬